النيل لم يكن مجرد نهر بل شريط من الحياة يربط بين الصحراء والسماء، ويعكس على صفحته ألوان الغروب وأحلام الشرق، وهو ما نراه فى مشاهد النيل عند وقت الفجر كما رسمها البريطانى جون فريدريك لويس، الذى عاش سنوات فى القاهرة يتأمل النيل والمراكب التى تبحر فى صمت والسحب التى تلامس قمم المآذن، أو نستشعر بحضوره فى أعمال إدوارد لير الذى أبحر فى النيل حتى وصل إلى بلاد النوبة، وسجل بلوحاته أجواء القرى والمراكب الشراعية فى ضوء النهار الدافئ.
على ضفاف النيل، حيث يمر الماء كقصيدة أبدية تنبض بالحياة منذ فجر التاريخ، نشأ عيد فريد لا يشبه أى عيد آخر، ارتبط عند المصرى القديم بمواسم الفيضان، أطلقوا عليه عيد «وفاء النيل»، وجعلوه معبودًا للحياة ومانحًا للخصب، كرّسوا له طقوسًا تحتفى بالماء الذى صنع الحضارة، ونظروا إلى فيضانه بأنه موعد مع الحياة والخصب والنماء، وخافوا من انحساره الذى يترك بعده الجفاف والجدب، لم يكن بالنسبة لهم مجرد مجرى مائى بل هو كائن حى، صديق وأب وأسطورة، جسّدوه فى الإله «حابي» الذى حمل بين يديه أوانى ملأى بالماء والنباتات رمزًا للعطاء الأبدى. وعلى مدار السنين ظل النيل شريان الحياة، وبفضله قامت واحدة من أعرق الحضارات الإنسانية، واليوم لا يزال المصريون يحتفون بفيضه خلال شهر أغسطس من كل عام امتنانًا بنعمة النهر الخالد، وتعبيرًا عن عمق العلاقة بين الإنسان والماء، وبين الحضارة والطبيعة.
«أنا النيل.. ماؤك حياة.. ووفائى عهد لا ينقطع...»، تلك كلمات «حابي»، رب الفيضان، كما ترددت فى الميثولوجيا المصرية القديمة تجسيدًا لفيضان النيل السنوي، لم يكن إله النهر، بل قوة فيضانه التى تجدد الأرض كل عام، جسّده المصرى القديم على هيئة رجل ممتلئ البطن والصدر رمزًا للوفرة، فوق رأسه نبات البردى التى ترمز للدلتا أو زهرة اللوتس رمزا للصعيد، وأحيانًا يربط كليهما فى إشارة لوحدة مصر العليا والسفلى، وفى موسم الفيضان، يقدم له المصريون القرابين من الخبز والثمار والزهور، ويرددون أناشيد تمجده: «يا حابي.. يا من تروى الحقول وتجعل البيوت فى فرح...».
وما بين أسطورة «حابي» الذى يجلب الخير، وأبيات الشعراء، وأغنيات المراكبية، ولوحات المستشرقين، وكتب العلماء، ومواكب الاحتفالات الشعبية، يبقى النيل هو المعنى العميق لوفاء المصريين لنبع حياتهم، هم خصصوا له عيدا يحمل اسمه مقرونا بالوفاء، عيد «وفاء النيل» عبر مختلف العصور المصرية القديمة، كانوا يراقبون مياهه بقلوب واجفة، وكان الفيضان السنوى للنهر هو الحدث الأهم فى حياتهم، ينتظرون أن يبلغ المستوى الذى يبشر بموسم خير، يحدد مصير المحاصيل ووفرة الغذاء، وكانت الاحتفالات مرتبطة بتقديم القرابين والدعاء للآلهة كى يفيض النهر بالعطاء، لذا كان لا بد لهن أن يمنحوه قدسية خاصة ويبتكروا له طقوسا احتفالية تلائم عظمته، بعدما ارتبطت حياتهم بالنيل ارتباط الروح بالجسد، ومع مرور الزمن تحوّل الطقس إلى عيد شعبى رسمى يتجدد كل عام ليجمع بين الطابع الدينى والبهجة العامة، واليوم لا تزال مصر تحتفى بالنهر بشكل يمتزج فيه التراث والحداثة، ليس كمجرد عيد، بل عهد أبدى بين مصر ونهرها الخالد، حتى إن أساطيره باتت مرويات يتناقلها جيلا بعد جيل ليظل حاضرا فى الوجدان.
مَن منا لا يتذكر قصائد الأدب العربى التى احتفت بالنيل، أبيات أحمد شوقى أمير الشعراء: «النيل نجاشى حليمٌ مدمعُ» يرددها الصغار قبل الكبار بعد أن وصفه بنهر الحكمة والخلود، وشاعر النيل حافظ إبراهيم تغنّى به قائلًا: «كم ذا يكابد عاشق ويلاقي» وهو يتأمل صفحة مياهه، كما قال فيه: «كم ذرةٍ فيك من خيرٍ ومن عملٍ.. تروى البلادَ وتُحيى الأرضَ والنَّسَما»، فيما وصفه شعراء العامية بأغنيات القلوب ورفيق المراكبية، وكان النيل فى المخيلة الشعرية انعكاسا للوطن والحياة والحنين، ورآه الشاعر صلاح عبدالصبور رمزا للصفاء والصبر، بينما تغنى به عبدالرحمن الأبنودى بلسان الفلاحين، كأنه قريبهم وجارهم، يسقى زرعهم ويشاركهم الحياة.
واليوم، لم يعد وفاء النيل مجرد استدعاء للماضي، بل منبر للتوعية البيئية، فالاحتفالات تحمل رسائل عن ترشيد استهلاك المياه والحفاظ على نظافة النهر باعتباره المورد الأهم فى مواجهة تحديات المستقبل، خاصة أن الدكتور رشدى سعيد أوضح فى كتابه «نهر النيل: نشأته واستخدام مياهه فى الماضى والحاضر والمستقبل» أن النيل صانع الأرض والحضارة المصرية، وموارد مياهه محدودة، مما يحتم على المصريين إدارتها بحكمة، قائلا :«النيل ليس فقط هبة من الطبيعة، بل هو مسئولية حضارية تحتم علينا الحفاظ عليه».
لذا حرصت الدولة المصرية على القيام بعدد من المبادرات بحلول منتصف شهر أغسطس، موعد عيد وفاء النيل، وحاولت من خلالها صون التراث المادى والمعنوي، حيث أولت وزارة الثقافة اهتمامًا خاصًا بإحيائه عبر تنظيم برنامج ثقافى وفنى موزع بين القاهرة والمحافظات النيلية، ويتضمن عروضا فنية وموسيقية مستوحاة من ألحان التراث المصرى القديم، وأغانى الفلاحين والنيل، ومعارض تشكيلية وصور فوتوغرافية تجسد جمال النهر ومراحله المختلفة عبر الفصول الأربعة، ندوات ثقافية وتاريخية يحاضر فيها علماء الآثار والمؤرخون عن رمزية النيل فى الحضارة المصرية، إلى جانب إقامة ورش للأطفال والشباب لتعليم الرسم والحرف اليدوية المرتبطة بالنهر والحياة الريفية.
«النيل ليس مجرد نهر، بل هو مدرسة للفنون والإبداع وشاهد على الحضارة المصرية»، هكذا وصفه د. أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، لدى إعلانه عن التعاون مع عدد من الوزارات والمؤسسات الوطنية، حيث قررت وزارتا الثقافة والسياحة والآثار بدء تعاون مشترك لتحويل ذكرى عيد «وفاء النيل» إلى حدث ثقافى وسياحى يُبرز مكانة النيل فى وجدان المصريين ويعزز من الهوية الوطنية، وذلك فى إطار مبادرة «النيل عنده كتير.. لعزة الهوية المصرية» التى أطلقها وزارة الثقافة، وبدأت أولى خطوات التعاون بإطلاق فعاليات احتفالية موسعة خلال الفترة من 13 إلى 15 أغسطس 2025 تتضمن أنشطة فنية وتوعوية فى مواقع ثقافية وأثرية وسياحية متعددة، إلى جانب إشراك المنشآت الفندقية والسياحية، حيث رحب شريف فتحى، وزير السياحة والآثار، بتوفير كافة الدعم لهذه المبادرة بكل ما تمثله من أهمية فى إحياء التراث الثقافى المرتبط بنهر النيل وتعزيز مشاعر الانتماء الوطنى خاصة بين الأجيال الجديدة.
الاحتفاء بالنهر العظيم هذا العام سيتخذ أشكالا مختلفة تحمل رؤية، تستهدف «ترسيخ الهوية الوطنية وتحويل المناسبة إلى عنصر جذب ثقافى وسياحي» يعبر عن امتداد الحضارة المصرية، حيث تشارك الفنادق العائمة أو المطلة على ضفاف النيل بإطلاق صافرات احتفال كل ساعة من الرابعة عصرًا حتى منتصف الليل يوم الجمعة الموافق 15 أغسطس، مع الحرص على تصميم قوائم طعام مستوحاة من التراث المصري، أو تصميم المأكولات على شكل زهرة اللوتس أو عروس النيل، أو تزيين الأطباق بعبارات مثل «وفاء النيل»، وذلك: «تعبيرًا عن التقدير لقيمة النيل كرمز للحياة والتاريخ والحضارة المصرية»، على حد تعبير المهندس أحمد يوسف، رئيس الهيئة العامة للتنشيط السياحى ومساعد الوزير لشئون الإدارات الاستراتيجية، الرئيس التنفيذى للهيئة المصرية العامة للتنشيط السياحى.
كما تقوم الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة اللواء خالد اللبان بتنظيم عدد من فعاليات والأنشطة الثقافية والفنية المكثفة فى محافظات إقليم غرب ووسط الدلتا، والتى تشمل محافظات: الإسكندرية، البحيرة، الغربية، مطروح، والمنوفية، وتتنوع الفعاليات بين ندوات تثقيفية، ورش إبداعية، وأنشطة فنية للأطفال والشباب، بهدف تعزيز وعى الأجيال بقيمة النيل وأهمية الحفاظ عليه كمصدر للحياة ورمز للتاريخ والكرامة، وتتناول الفعاليات أهمية النيل ودوره فى الحضارة المصرية، بالتعاون مع عدد كبير من الوزارات ومؤسسات الدولة، ومن أبرزها: ورش فنية، وأمسيات شعرية تستعيد رمزية النيل فى الأغنية المصرية والموروث الشعبي، إلى جانب عروض فنية تشمل فقرات مستلهمة من التراث، ومسابقات ثقافية للأطفال، وورش حكى لنشر ثقافة الحفاظ على المياه وترشيد استهلاكها.
تلك الحالة الإنسانية التقطتها أعين الفنانين المستشرقين منذ أن وطأت أقدامهم أرض مصر فى القرن التاسع عشر، النيل لم يكن مجرد نهر بل شريط من الحياة يربط بين الصحراء والسماء ويعكس على صفحته ألوان الغروب وأحلام الشرق، وهو ما نراه فى مشاهد النيل عند وقت الفجر كما رسمها البريطانى جون فريدريك لويس، الذى عاش سنوات فى القاهرة ليتأمل النيل والمراكب التى تبحر فى صمت والسحب التى تلامس قمم المآذن، أو نستشعر بحضوره فى أعمال إدوارد لير الذى أبحر فى النيل حتى وصل إلى بلاد النوبة، وسجل بلوحاته أجواء القرى والمراكب الشراعية فى ضوء النهار الدافئ.
«من أجل ترسيخ الوعى بالهوية والانتماء»، وذلك طبقا لتعبير د. وليد قانوش، رئيس قطاع الفنون التشكيلية فى وصفه لدور الفن التشكيلى كأداة فاعلة فى التعبير البصرى عن رموز الوطن والقيم الحضارية، حيث يشارك عدد من الفنانين التشكيليين الذين ينتمون إلى مختلف المدارس الفنية بأكثر من خمسين عملًا فنيًا، تتناول النيل برؤى تشكيلية متنوعة ومظاهر الحياة المرتبطة به.
وإن ظل صوت فيروز، وهى تشدو بألحان الرحبانى تتغنى للنيل كرمز للجمال والحنين والدفء، يأسر القلوب المفعمة بالشوق والسكينة، وتقول فيها :
“ بيتُنا فى الجزيرةْ .. على ضِفاف النيلْ
أفياءُهُ الوفيرةْ .. ينسُجُها النخيلْ
شُبّاكُه مُوَلَّهْ .. بالفُلُك المُطِلَّةْ
مقبلةً من معبرٍ بعيدْ
تمرُّ مِن أمامى .. بيضاءَ كالغَمامِ
أجنحةً فى مَوكِبٍ سعيد
بيتنا فى الجزيرةْ .. على ضِفاف النيلْ
جَنَّتُهُ الصغيرةْ .. حِمى هوىً جميلْ
يا فُلُكًا تَجِيءُ .. وقُربَنا تَفِيءُ
تَحكى عن المَسَالِكِ الطِوالْ
أنتِ مع الصباحِ .. أغنيةُ الرياحِ
وقصّةَ الخيراتِ والغِلالْ».


