تعددت تقارير الأمم المتحدة التى تحذر من مغبة استخدام التجويع كسلاح فى الحرب التى أشعلتها إسرائيل فى قطاع غزة، ولهذا بادرت منظمات أممية ووصفت مواقع توزيع المساعدات بأنها مصائد موت سادية وسط اتهامات لإسرائيل باستخدام التجويع كسلاح حرب ، وتشير أحدث تقارير الأمم المتحدة إلى أن الوضع الغذائى فى القطاع وفق التصنيف العالمى بلغ المرحلة الكارثية مع انعدام الأمن الغذائى وهى أعلى درجات التصنيف التى تؤكد الوصول إلى خطر المجاعة، ولم يأت هذا التقدير جزافا، وإنما جاء وفقا للتقييم الصادر فى شهر مايو الماضى والذى أظهر أن نحو أربعمائة وسبعين ألف شخص، أى ما يعادل ربع سكان قطاع غزة يعانون من جوع كارثى، بينما يعيش باقى السكان بين مرحلتى الأزمة والطوارئ الغذائية.
ولهذا يمكن القول إنه فى ظل هذا الواقع القاتم يواجه سكان القطاع معركة مزدوجة تجمع بين النجاة من القصف الذى سلطته إسرائيل على غزة، والبحث عن لقمة عيش مفقودة، وهو الوضع الذى حدا برئيس مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية فى الأراضى الفلسطينية إلى أن يقول: (إن ما تشهده غزة ليس مجرد جوع، بل سياسة تجويع مدروسة فرضها الكيان الصهيونى على القطاع)، ولقد وثق ذلك شهادات من منظمات دولية تصدرتها (أوتشا، والأونروا، وأوكسفام، وأنقذوا الأطفال)، والتى أشارت إلى أن أكثر من تسعين فى المائة من سكان القطاع يعيشون فى وضع مزر يضطرون معه إلى مواجهة حادة من أجل تأمين لقمة العيش، وأن الآلاف من الأطفال باتوا عرضة للوفاة بسبب نقص الغذاء والدواء فى وضع إنسانى بائس من صنع البشر.
هذا الوضع البائس حدا بالباحث «آليكس دى وال» إلى أن يعرض له فى كتابه: (المجاعة الجماعية: تاريخها ومستقبلها)، ويتحدث فيه عن أن المجاعات المعاصرة غالبا ما تكون نتاج قرارات سياسية وعسكرية متعمدة، وليست نتيجة نقص طبيعى فى الغذاء)،كما أن تقارير «مجلس الأمن الدولى»، ومنظمة «هيومان رايتس ووتش»، و«برنامج الأغذية العالمى» تؤكد أن الحصار والتجويع أصبحا استراتيجيات عسكرية ممنهجة تستخدم لإخضاع المجتمعات عبر تدمير منظومة حياتها اليومية، وليس مجرد آثار جانبية للحرب، غير أن إسرائيل فى معرض الدفاع عن نفسها تقول بإن هدفها ليس عقاب السكان المدنيين وإنما هدفها الحقيقى هو منع حركة حماس من استخدام الموارد كالطعام والدواء لأغراض عسكرية، أو كغطاء للنشاطات الإرهابية تتبناها، وفى الوقت نفسه نفى «نتنياهو» أن تكون هناك سياسة تجويع مقصودة ضد المدنيين، واعتبر الاتهامات التى تلصق بإسرائيل هى محض أكاذيب وافتراءات، مؤكدا أن ما تهدف إليه إسرائيل فى هذا المجال هو منع وصول الموارد إلى حماس وليس معاقبة السكان، أما الجيش الإسرائيلى فاعترف بوجود قيود مشددة على دخول المساعدات، وأكد أنه حريص على أن يتحقق من الاستخدام الأمنى للمساعدات، ونفى أن تكون هناك أية أوامر بإطلاق النار على المدنيين الباحثين عن المساعدات.
ولا شك أن قرار مجلس الأمن رقم 2417 الصادر فى عام 2018 قد شكل اعترافا دوليا بأن الجوع لم يعد أزمة إنسانية فقط بل يعد جريمة ترتبط ارتباطا وثيقا بالنزاع الذى قد ينشب، ومع ذلك يقول أحد المؤرخين والباحثين: (إن الإفلات من العقاب وغياب الإرادة السياسية للمحاسبة تمنح الجناة غطاء للاستمرار فى استخدام هذا السلاح الصامت الذى يفتك بالأمل والحياة فى المكان المنكوب)، كما أن التجويع حين يكون منظما يعد عندئذ جريمة مدانة فى القانون الدولي، ويصنف ضمن أساليب الإبادة الجماعية بحسب الاتفاقات الدولية.
لقد استخدم التجويع عبر التاريخ كسلاح لـ«إخضاع الشعوب كما حصل فى جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى، وفى مجازر الأرمن والآشوريين، واستخدم لاحقا فى البوسنة والهرسك»، وفى كل حالة كان الهدف تفكيك النسيج المجتمعى، ودفع السكان إلى النزوح أو الخضوع القسرى، وإذا عرضنا للتجويع من منظور تاريخى فإن التجويع لا يستخدم فقط كأداة قتل بل كوسيلة لإعادة رسم الجغرافيا السكانية والسيطرة على القرار السياسى للسكان،
فيما إذا بحثنا عن معنى التجويع فى الحرب لرأينا أنه الاستخدام المتعمد لحرمان السكان المدنيين من الغذاء والماء بهدف الضغط على الجهات المسئولة عنهم، سواء أكانت منظمات أو دولى، وإجبارها على الخضوع سياسيا أو عسكريا، وتشمل تدمير المحاصيل والماشية كما حدث فى حرب السودان وفى أوكرانيا السوفييتية، كما تشمل منع أو تأخير دخول المساعدات الإنسانية كما وثق مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فى تقريره عن غزة وتيغراى (2023 ــ 2024)، واستخدام البنية التحتية الزراعية ومصادر المياه، وفرض الحصار العسكرى أو الاقتصادى، وتهجير المزارعين أو السيطرة على أراضيهم بالقوة، والسيطرة على الغذاء كأداة للسيطرة على الأرض والسكان.
ونتساءل هنا عما يقوله القانون الدولى، حيث تشير دراسات اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن التجويع يصبح سلاحا عندما يستخدم لإحداث ضرر مباشر على المدنيين من خلال تعطيل منظومة الغذاء، وليس نتيجة عارضة للنزاع، أما المناحى الأخرى للقانون فنجد أنه موجود، ويتم التعامل من خلاله، ففى إطار القانون الدولى هناك عدة اتفاقيات تحظر استخدام التجويع كسلاح، وتحذر من التعامل معه فى أى حرب.
اتفاقيات جنيف من عام 1949، والبروتوكول الإضافى الأول لعام 1977 حيث يحظر معهما استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب وخاصة ضد المدنيين.
نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998 حيث يعتبر تجويع السكان المدنيين عمدا جريمة حرب إذا كان يتم عبر منع الإمدادات الضرورية لبقائهم.
قرار مجلس الأمن 2417 عام 2018 ، حيث يدين استخدام الجوع كسلاح، ويربط بين الصراعات المسلحة وانعدام الأمن الغذائى وخطر المجاعة.
كما أن القانون الدولى يحرم استخدام التجويع كسلاح حرب، ويعتبره جريمة ضد الإنسانية خاصة عند حرمان المدنيين من الغذاء والدواء كما يحدث فى غزة اليوم من حصار وتجويع ممنهج، فهذه الانتهاكات تعد جرائم حرب حسب اتفاقيات جنيف، ونظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية.
