رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

مصر تدفع ثمن حرب غزة اقتصاديًا.. وتواصل تخفيف المعاناة.. القاهرة.. أكبر من مؤامرات الابتزاز


8-8-2025 | 01:08

.

طباعة
بقلم: د. عبد المنعم السيد

منذ اللحظة الأولى لإعلان قيام دولة الاحتلال الإسرائيلى عام 1948، كانت مصر فى مقدمة الدول التى حملت لواء الدفاع عن فلسطين، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وشعبيًا.. لم تكن فلسطين بالنسبة للمصريين مجرد جارٍ عربي، بل امتداد للأمن القومى المصري، وركن أصيل فى معادلة الكرامة والهوية القومية.

 

خاضت مصر ثلاث حروب رئيسية ضد إسرائيل (1948 – 1956 – 1967)، ثم خاضت حرب العزة والكرامة فى أكتوبر 1973، وسقط آلاف الشهداء المصريين على تراب فلسطين وسيناء.. كما تحمّلت الدولة المصرية إدارة قطاع غزة من عام 1948 حتى 1967، وتبعاته الأمنية والسياسية والاقتصادية.. ولم تتوقف تلك التضحيات عند الجهد العسكري، بل امتدت إلى الرعاية السياسية والدبلوماسية لكل مفاوضات أو هدنات أو مصالحات بين الفصائل الفلسطينية، خاصة منذ استرداد سيناء وتوقيع اتفاقية السلام.

ومع اندلاع الحرب الدموية الأخيرة على غزة فى 7 أكتوبر 2023، دخلت مصر من جديد فى مرحلة استنزاف شامل – اقتصاديًا وإنسانيًا وأمنيًا – نتيجة تمسكها بموقفها الأخلاقى والتاريخى تجاه القضية الفلسطينية، ورفضها التام لمخططات تهجير الفلسطينيين إلى أراضيها، ولحقت بالدولة المصرية العديد من الخسائر، وتكبّدت كثيرًا من التكاليف المادية والمعنوية.

وشهدت الحرب فى 7 أكتوبر 2023 اعتداءات إسرائيلية هى الأشد على غزة، وبشكل وحشي.. وإذا تناولنا الخسائر التى لحقت بالدولة المصرية، سنجد أن إيرادات قناة السويس تأثرت بشدة نتيجة التحول إلى طرق بديلة، خاصة طريق رأس الرجاء الصالح بسبب الحرب وهجمات الحوثيين وتخوّف الكثير، كما انخفض عدد السفن العابرة بنسبة 40 فى المائة، وتُقدّر الخسائر التقديرية فى حدود 4.5 مليار دولار إيرادات مفقودة حتى يوليو 2025.

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقطاع السياحة تأثّر بشكل سلبي، حيث تم إلغاء حجوزات جماعية فى فترة من الفترات خلال الحرب، وتراجعت السياحة الأوروبية لمصر، خاصة فى شرم الشيخ ودهب وطابا، وقدرت الخسائر التقديرية فى حدود 800 مليون – مليار دولار.

أما الاستثمار الأجنبي، فبسبب حرب غزة انخفض معدل الاستثمارات عن المعدل المتوقع، حيث تم تجميد مشروعات بسبب المخاوف الإقليمية، إضافة إلى تأجيل اتفاقيات دولية وتمويلات خارجية، والخسائر التقديرية فى الاستثمارات الواردة لمصر فى حدود 1.2 – 1.5 مليار دولار.. ورغم عدم التورط العسكرى المباشر، فقد تحمّلت مصر تكاليف هائلة نتيجة تعزيزات على الحدود مع غزة، بناء تحصينات، وحدات مراقبة، تجهيز مستشفى ميداني، ومراقبة الأنفاق وتأمين الحدود.

ولم تتحمل مصر فقط خسائر وتكاليف تكبدتها خلال 21 شهرًا منذ أكتوبر 2023 وحتى يوليو 2025، بل أيضًا قامت بتقديم المساعدات الغذائية والإنسانية لإخوتنا فى غزة، وتعد مصر من أكبر الدول التى ساهمت بتقديم المساعدات والقوافل من المساعدات الإنسانية، والأدوية، والمعدات الطبية الأساسية لأهالينا فى غزة، حيث تجاوز عدد شاحنات المساعدات التى دخلت قطاع غزة خلال نفس الفترة نحو 8 آلاف شاحنة، بحمولة تزيد عن 135 ألف طن من أنواع مختلفة للمساعدات، عن طريق 35 ألف شاحنة لنقل المساعدات، كما دخلت عن طريق مصر أكثر من 10 آلاف شاحنة فى شهرين فقط.

وللتأكيد، فإن 80 فى المائة من المساعدات التى دخلت غزة كانت من مصر، كما نظّمت مصر أكبر قافلة رمضانية من رفح إلى غزة، واستقبل مطار العريش العديد من آلاف الأطنان من المساعدات الأخرى من الدول، وقامت مصر بإدخالها إلى قطاع غزة، كما قامت بإنشاء مستشفى ميدانى فى مدينة رفح المصرية، ونقل أكثر من 134 ألف فلسطينى من غزة، من مصابين وجرحى، للعلاج فى العريش والإسماعيلية والقاهرة، وتخصيص وحدات طبية وسيارات إسعاف، بالإضافة إلى إرسال أكثر من 2000 خيمة مجهزة.

وقد يغفل البعض عن البعد الاجتماعى لما تتحمله مصر من تبعات الحرب. فالشعب المصري، الذى يعيش أوضاعًا اقتصادية معقدة، لم يتردد فى دعم أشقائه فى غزة، سواء بالتبرع، أو المشاركة فى القوافل، أو احتضان الجرحى واللاجئين، هذا الدعم الشعبى لم يكن موجّهًا فقط من منظمات المجتمع المدني، بل شمل نقابات، جامعات، جمعيات أهلية، وقطاعات من الشباب المصري.. وما تقوم به مصر ليس فضلًا أو منّة نتحدث بها، ولكنه واجب مصرى تجاه أشقائنا وإخوتنا فى فلسطين، وحديثنا لإيضاح الحقيقة وما تقوم به مصر، حكومةً وشعبًا، تجاه فلسطين والشعب الفلسطينى ونصرته، والامتناع التام عن فكرة التهجير وتصفية القضية الفلسطينية على حساب مصر وسيناء.

رغم كل هذا الدور الإنسانى النبيل، تواجه مصر ضغوطًا غير مسبوقة من بعض القوى الدولية التى تحاول دفعها لقبول توطين اللاجئين الفلسطينيين أو فتح ممرات آمنة طويلة الأمد داخل أراضيها. وهذه المحاولات، وإن كانت تتم بطرق غير مباشرة، إلا أن رسائلها مفهومة: إفراغ غزة من سكانها هو خيار مطروح على الطاولة الغربية، ويجب على مصر أن «تتعاون».

لكن القاهرة، رغم كل التحديات، رفضت ذلك بشكل قاطع، إدراكًا منها أن فتح هذا الباب يعنى تهديد الأمن القومى المصرى على المدى الطويل، وضرب الحق الفلسطينى فى العودة، وتكريس سياسة التهجير القسري، وكأنها أصبحت أمرًا واقعًا.

فمصر تعمل فى صمت وثبات وسط ظروف إنسانية كارثية، من أجل إنقاذ الأرواح، والحفاظ على ما تبقى من أمل فى غزة، وإعادة القضية إلى مسارها الطبيعي: حل الدولتين، لا للتهجير ولا للتصعيد.. إلا أن المزايدة على الموقف المصرى تجاه القضية الفلسطينية جاءت من جهات ودول تحاول أن تأخذ موقع ومكانة مصر الإقليمية، وتقلل من الدور الذى تقوم به الدولة المصرية تجاه الشعب الفلسطيني.. لقد دفعت مصر من دم أبنائها، واقتصادها، واستقرارها ثمنًا باهظًا دفاعًا عن فلسطين. ولم تكن مشاركتها يومًا من منطلق دينى أو عاطفى فقط، بل من منطلق وطنى واستراتيجي، مرتبط بأمنها القومى وكرامتها الإقليمية.

وفى مواجهة حرب غزة الأخيرة، أثبتت مصر مجددًا أنها الملاذ الأخير للشعب الفلسطيني، والضامن الوحيد لأى حل سياسى واقعي، حتى وإن كانت التكلفة فادحة اقتصاديًا. لكن، برغم الخسائر، يبقى الموقف المصرى ثابتًا وغير قابل للمساومة: لا للتوطين، لا للتهجير، نعم لدولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وبالتأكيد فإن ما تقوم به مصر اليوم ليس مجرد استجابة لأزمة، بل هو استمرار لنهج طويل من التضحية والانتماء، وهى تدرك أن التاريخ لا ينسى المواقف، وأن من يقف مع الحق وقت المحنة هو من تُسند إليه القيادة وقت الحل.

إن هذا الدور لا يُقاس فقط بالأرقام، أو الشاحنات، أو بيانات الإدانة، بل يُقاس بالثبات على المبدأ، والوفاء للعهد، وتحمل الأعباء بصمت، من أجل أمة تُسلب حقوقها، وشعب يُذبح يوميًا، وأرض يُراد لها أن تُفرغ وتُمحى.. وهكذا تبقى مصر، رغم كل الجراح، السند والملاذ، البوصلة والموقف، صوت العروبة فى زمن الصمت، والدرع الأخير أمام مشاريع التهجير والتصفية.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة