ويبدو أن الجيش “كاتب” يؤثر الأناة، ويؤثر التّدبر، ويؤثر أن يضع كل كلمة فى مكانها الصحيح.. حتى إذا أراد أحد أن يحذفها ويستبدلها بغيرها.. كان نصيبه الفشل الذريع!.
وقد بدأ الجيش يكتب هذا الكتاب العظيم قبل حرب فلسطين بسنين، حين رأى رجاله أن المسيطرين عليه لا يريدون أن يصنعوا منه غير جيش للزينة: يفتح البرلمان، ويودّع المحمل، ويمشى ذليلاً فى ركاب القادرين الطغاة.. وكتم أبناء الجيش آلامهم فى أكبادهم، وأخذوا يراكمونها فى صدورهم إلى أن صارت جمرات بعضها فوق بعض.. حتى إذا كانت سنة 1947، انطلقت جمرة من هذه الجمرات، وكادت تحرق الفريق “إبراهيم عطا الله” رئيس أركان حرب الجيش حينئذ، باعتباره مسؤولاً عن ضياعه!.
وأراد المسؤولون الكبار أن يلقوا شيئًا من الرمال على الجمرات التى كانت تتقد فى صدور الأحرار من رجال الجيش، فضحّوا على مذبحهم “بإبراهيم عطا الله”، وهم يظنون أن الأمر قد انتهى!.
وذهب إبراهيم عطا الله، وجاء اسم ثانٍ وثالث.. وتعددت الأسماء.. والفساد واحد، ورأى ضباط الجيش رأيًا واحدًا أيضًا، وهو أن الأمر أضخم من أن يُسوّى بالمسكنات!.
ثم جاءت حرب فلسطين.. جاءت لتدفع الرمال بعيدًا عن الجمرات المتقدة فى صدور الضباط، وتزيدها توهجًا واشتعالاً.. كان الضباط فى هذه الحرب يبحثون عن المدفع فيجدونه تالفًا، وعن الذخيرة فيجدونها فاسدة، وحتى الأمل.. كانوا يبحثون عنه، فيُفلته منهم المفسدون!.
وأخذ الذين اكتووا بنار تلك الحرب – وهم الجيش كله – يسألون أنفسهم ويتساءلون: لماذا قرّر وزير الحربية – محمد حيدر باشا – أمام البرلمان أن الجيش مستعد لدخول تلك الحرب؟ ولأى غرض قبل الرجل على نفسه أن يخدع البرلمان فى أخطر أمر يتصل بسمعة وطن وسمعة جيش، وأرواح آلاف من أبناء الناس؟ ولمصلحة من كان يقوم بهذا الخداع؟
وارتسمت فى الجو كلمات كثيرة لإجابة واحدة، هي: إن دخول حرب فلسطين كانت وسيلة لجدع أنف الجيش.. وتقليم أظافره...
وقد كان ما يرجون.. ولكنه لم يكن إلا إلى حين!.
المكتوون بالنار!
وانتهت حرب فلسطين.. وعاد المكتوون بالنار إلى ديارهم.. عادوا وفى جعبتهم سهام مسمومة، كانوا يعرفون: متى؟ وكيف؟ وعلى من سيطلقونها!.
وانطلق السهم الأول.. فأطلق “مصطفى مرعى” فى حرم مجلس الشيوخ، أول قذيفة مروّعة عن الذخيرة الفاسدة.. ثم أمد ضباط أبطال الزميل “إحسان عبد القدوس” وكاتب هذه السطور بوثائق الذخيرة الفاسدة.. ودارت المعركة، حتى بلغت ذروتها، ووصلت الوثائق إلى حقيبة النائب العام.. ومضت أيام.. حاول الرجل خلالها أن يحقق القضية، وأن يأخذ بتلابيب المفسدين.. ولكنه ما لبث أن وقف.. كان الفساد أقوى منه، ومن عدالته، ومن كل ما فى رأسه من تعاليم القانون!.
وعندئذ بدأ صوت “الضباط الأحرار” ينطلق.. من حيث لا يدرى غير الأحرار.. وأخذ هذا الصوت، الذى أُطلق فى صورة منشورات جريئة قوية، يصكّ آذان المفسدين والمسؤولين صكًّا شديدًا.. فتراه يقول فى المنشور رقم (1):
أيها المسؤولون
اذكروا أن لكم فى فلسطين شبابًا استُشهد، وروى أرض السلام بدمائه، وصعدت أرواحه الطاهرة إلى ربها تشكو إدارة عرجاء، وذخيرة تالفة، وخونة يتزعمهم رجل يصول ويجول فى جهل مطبق، يحمى اللصوص، ويحتمى برضاء الملك.
أيها المسؤولون، اتقوا الله فى جيشكم، واذكروا مشوهى الحرب والعجزة الذين أُقصوا عن المراكز المريحة، دون أن يجدوا ما يعوض تشويههم وعجزهم، سوى دموع ساخنة، وزفرات قاسية، وأنّات مريرة، حينما يرون السارق والناهب ينهب الأرض بسيارته، ويحمل على صدره أرفع الأوسمة، وينعم بالمراكز العالية!.
العزة بالإثم!
وبدلاً من أن يراجع المفسدون أنفسهم ويصححوا أخطاءهم – إذا كان لهذه الأخطاء أن تُصحّح – بدلاً من أن يفعلوا ذلك، وهو أقرب إلى تأجيل الانفجار.. بدأوا يتعقبون “الضباط الأحرار” الذين تُزعجهم صرخاتهم، وأخذوا ينشرون حولهم شبكة جاسوسية كانت أوهى من بيت العنكبوت. وكان هؤلاء “الضباط الأحرار” أقوى من أن يأبهوا لهؤلاء المفسدين إلا بالمقدار الذى يُعينهم على إتمام رسالتهم.
فكانوا يختفون فترة.. ثم يعودون فيملؤون الجو بمنشوراتهم التى كانت تؤرّق أجفان البغاة، وتطرد الأمن من قلوب الظالمين.
وحين أصاب “الأحرار” اليأس من استجابة المسئولين عن الجيش لهم.. كان لديهم بقية من أمل.. اتجهوا بها إلى الملك فاروق، فأرسلوا إليه فى سبتمبر سنة 1950 عريضة بعنوان: “صرخة الجيش للملك” وحملوها آلامهم وآمالهم .. وقد كانت هذه العريضة مؤدبة مهذبة.. يتم كل حرف فيها على مبلغ قوة تحمل رجال الجيش، وسيطرتهم على أعصابهم . ولكن هذه الصرخة .. كان نصيبها هو نفس نصيب الصرخات التى أعقبتها. أو سبقتها: ركنا قصيا.. فى وادى النسيان..
وبدأ التحدى!
فأخذ المفسدون يتحدون الأحرار فى الجيش بطريقة مجنونة.. فأعيد حيدر إلى الجيش.. وأعيد سرى عامر.. وأعيد أعوانه.. وأعيد كثيرون ممن رفعت عنهم يد العدالة.. بغير إرادتها!! ولم تكن هذه الطريقة لتؤدى إلا إلى هذا الذى أدت إليه.. كان الذين يتحدون ينقصهم دائما شيء فى كل شيء، كان ينقصهم فى الحرب الشجاعة، وفى العمل القدرة عليه، وفى التحدى الدراية بنفوس الناس.. فكانت أعمالهم كلها مفضوحة، وسافرة، ولم تكن لها نتيجة إلا إلقاء الزيت على النار!.
استمرار المعركة..
واستمر المفسدون يخبطون خبط عشواء.. وبينما “الأحرار” يدفعون خبطاتهم وتخبطاتهم.. وكان المنضوون تحت لواء “الضباط الأحرار” حتى ذلك الوقت ليسوا أكثر من عشرة زادهم تحدى المفسدين حتى صاروا عشرات فمئات.. ومن ثم أخذوا يتأهبون للعمل العظيم!.
تأهّب الأحرار!
حتى جاءت انتخابات مجلس إدارة نادى ضباط الجيش، فانتهز الأحرار الفرصة ليقروا قليلًا عن تحدّيهم لعمالقة الفساد، فتقدم لانتخابات ذلك المجلس عدد من “الضباط الأحرار”، فانتصروا نصرًا ساحقًا، وكان “اللواء محمد نجيب” على رأس هؤلاء المنتصرين!.
ولم يستحىِ المفسدون من مفاسدهم، فتقدموا يطلبون تمثيل سلاح الحدود الملكى بعضو فى المجلس، فرفض الأحرار... أرادوا أن يقولوا بطريقة عملية: “إن السلاح الذى يقوده سرى عامر غير جدير بأن يُمثّل فى نادى الضباط”.
وجاءهم أمر من صاحب الأمر بأن يقبلوا ما يُراد.. ولم يخضع الأحرار، وإنما حنوا رؤوسهم للعاصفة حتى تفوت، وحتى يحين وقت الوقوف أمامها. فقبلوا مندوب سلاح الحدود على أن يكون “مستمعًا” فقط، وعلى أن يُعاد النظر فى أمره فى أول اجتماع قادم للجمعية العمومية.
اجتمعت الجمعية العمومية للضباط فى 15 مايو، وفيه كانت بداية النهاية.. فعندما عُرض عليها أمر مندوب سلاح الحدود، قررت بإجماع آراء 355 ضابطًا استبعاد وجوده فى مجلس الإدارة.
ثم انتقلت الجمعية العمومية للضباط إلى ما هو أخطر، إذ وقف ضابط من سلاح الصيانة، وقال إنه باعتباره زميلًا فى السلاح للشهيد عبد القادر طه، فإنه يطالب الجمعية العمومية بالوقوف دقيقتين حدادًا على الرجل الذى راح قتيلًا غدرًا.. ووقف الضباط جميعًا، ثم انتهى الاجتماع بهذا النصر العظيم، الذى تمثلت فيه نهاية البداية، وبداية النهاية!.
.. وطارت الأنباء!
طارت أنباء ذلك الاجتماع وما دار فيه إلى المفسدين والمسؤولين معًا.. وأخذت تليفونات القاهرة تسأل عن “محمد نجيب”، بينما تليفونات الإسكندرية تطالب باستجواب “محمد نجيب” عما حدث فى النادى الذى هو رئيسه. وذهب “محمد نجيب” إلى “محمد حيدر” بناءً على طلبه.. فوجده يهذى كمهموم أضاعت ضربة القدر صوابه! ودار بين حيدر ونجيب الحديث الآتي:
– إن الملك لم ينم الليل بسبب ما حدث فى نادى الضباط.. وهو مندهش كيف تستبعدون مندوب الحدود من النادى فى الوقت الذى تعلمون فيه أن هناك رغبة ملكية فى وجوده؟
فقال “نجيب” ببساطته المنطوية على شجاعة منقطعة النظير:
– ولكنها إرادة الضباط.. ولا أستطيع أن أصادرها.
– ألم تقل لهم إنها رغبة الملك؟
– ليس من حقى أن أقول كلامًا كهذا.. ولكن إذا كانت هذه رغبة الملك حقًّا، فليكتب إلى جوابًا رسميًّا بذلك، وفى هذه الحالة أنا مستعد لأن أجمع الضباط فى جمعية عمومية أخرى لأتلو عليهم هذا الجواب.
– لا يمكن أن نكتب مثل هذا الجواب...
وانتهى الحديث بين الرجلين إلى غير نتيجة.
ثم جاء العيد.. عيد الفطر الأخير، فتوقفت الاجتماعات، واستراح إلى حين طرفا المعركة.
استئناف المعركة
وبعد العيد عاد دولاب العمل يدور، وضرب المفسدون ضربتهم.. فأغلقوا نادى الضباط، وأصدروا قرارًا بحل مجلس إدارته. وعندئذ – وعندئذ فقط – بدأت النهاية، وأخذ “الضباط الأحرار” يستعدون للضربة الكبرى!.
وركب المفسدون رؤوسهم – أو بمعنى أدق ركبهم شيطانهم – فرشحوا “اللواء حسين سرى عامر” ليكون وزيرًا للحربية فى وزارة حسين سرى باشا الأخيرة، وجاءت الأنباء لـ”الضباط الأحرار” بأن هذا الترشيح سببه أنه – أى حسين سرى عامر – مُكلف بأن يُحدث بهم أشياء وأشياء.. وقيل لهم – فيما قيل –: “استعدوا فقد جاء من أجلكم!”
ولكن “حسين سرى باشا” استقال دون أن يُقبل “سرى عامر” عضوًا فى وزارته، ولكن هذه الاستقالة لم تغيّر من مجرى الأمور عند “الضباط الأحرار” شيئًا.
لقد نظروا إلى أنفسهم – قبل ذلك بأيام كثيرة – فوجدوا أنهم أصبحوا يمثلون 95 فى المائة من ضباط الجيش، وهنا تساءلوا: ولماذا إذًا ننتظر؟ وإذا لم نضرب اليوم، فمتى نضرب؟!
وأخذ الموقف يسير بين خطين ضيقين جدًّا، خطين كلاهما مزروع بالموت، محفوف بالنار. فقد رأى “الضباط الأحرار” أنهم إذا صبروا، فقد يتمكن منهم خصومهم ويقضون عليهم فرادى أو جماعات، وإذا ضربوا فإنهم قد ينجحون، وقد يفشلون، وفى الحالة الأخيرة فإن أعناقهم طائرة لا محالة!.
ولكن رقاب الضباط كانت قد أصبحت عندهم آخر ما يحرصون عليه.. ومن ثم فقد حملوها على أكفهم.. وخرجوا يوم الثلاثاء 22 يوليو يكتبون الفصل الأخير فى الكتاب الرائع الذى بدأوا يكتبون أولى صفحاته منذ سنة 1947.
بدأت الحوادث بعد ذلك تجرى بسرعة عجيبة.. سرعة كانت أشد من أن يُجاريهم فيها التاريخ.
فى ساعات، سيطر الجيش على الموقف، وبعد دقائق، كان صوت الجيش ينطلق من محطة الإذاعة: رائعًا كالإيمان، مروّعًا كالقذيفة.. وفهم الناس كل شيء..
فهموا أن دولة الفساد والطغيان والرشوة قد آن لها أن تزول، وأن تزول على أيدى رجال اكتووا بالنار، حملوا آلام أمتهم، وتعذبوا وصبروا.. ثم أبرزتهم المحنة.. فإذا هم أبطال تتمثل فيهم كل آلام مصر، وكل رجولتها.. وكل الصحوة التى كان العالم كله قد يئس من مجيئها!.
لا تخافوا...
وكان الناس يخشون على رجال الجيش من أهدافهم.. كانوا يحسبونهم شبانًا اجتاحهم الحماس فجرّهم إلى عمل مجنون قد يُطيح بهم وببلادهم من ورائهم.. ولكنهم ما لبثوا حتى تبينوا أن فى الجيش رجالًا يعرفون متى يضربون.. ويعرفون كيف يجعلون ضربتهم قاضية.
كانت حركتهم ثورية، نعم.. ولكنها كانت أجمل ثورة عرفها التاريخ.. ثورة لم تُطلق فيها رصاصة، ولا قذيفة، ولم تُرق فيها قطرة من الدماء.
ثورة ذهبت بالشر، ولم يستطع الشر أن يضع أنفه فيها، أو يُميل بها عن الطريقة الرائعة التى رسمها لها شبان مستقيمون، شجعان، أتقياء.. على رأسهم رجل لا يعرف إلا أن الله ربه، وأن الوطن كعبته، وأن الإخلاص إمامه.
ومن هنا كان الله معه.. ومن هنا جاء نجاحه.. ومن هنا جاء الهتاف بحياة “البطل محمد نجيب”.
نشر فى أول أغسطس 1952

