رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

ببلوغه الثمانين.. «الفخرانى» يتخلى عن عصاه متحديًا الزمن وعواجيز الفرح بـــ«الملك لير»..!


20-7-2025 | 17:04

الفنان الكبير يحيى الفخراني في الملك لير

طباعة
بقلـم: محمد رمضان

«وقار ذبيح الندم بين أقدار الجحود والتحدى».. مغامرة فنية يخوضها شيخ من شيوخ فن التشخيص يُصادق فيها بطل روايته «الملك لير» الذى فقد هيبته منذ خمسة وعشرين عامًا بين جدران المسرح العتيق بعد أن قسّم ملكه بين ابنتيه، فكان مصيره الذل والهوان فى مرثية من الإبهار تعانق فيها مشاعر الصدق للنجم الكبير يحيى الفخرانى آلام ودموع «لير الحزين» بطل رواية شاعر الإنجليز العظيم وليم شكسبير.

 

لم يكن المسرح القومى فى مشوار الفخرانى الفنى مجرد دار عرض يقدم من خلالها أعماله المسرحية، ولكن من أسرار نجاح الفخرانى أنه تربطه حالة من العشق بخشبة هذا المسرح العتيق التى هى أشبه بنداهة إبداعه الفنى.. أتذكر فى يوم افتتاح هذا المسرح الذى تجاوز عمره الآن أكثر من مائة عام، وتحديدًا يوم 20 ديسمبر 2014 بعد تعرضه لمأساة الحريق فى عام 2008 أننى تقابلت مع الفخرانى على أعتابه قبل ساعات من افتتاحه، فوجدت البهجة تعتلى ملامحه البريئة، معبرًا لى عن مدى سعادته ودموع الفرحة تتراقص بين بريق عينيه بعودة حبيبته إليه «خشبة هذا المسرح العتيق»، مُفصحًا لى بعبارة عفوية يصف بها هذه السعادة بأنه تيقن فى هذا اليوم أن ما كان يشمه من رائحة عفن داخل هذا المسرح العتيق والتى كان يعتبرها بمثابة رائحة عبق تاريخه كان مبعثها تلك المياه الجوفية التى كانت تطفو عليها خشبة هذا المسرح، وأنه فخور بأن مصر أصبح لديها مسرح متطور يليق بفنها وقوتها الناعمة داخل المنطقة العربية.

كما أن وقوف الفخرانى على خشبة المسرح القومى لم يكن بدافع البحث عن المزيد من النجومية أو الشهرة أو أنه يتخذ منه وسيلة للتربح وتحقيق مكاسب مادية، فكل هذه الهواجس ما كان لها أى محل من الإعراب فى تاريخ الفخرانى الفنى الذى كان أجره فى مسرحية البهلوان للدكتور يوسف إدريس لا يتجاوز الثمانية آلاف جنيه، فى حين أن سعر تذكرة هذه المسرحية كان يبدأ من «جنيهين وكان يصل أعلى سعر لها خمسة جنيهات فقط»، داخل المسرح القومى، وبالرغم من تدنى سعر تذكرة هذا العرض الناجح إلا أن الفخرانى كان يحقق إيرادات لمسرح الدولة غير عادية، وبصفتى شاهد عيان على الثلاث تجارب المسرحية له مع «الملك لير» منذ بداية عرض نسخته الأولى فى عام 2001، حيث كان من المقرر أن يُخرجها فى بادئ الأمر فى عهد إدارة الدكتورة هدى وصفى للمسرح القومى المخرج هانى عبدالمعتمد، إلا أنه قد تم استبداله بسبب سفره للخارج بالمخرج الكبير الراحل الدكتور أحمد عبدالحليم الذى قدم عرض «الملك لير» برؤية إخراجية كلاسيكية تتضمن تفاصيل كثيرة جعلت بعض المشاهدين أحيانًا يُصابون بحالة من التشتت، إلا أن ظهور «الفخرانى» بالعرض كان بمثابة رمانة الميزان التى جعلت هذا الجمهور يستمتع بمتابعة هذا العرض الذى تقاضى عنه الفخرانى وقتذاك حوالى ثلاثين ألف جنيه، وقد افتتح هذا العرض فى ثانى يوم عيد الأضحى المبارك، ما جعل الفخرانى يسن عادة داخل المسرح العتيق لإسعاد العمال البسطاء به، حيث قام بذبح عجل سمين؛ بمناسبة افتتاح مسرحية «الملك لير» فى العيد الكبير؛ حبًا فى رفع العناء عن عمال المسرح القومى الغلابة الذين يتركون أسرهم فى العيد لكى يمتعوا الجماهير، فأصبحت هذه السنة ترتبط بالفخرانى دون غيره من النجوم داخل هذا المسرح، لكن فى الوقت نفسه لم تسلم مسرحية «الملك لير» حينذاك من المؤامرات، خاصة منذ ليلة افتتاحها، حيث كان يتولى رئاسة البيت الفنى للمسرح مخرجًا كبيرًا بات يتحين فشلها بإشاعة وصفه لها بأنها مسرحية مدرسية، ومن ثم فإنها لن تستمر لوقت طويل فى عرضها، والسبب وراء ذلك أن هذا المخرج الكبير كان يتأهب لتقديم مسرحية شكسبيرية أخرى بالمسرح القومى، وبعد أن بدأ بروفاتها بالفعل استعدادًا لعرضها أفسد القدر عليه سوء ظنه بفشل عرض «الملك لير» الذى حقق إيرادات منذ الليلة الأولى تجاوزت اثنى عشر ألف جنيه.

بسبب الإقبال المتزايد عليه لدرجة أن المسئولين عن دور العرض كانوا يضيفون لرصيد المسرح القومى الخمسمائة مقعد حوالى مائة وخمسين كرسيًا إضافيًا، لكى يصل عدد المتفرجين على العرض يوميًا إلى ستمائة وخمسين متفرجًا فى كل ليلة.

ما جعل هذا المخرج الكبير يُصاب بخيبة الأمل ويصرف النظر عن تقديم مسرحيته، فقام بإيقاف مشروعه الفنى ليعلن «الملك لير» انتصاره بجدارة على شكوك هذا المخرج الكبير الراحل بانفراده بحجم الحجوزات المسبقة الضخمة لمسرحيته لعدة أسابيع متتالية، محققًا إيرادات تعدت مليونى جنيه للمرة الأولى فى تاريخ المسرح القومى.

من ثم أصبح الفخرانى هو الحصان الأسود لمسارح الدولة بصفة عامة وللقومى بصفة خاصة بتحقيقه أرقامًا قياسية فى الإيرادات وفى عام 2007 شهد البيت الفنى للمسرح نهضةً مسرحيةً وحالةً من الحراك المسرحى المتميز فى عهد رئيسه الدؤوب المجتهد الدكتور أشرف زكى الذى استثمر نجاح مسلسل «يتربى فى عزو» بافتتاح مسرح ليسيه الحرية بالإسكندرية بعرض «الملك لير» ومسرحية «أهلًا يا بكوات» به لمدة خمسة عشرة يومًا لكلٍ منهما، وقد حقق «الملك لير» فيها إيراداتٍ يومية تخطت الخمسة وعشرين ألف جنيه، نظراً لتعطش الجمهور السكندرى لمشاهدة عروض الفخرانى المسرحية، لدرجة أن بعض الحضور قاموا بتحية الفخرانى فى نهاية العرض فى ليلة الافتتاح بهتاف «يا حماده يا جامد».

ثم عاود الفخرانى عرض «الملك لير» مرة أخرى داخل مسرح ميامى المعروف بمسرح إسماعيل يس سابقًا بوسط القاهرة فى عام 2009، والذى يرفض كبار النجوم العمل به بسبب تجاوره مع أحد كباريهات وسط المدينة، إلا أن الفخرانى أصر على عرض مسرحيته هناك بعد حريق المسرح القومى حبًا فى «الملك لير» الذى جمعته به عشرة منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا حتى الآن، وبعد مرور عِقد من الزمان خاض الفخرانى تجربة تقديمه «للملك لير» مع المخرج تامر كرم داخل مسرح القطاع الخاص الذى تميز ببذخ الإنفاق عليه، لدرجة أننى قلت للدكتور يحيى الفخرانى خلال المؤتمر الصحفى الخاص بالعرض أننى أشعر أثناء دخولى هذا المسرح كأننى أدخل متحفًا يحتوى على كافة أجواء البلاط الملكى الإنجليزى، ما دفعنى وقتها لكتابة مقال فى «المصور» عن هذا العرض الثرى بعنوان «الفخرانى يحرر الملك لير من أسر الروتين الحكومى».

ولأن تكلفة هذا العرض كانت ضخمة جدًا انعكس ذلك على سعر تذكرته الباهظ الثمن، إلا أنه شهد إقبالًا جماهيريًا كبيرًا، وهذا يدل على مدى حب الجمهور للفخرانى نفسه وليس «للملك لير» فقط.

لذلك انفرد الفخرانى دون غيره من نجوم السينما الذين عملوا بالمسرح فى القطاعين العام والخاص بتحقيقه أعلى الإيرادات، وقد شهد على ذلك تاريخ هذا المسرح العتيق خاصة مع عرضه الناجح «ليلة من ألف ليلة» الذى تجاوزت إيراداته العشرين مليون جنيه، لدرجة جعلت كل نجوم الصف الأول يعتذرون بعد انتهاء عرضه عن العمل بالمسرح القومى؛ خشية أنهم لا يحققون هذا الكم الهائل من الإيرادات التى حققها عرض الفخرانى الذى تقاضى عنه أجرًا لا يمثل أجر مساعده فى أحد المسلسلات، حيث تقاضى حوالى مائة ألف جنيه شهريًا عن هذا العرض الناجح، ما جعلنى أكتب مقالًا آخر فى «المصور» بعد كثرة اعتذارات نجوم الصف الأول عن بعض المسرحيات خلفًا لعرض «ليلة من ألف ليلة» بعنوان «الفخرانى ذبح القطة لكبار النجوم».

إلا أننى أرى أن عودة الفخرانى مع «الملك لير» فى نسخته الثالثة وإصراره على تقديمها داخل المسرح القومى هو مكسب جديد لتاريخ هذا المسرح العتيق، حيث كان مبعثه فى ذلك هو تزامن بلوغه الثمانين من العمر، ما جعله يماثل عمر «الملك لير» نفسه فأراد أن يعبر عن بطل رواية شكسبير بكل ما يعانيه من حصائد العمر بأوجاعه الجسدية وآلامه النفسية، لذلك عندما شاهدت هذه النسخة الجديدة من «الملك لير» لمست مدى تمتع الفخرانى بحالة من النشوة الفنية بمجرد دخوله على خشبة المسرح القومى مجسدًا للملك الحزين ومتخليًا عن عصاه التى يتوكأ عليها، وكأن وقوفه أمام الجمهور على المسرح يجعله يستعيد لياقته وشبابه من جديد. كما أن أداءه الصادق لجميع أدواره يجذب الجمهور للتوحد مع أبطال روايته فى كل مرة يشاهد فيها ذلك العملاق، أو غول المسرح، يحيى الفخرانى الذى يَهِب لبطل رواية شكسبير روحه التى جعلتنى أستشعر بأنه لا ينطق جملة على المسرح بلسانه ولكنه يتفوه بها قلبه، فيصل بها إلى أعماق نفوس مشاهديه.

بلا شك أن وقوف الفخرانى على خشية المسرح القومى تحت بيت شعر أمير الشعراء «وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا» هو تأكيد لرسالة هذا المسرح العتيق على بث نسق إعادة تصحيح المفاهيم وإرساء القيم لدى الأجيال الجديدة، خاصة أن تقديم الفخرانى للنسخة الثالثة يأتى بدعم كبير من وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو الذى زار هذا العرض فى أولى بروفاته، ثم عاود زياته مرة أخرى قبل افتتاحه بعدة أيام، كما حرص على حضور افتتاحه وبصحبته الدكتور بدر عبدالعاطى وزير الخارجية للتأكيد على دعم الدولة للأعمال الفنية الجادة، خاصة أن هذا العرض قد واجه العديد من الشائعات التى أطلقها عواجيز الفرح داخل المسرح القومى بأن هذا العرض ربما سيلحق بمصير عرض «هولاكو» للمخرج الراحل جلال الشرقاوى بسبب طول أمد بروفاته واعتذار بعض الفنانين عن الاشتراك به، إلا أن استعانة الفخرانى بالمخرج الكبير شادى سرور كانت ردءًا للتصدى لكل هذه الشائعات المُغرضة بتقديم نسخته الثالثة من «الملك لير» بالفكر الشبابى للمخرج المتميز شادى سرور، وبرؤية فنية متفردة جدًا تخلو من كل أشكال ومعانى الفذلكة واستعراض العضلات، حيث انتهج شادى سرور أسلوب السهل الممتنع بتقديمه لرواية شكسبير بأسلوب بسيط، بعيدًا عن التكلف والمبالغة التى شابت أحيانًا النسختين السابقتين من هذا العمل الرائع، بالإضافة إلى مدى حرفيته فى اختياره لنجوم عرضه وعلى رأسهم النجم الكبير طارق الدسوقى الذى عاد إلى المسرح بأدائه المتميز لشخصية «جلوستر» صديق «الملك لير» بعد غياب استمر لعدة سنوات، كما نجح المخرج فى اختياره لبنات «لير» الثلاث، وهن الفنانات أمل عبدالله التى تألقت فى أداء دور الابنة الكبرى لـ«للملك لير» بإتقان شديد جعلتنا نتذكر معها شخصية سيدة المسرح العربى سميحة أيوب، أما النجمة الشابة إيمان رجائى، فقد أعاد شادى سرور اكتشافها من جديد فى دور «ريجان»، الابنة الوسطى لـ«للملك لير» التى جسدت الشر المطلق بجحودها لأبيها وزوجها، وكانت مفاجأة هذا العرض، كما أمد المخرج هذا العرض بالممثلة الشابة الواعدة لقاء على فى دور الابنة الصغرى «كورديليا» التى استحوذت بتلقائية أدائها على نظرات إعجاب الجمهور، بالإضافة إلى تألق جميع الممثلين داخل العرض، ومنهم الفنان الكبير عادل خلف فى دور «البهلول» الذى يمثل صوت الضمير «للملك لير»، ويسخر منه ويؤنبه بين الحين والآخر على تنازله عن ملكه لابنتيه، كما أننى لمست فى هذ العرض الرائع اكتمال كافة عناصر السينوغرافيا من موسيقى للمبدع أحمدالناصر وديكور متميز للدكتور حمدى عطيه وملابس مبهرة لعلا على وإضاءة لمحمود الحسينى ومكياج للعبقرى إسلام عباس والاستعراضات لضياء شفيق، بالإضافة إلى أن المخرج شادى سرور حرص على أن يجعل أحداث عرضه تتحلى بالإيقاع السريع منعًا لشعور المتلقى له بالممل ما جعلنى بحكم أننى شاهد عيان على هذه النسخ الثلاث من مسرحية «الملك لير» أستشعر وكأننى أشاهدها لأول مرة فى حياتى.

 
 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة