لا شيء غامض، بالنظر إلى درجات الحرارة غير المسبوقة التى تشهدها مصر هذه الأيام، لكن كعادتها زعمت منصات السوشيال ميديا، أن تكرار حوادث الحرائق الكبيرة فى مصر «ظاهرة غير طبيعية»، وذهبت للترويج إلى أن ما يحدث «مؤامرة»، وهو السؤال الأهم من ضمن أسئلة عدة وضعتها «المصور» على طاولة الحوار مع المهندس خالد عبدالله عبدالقادر، مستشار وزير العمل للسلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل، المشرف على المركز القومى لدراسات السلامة.
«المصور»، فى حديثها مع «م.خالد»، حاولت التعرف على أسباب تزايد الحرئق فى الفترة الأخيرة والإجراءات المتبعة لحماية المنشآت، بجانب التحديات التى تواجه تطبيق معايير السلامة والصحة المهنية بشكل فعّال وكامل، خاصة فى المؤسسات الحكومية ذات البنى التحتية القديمة أو الميزانيات المحدودة.. وكان الحوار التالى:
حدثنا عن أسباب تزايد الحرائق فى المنشآت - خاصة وعامة، والتى حدثت مؤخراً؟
الحرائق المتزايدة فى الفترة الأخيرة سببها الأساسى ارتفاع درجات الحرارة وزيادة الأحمال الكهربائية والاشتعال الذاتى، فكل هذه تمثل عوامل رئيسية وراء تزايد الحرائق مؤخرًا، فى المنشآت العامة والخاصة، فارتفاع الحرارة يؤدى إلى جفاف المواد وزيادة قابليتها للاشتعال، خاصة أن فصل الصيف الحالى يشهد ارتفاعا حراريا غير مسبوق..هذا بالإضافة إلى زيادة الأحمال، خصوصاً عند تشغيل عدد كبير من الأجهزة الكهربائية (مكيفات، مبردات، مراوح، سخانات، خطوط إنتاج..وغيرها) فى وقت واحد، وهو أمر شائع صيفًا، مما يحدث ماسا كهربائيا نتيجة تلامس الأسلاك أو سوء التوصيل، وأيضاً استخدام وصلات عشوائية بالقرب من الأدوات والأجهزة، أو استخدام مواقد صغيرة أو بدائية، فالاشتعال الذاتى للمواد دون وجود مصدر نار خارجى مباشر (مثل لهب أو شرارة)، إنما يكون بسبب تراكم حرارة ناتجة عن تفاعلات كيميائية داخلية أو امتصاص حرارة من البيئة، حيث إن هذه المواد تحبس الحرارة والرطوبة، وعدم التدريب على مكافحة أعمال الحرائق، وعدم صيانة أجهزة ووسائل الإطفاء الآلية واليدوية، كل هذا بالإضافة أيضاً إلى الجهل والإهمال واللا مبالاة والضرب بالقوانين واللوائح عرض الحائط قد يؤدي الى كارثة كبيرة.
بالنظر إلى كل الأسباب السابق ذكرها.. ما مفاتيح الأمن والسلامة الواجبة لحماية المنشآت الحيوية؟
هناك مجموعة من الإجراءات المتبعة من أجل الحفاظ على أمن وسلامة المنشأة، ومن الضرورى الالتزام بها، أولها اتباع اللوائح والقوانين المتعلقة بالحماية من الحرائق، إلى جانب الالتزام بتطبيق اشتراطات وتعليمات الحماية المدنية طبقا للكود المصرى للحريق، وتحسين التهوية، تغطية المواد الحساسة، منع تعرض السوائل المشتعلة للشمس، توزيع الأحمال، استخدام أسلاك بجودة عالية، تركيب قواطع حماية كهربائية، عدم تخزين مواد زيتية/عضوية معًا، التهوية الدورية، فحص درجات حرارة المخزون، تركيب كواشف دخان وإنذار مبكر خاصة فى غرف الكهرباء والمخازن، منع التدخين داخل جميع المنشآت، تدريب جميع العاملين على السيطرة المستمرة على مصادر الاشتعال جميعها، من كهرباء وتدخين ولهب مباشر وأسطح ساخنة وأعمال قطع ولحام ومواد ذاتية الاشتعال وكهرباء ساكنة وغيرها.
إذاً لا بد وأن تكون هناك خطط مسبقة للتوعية الوقائية من الحرائق.. لكن حدثنا عن الخطط الاستباقية المتبعة لتجنب حدوث مثل هذه الكوارث؟
بالطبع توجد خطة متبعة للتوعية بمخاطر السلامة والصحة المهنية، ومنها الحريق، لدى الإدارة المركزية للسلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل، وكذا المركز القومى لدراسات السلامة والصحة المهنية، فتقوم الأولى بمتابعة أعمال التفتيش على المنشآت فيما يتعلق بجميع المخاطر ومنها الحريق، وإقامة الندوات والملتقيات والمبادرات والمسابقات فى هذا الشأن، وأسابيع السلامة والصحة المهنية للتوعية بالمخاطر المختلفة وعلى رأسها مخاطر الحريق، والأسباب التى أدت أو تؤدى إلى ذلك، وكيفية مجابهتها، والحد منها قدر الإمكان..
وعليه قامت الإدارة المركزية للسلامة خلال يونيو 2025 بإقامة 213 ندوة لتوعية العاملين على مستوى الجمهورية، وملتقى للسلامة والصحة المهنية، ومبادرة أسبوع سلامة استفاد منها ما يقارب من 4000 عامل بالمنشآت.. وكذلك يقوم المركز القومى بإقامة أكثر من 45 برنامج تدريب للسلامة والصحة المهنية، بما يكفل تدريب الأخصائيين والفنيين وجموع العمال على أعمال لجان السلامة والصحة المهنية لمكافحة المخاطر المختلفة.
ما أكبر التحديات التى تواجه تطبيق معايير السلامة بشكل فعّال وكامل.. وكيف يتم التغلب عليها؟
هناك العديد من التحديات، خاصة فى المؤسسات ذات البنية التحتية القديمة، وتتلخص هذه الصعوبات فى تهالك البنية التحتية وضعف الصيانة، حيث إن كثيرا من المبانى الحكومية تعانى من تصميمات قديمة غير متوافقة مع اشتراطات السلامة «تهوية، كهرباء، مخارج طوارئ... إلخ»، وصعوبة إدخال تعديلات إنشائية لتطبيق معايير السلامة وخاصةً معايير الوقاية من الحريق، وضعف الميزانيات المخصصة للسلامة، حيث لا يتم تخصيص بنود واضحة ومستقلة فى الميزانية السنوية للوقاية أو التدريب أو معدات الحماية الشخصية، وغياب ثقافة السلامة لدى العاملين والإدارة والاعتماد غالبًا على التدخل بعد وقوع الحوادث بدلاً من الاستثمار فى الوقاية، ويتم التعامل مع السلامة كعبء إدارى وليس كأداة لتحسين الأداء والاستدامة، وضعف الوعى بمخاطر المهنة أو الإجراءات الوقائية الأساسية، وعدم تفعيل دور أجهزة ولجان السلامة والصحة المهنية، ونقص أدوات الحماية ومعدات السلامة، وعدم وجود مخزون احتياطى أو صيانة دورية للمعدات الحيوية، مثل طفايات الحريق، أجهزة الإنذار...إلى آخره..
ولكن هناك أيضاً طرق للتغلب على هذه التحديات تقوم بها الدولة المصرية على مستويات مختلفة، وهى تبنى نهج تدريجى قائم على الأولويات، حيث لا يشترط التطبيق الكامل دفعة واحدة، ولكن يتم التركيز على المخاطر ذات الأولوية أولاً مثل الحرائق، التهوية، الكهرباء، وإصلاح البنية التحتية بشكل تدريجى، وربط أعمال الصيانة والتجديد بمعايير السلامة، واستغلال خطط الإحلال والتجديد لدمج تجهيزات وقائية مثل أنظمة الإنذار والإخلاء، وتضمين السلامة كجزء من الخطة الاستراتيجية والميزانية السنوية للمؤسسة، وتفعيل دور أجهزة ولجان السلامة والصحة المهنية، والالتزام بتطبيق المعايير الواردة بقانون العمل رقم 14 لسنة 2025، والاستفادة من مبادرات وملتقيات وندوات السلامة التى تنفذها وزارة العمل ومديرياتها لنشر ثقافة الوقاية، فضلاً عن تعزيز ثقافة السلامة وتنفيذ ندوات توعية مستمرة ودمج مفاهيم السلامة فى تقييم الأداء الوظيفى للعاملين والمديرين.
اشرح لنا آلية عمل برنامج فعّال للصيانة الوقائية فى مؤسسة حكومية.. وكيف تقيسون نجاح هذا البرنامج فى منع الأعطال وتقليل التكاليف الطارئة وتحسين السلامة؟
تعمل برامج الصيانة الوقائية وفق نهج معين وآليات عمل محددة حتى تصبح فعالة وصحيحة.. وعلى سبيل المثال فإن آلية عمل برنامج صيانة وقائية فعال داخل منشأة حكومية تتمثل فى تطبيق هذه الخطوات..
أولاً إعداد سجل فنى بالأصول والمعدات الحيوية، مثل: «المصاعد، المولدات، اللوحات الكهربائية، أجهزة الحريق، أنظمة التهوية»، يتضمن السجل: رقم الأصل، حالته، تاريخ التركيب، كود الصيانة، المورد، قطع الغيار الأساسية..
ثانياً: وضع جدول زمنى للصيانة، ثم نأتى إلى ثالث الخطوات عبر تشكيل فريق صيانة داخلى أو التعاقد مع جهات متخصصة، ثم رابعاً من خلال التنسيق مع إدارة السلامة للتأكد من أعمال الصيانة..
أما فيما يتعلق بكيفية قياس نجاح برنامج الصيانة الوقائية، فهذا يتوقف على مؤشرات الأداء، مثل عدد الأعطال الطارئة، عدد ساعات التوقف بسبب الأعطال، عدد الحوادث بسبب الأعطال، .... وهكذا، وأيضاً تحليل تقارير الأعطال ومقارنتها قبل وبعد تنفيذ البرنامج، بالإضافة إلى إعداد تقارير السلامة ومقارنتها قبل وبعد تنفيذ البرنامج.
من يتحمل المسئولية الرئيسية فى تعزيز ثقافة السلامة والصيانة الوقائية داخل المؤسسة الحكومية؟.. وكيف يتم تمكين الموظفين ليكونوا جزءاً فاعلاً فى رصد المخاطر والإبلاغ عنها، بدلاً من انتظار تدخل الفريق المختص؟
هناك العديد من الإدارات والجهات المسئولة عن تعزيز ثقافة السلامة والصيانة الوقائية بين العمال وداخل المؤسسات الحكومية، وهما الإدارة العليا والمسئول الأول من خلال إصدار سياسات مكتوبة وواضحة، تخصيص ميزانيات للسلامة والصيانة الوقائية، وتضمين السلامة فى التقييم السنوى والأداء المؤسسى، وإدارة السلامة ومديرو الإدارات والعاملون أيضاً، وذلك من خلال تدريبهم على رصد المخاطر والإبلاغ عنها من خلال إنشاء آلية واضحة وسهلة للإبلاغ عن المخاطر، وتدريب الموظفين للتعرّف على المخاطر، وتطبيق سياسة «عدم اللوم» فى الإبلاغ، وربط السلامة بالتقدير الوظيفى، ومشاركة العاملين فى جولات السلامة الميدانية.
إذاً.. ما دور التدريب المستمر فى بناء وتعزيز ثقافة السلامة والصيانة الوقائية؟
التدريب المستمر عنصر أساسى من سمات بناء الجمهورية الجديدة، وله دور هام فى تعزيز ثقافة السلامة والصيانة الوقائية من خلال نقاط أصيلة، تتمثل فى تحويل السلامة إلى سلوك يومى وليس إجراء شكليا، وتقليل الأخطاء البشرية، وتفعيل مبدأ الصيانة الاستباقية، ونقل المعرفة وتعزيز روح الفريق.
كيف تردون على من يرى أن الاستثمار فى الصيانة الوقائية وإجراءات السلامة المتقدمة تكلفة إضافية؟.. وما الأدلة أو الإحصائيات التى تقدمونها لإثبات العائد المادى والمعنوى طويل المدى لهذا الاستثمار، خاصة فى تجنب الكوارث باهظة التكلفة؟
الرد يكمن بكل وضوح فى أن الاستثمار طويل المدى يقلل من التكاليف الكارثية، تكلفة التوقف المفاجئ أعلى بأضعاف من الصيانة المجدولة، والسلامة ليست رد فعل بعد الحادث، بل منع مسبق للكارثة القادمة.
فسر لنا ماهية المخاطر الفريدة أو المتزايدة التى تواجه المؤسسات الحكومية، مثل كثافة المراجعين، حساسية بعض الوثائق أو الأجهزة، طبيعة بعض المهام؟
المخاطر فى المؤسسات الحكومية تتشعب بسبب أن هذه الكيانات تستقبل أعدادًا كبيرة من المواطنين يوميًا، مما يسبب ازدحامًا شديدًا يزيد من مخاطر التدافع، الحريق، نقل العدوى، صعوبة تطبيق إجراءات الإخلاء السريع فى حالات الطوارئ، وضغطًا مستمرًا على البنية التحتية.. هذا بالإضافة إلى أن المؤسسات الحكومية تتعامل مع وثائق رسمية سيادية (مثل شهادات الميلاد، القضايا، العقود)، وملفات شخصية وسرية للمواطنين قد تتلف بسبب الحريق، وكل هذا يجعل طبيعة بعض المهام ذات الحساسية الإدارية أو القانونية صعبة.
أخيراً.. كيف تقيمون بشكل دورى فاعلية إجراءات السلامة وبرامج الصيانة الوقائية القائمة؟.. وما هى الآليات التى تتبعونها لمراجعة وتحديث هذه الإجراءات باستمرار، لمواكبة المستجدات والمخاطر المتطورة؟
آليات التقييم لا تتم بشكل عشوائى وإنما بشكل منهجى ومنظم ووفق خطوات محددة.. أولاً: آليات تتمثل فى عمليات التدقيق والمراجعة الداخلية وتحليل مؤشرات الأداء الرئيسية وعمليات الفحص الفنى (Inspections) الميداني، وأخيراً تحليل تقارير الحوادث وشبه الحوادث..
ثم نأتى إلى ثانياً، وهى آليات مراجعة وتحديث إجراءات السلامة والصيانة الوقائية، وتتمثل فى اجتماعات مراجعة الإدارة والتحديث المستمر للمخاطر، وتحديث الإجراءات التشغيلية الموحدة، والاطلاع على التغييرات التشريعية والمعايير الدولية.

