بعد خمسة أيام فقط من اندلاع حريق السنترال، أطلت شمس يوم السبت 12 يوليو 2025 على المبنى ليبدأ يومًا جديدًا فى رحلة عودته للحياة، فلم تكن آثار الدخان والرماد والسواد على واجهته، ولكن زاحمتها سقالات وأعمدة وعلم مصر، ليعلن المبنى مع تمركز أشعة الشمس الذهبية عليه فى الثانية عشرة ظهرًا، أن أقدم مبنى للاتصالات المصرية بدأ رحلة الشفاء.
«دار التليفونات الجديدة».. هكذا أطلق عليه الملك فؤاد الأول عندما افتتحه فى 1927 ليلفت أنظار الجميع بمبناه الشاهق المطل على شارع رمسيس، وليصبح أحد أهم معالم الشارع، بل يلقب به «سنترال رمسيس»، يبدأ رحلته فى التجديد بعد ما يقارب 98 عامًا من تأسيسه.
خمسة أيام كانت كافية لإعادة ترتيب الأوراق، وكان عنوانها الرئيسى لا يمكنك أن تمنع الأزمة، لكن تمتلك القدرة على حُسن إدارتها، وهو ما يعُرف بفن إدارة الأزمات، فتمت إدارة أزمة حريق سنترال رمسيس باحترافية وكفاءة منذ اليوم الأول لها، لم يتم ترك أمر للصدفة، ولكن كل خطوة تمت دراستها ولها بدائل عدة.
أطلت شمس السبت الماضى على شارع رمسيس ومبنى السنترال، وقبل أن تبدأ حركة المارة، كانت فرق عدة أحاطت بالمبنى الشاهق، أبرزها عمال السقالة التى أعلنت عن بدء عمالها وبدأت فى «شد المبنى»، وهو المصطلح الذى يردده الجميع، ويعنى إزالة آثار الحريق، وإزالة المتفحم منه على واجهة المبنى، وبناء السقالات، وربطها بقوة على طول واجهة المبنى؛ من أجل إعادة ترميمه وتأهيله.
خوذات صفراء وصديرى فسفورى كان الزى المميز على واجهة مبنى السنترال، فمن بعيد امتلأت الواجهة الضخمة بعناصر بشرية ترتدى خوذات صفراء، تتشبث بحديد وأخشاب لبناء السقالات، لتجد جوارها عدة فرق أخرى، أبرزها فرق مهندسى الشركة المصرية للاتصالات الذين ظلوا بجوار المبنى للعمل بشكل متواصل ليل نهار منذ اندلاع الحريق الاثنين قبل الماضي، وفرق الإطفاء والحماية المدنية، وفرق الإسعاف، وفرق المعمل الجنائى وهى الفرق الوحيدة بجانب فريق المهندسين الذين تم السماح لهم بالتواجد داخل المبنى.
مع دقات الساعة الثانية عشرة ظهر السبت، جلس عمال السقالة لينالوا قسطا من الراحة، قبل البدء فى العمل مرة ثانية، وقال أحمد، أحد العمال: «المهمة محددة زى ما بنعمل فى ترميم وتأهيل المبانى، لكن الصعوبة فى العمل وسط شارع زحمة زى سنترال رمسيس، عشان كده بدأنا العمل من الصبح بدرى».
«واجهة المبنى الشاهق هى مهمتنا»، هكذا قال محمد «نجار مسلح» يعمل فى السقالة، يرتدى خوذته والصديرى الفسفورى، ويجلس ليتناول وجبة خفيفة، يحتمى بظلال شجرة مجاورة للمبنى، يقول: «هنشد المبنى ونركب السقالة، ونزيل الشبابيك المحروقة، ونؤمن السقالة كويس، بعدها دور الترميم والتأهيل ليعود المبنى أحلى من قبل».
فور الانتهاء من الترميم وتأهيل المبنى يأتى دور عمال السقالة مرة ثانية لشد المبنى مرة ثانية، وهنا الشد يعنى إزالة السقالات من المبنى لتعود شمس سنترال القاهرة مرة ثانية تطل على شارع رمسيس، فيقول عم محمد: «بعد انتهاء الترميم بنرجع تانى نشد المبنى ونشيل السقالات، ويرجع المبنى أحلى من الأول».
«شهر أو أقل»، هذا كان رد عمال السقالة عن وقت الانتهاء من المبنى، ليؤكد الجميع أن شهرا كاملا كافٍ لعودة واجهة المبنى مرة ثانية لحالته مرة ثانية، وأن السقالة لن تستمر كثيرًا على واجهة السنترال. حدوتة مصرية جديدة يمكنك أن تستمع إليها فى تفاصيل إدارة أزمة حريق سنترال القاهرة، وتلمس جزءا منها فيما يُدار أمام الجميع فى شارع رمسيس، لكن هناك جهدا أكبر داخل المبنى نفسه، وفى كافة سنترالات وقطاع الاتصالات المصرى بأكمله.
الحدوتة المصرية فى حريق السنترال تكمن فى حُسن إدارة الأزمة، حيث نجده فى عملية تحويل مسارات سنترال رمسيس إلى مسارات السنترالات المجاورة، صحيح أن سنترال رمسيس عنصر رئيسى ومهم فى منظومة الاتصالات الرقمية المصرية، لكنه ليس العنصر الوحيد، وبمجرد نشوب الحريق تم التحويل مسارات الاتصالات، فهناك عدد من السنترالات المربوطة ببعضها البعض بشبكة بالغة التعقيد.
وتم تحويل المسارات بشكل كامل إلى سنترال الروضة وسنترال العباسية، لتعود الخدمات بكامل قوتها، فأهمية سنترال رمسيس تكمن فى أنه تم بناؤه منذ سنوات طويلة ليخدم 120 مليون مشترك محمول وما يتراوح من 15 إلى 20 مليون منزل إنترنت ثابت، لكن وجود مسارات بديلة مكّن من الحفاظ على الخدمة، بل عودتها فى أقل وقت ممكن.
مهندسو الشركة المصرية للاتصالات ظلوا حتى يوم السبت فى عمل متواصل، فجميع المارة اعتادوا على جلوس المهندسين وبجوارهم كابلات كبيرة ضخمة، يعملون فى صمت دون أن يعطوا أدنى انتباه للزحمة التى تقابلهم فى شارع رمسيس أو أشعة الشمس الحارقة أو كاميرات وسائل الإعلام أو زحام المارة وفضولهم فى التعرف على ماذا يحدث، عمل متواصل ليل نهار، لاستبدال كابلات الفايبر المحترقة بكابلات أخرى، ونقل مسارات الاتصالات لسنترالات أخرى.
جزء مهم من حدوتة السنترال مرتبط برجال الحماية المدنية والدور الصعب فى إدارتهم لأزمة الحريق بجوار رجال المطافئ المصرية، فشكل الفريقان قصة إنجاز وتضحية كعادة المصريين، فاستمرت الفرق فى العمل على مدار 18 ساعة متواصلة لإخماد ألسنة النيران، سجلتها عدسة المارة قبل وسائل الإعلام، فالجميع أثبت أنهم على قدر المسئولية.
إخماد الحريق لم يعنِ للجميع أن المهمة انتهت، بل على العكس بدأت بعدها مهمة تبريد المبنى، وبعدها مهمة التأمين من اندلاع حرائق جديدة، فظل الجميع على أهبة الاستعداد، فرجل المطافئ يجلس على سيارة المطافئ، فى انتظار أى اشتعال للحريق مرة ثانية. فضخامة المبنى، وارتفاع درجة حرارته، ووجود كميات كبيرة من الأسلاك والفايبر -يمكن أن تعيد الرماد للاشتعال، وهو بالفعل ما حدث مساء يوم الخميس؛ فرغم تبريد المبنى جيدًا، عادت النيران للاشتعال فى جزء صغير منه، تم التحكم فيه بسهولة، وحتى الآن لا تزال سيارات الإسعاف بجوار المبنى.
فرق الإسعاف اصطفت بجوار المبنى فى انتظار، فلا مجال للصدفة، الجميع يراقب وينتظر، ويضع كافة الاحتمالات، أو كما يقول أحمد «أحد المسعفين» بجوار المبنى: «أصعب اللحظات كانت الأولى، مع ارتفاع ألسنة النيران، بعدها يهدأ الموقف مع سيطرة رجال الإطفاء والحماية المدنية على الحريق».
وتابع: «نبقى على استعداد بجوار جميع الفرق من إطفاء وداخلية، نتناوب أنا وزملائى فى التواجد، لمنع تكرار أى حادث، كما أن المبنى يتم تأهيله ويتم استخدام سقالات، وبالتالى سيارة الإسعاف للتأمين لا قدر الله لو أى حادث”.
مع الواحدة ظهرًا وارتفاع صوت أذان الظهر «الله أكبر»، بدأ عمال السقالة مرة ثانية فى العمل، كلٌّ يعرف جيدًا ماذا يفعل، لتكتمل لوحة سنترال رمسيس بين خوذات سفراء تعتلى الواجهة فى دقة ونظام، ومهندسو الاتصالات يجلسون فى صمت وهدوء تام فى استكمال استبدال كابلات الفايبر وتوزيعها داخل صناديق التوزيع، وفرق المعمل الجنائى داخل المبنى تعمل على جمع كافة الأدلة، لدراستها، ورجال الإطفاء والأمن يجاورون المبنى.
ووسط خلية العمل لمبنى سنترال رمسيس التى لا تتوقف على مدار الأربع والعشرين ساعة، تستمر رحلة الحياة فى شارع لا ينام، ولا تتوقف الحركة فيه من سيارات وأوتوبيسات النقل والمارة، والمحال لا تتوقف من الباعة والمشترين، والحركة تستمر ولا تتوقف، كما لا تتوقف خدمات الاتصالات المختلفة، بل تعلن عن استمرارها وعودتها، وليعلن المبنى الشاهق عن عودته المبكرة، وعن احتفاله بـ100 عام فى التاريخ المصرى.

