على بعد عشرات الكيلومترات من الحريق فى محل بسيط، كان عم محمد، وهو أب لثلاثة أطفال، يتابع الأخبار بقلق متزايد على هاتفه، كان يتنقل بين صفحات الفيسبوك وتطبيقات المراسلة، يتلقى صورًا ومقاطع فيديو ورسائل صوتية، كل منها يروى قصة مختلفة، رسالة تحذر من انقطاع كامل للإنترنت لأسابيع، وأخرى تتحدث عن مؤامرة حكومية لتدمير البنية التحتية تمهيدًا لبيعيها، وثالثة تنشر تحذيرات بعدم التعامل مع التطبيقات البنكية والمحافظ الإلكترونية كى لا تضيع أموالك، شعر عم محمد بالذعر، ليس فقط من تفاصيل الحريق نفسه، بل من هذا الطوفان المعلوماتى الذى يهدد بإغراقه فى بحر من عدم اليقين، هل يجب أن يصدق كل ما يراه؟ أم أن هناك منْ يتلاعب بمخاوفنا؟
حكاية عم محمد ليست فريدة من نوعها، بل هى حكاية الملايين فى زمن الأزمات الرقمية، ففى عالم اليوم، لم تعد الأزمات تقتصر على ما يحدث على أرض الواقع، بل امتدت لتشمل الفضاء الرقمي، حيث تشن «لجان إلكترونية» حروبا نفسية وتبنى سرديات موازية، قادرة على تغيير حقائق الأحداث وتوجيه الرأى العام نحو اليأس والاختناق.
كيف تُدار حملات التضليل؟
تبرز منصات التواصل الاجتماعى كقوة لا يُستهان بها، قادرة على تشكيل الرأى العام وتوجيه بوصلة المجتمعات، فبينما تقدم هذه المنصات نافذة على العالم، وتتيح تدفقًا غير مسبوق للمعلومات، فإنها فى الوقت ذاته تصبح أرضًا خصبة لانتشار الشائعات والتضليل، وتدار حملات التضليل عبر منصات التواصل الاجتماعى بأساليب متطورة ومنظمة، تعتمد على فهم عميق لسيكولوجية الجماهير وكيفية التأثير على عقولهم، هذه الأساليب لا تقتصر على مجرد نشر معلومات خاطئة، بل تتعداها إلى استراتيجيات نفسية معقدة تهدف إلى تغيير القناعات وتوجيه الرأى العام نحو أهداف محددة. من أبرز هذه الأساليب:
صناعة التريندات الوهمية
تخيل أنك تستيقظ لتجد هاشتاجًا معينًا يتصدر قائمة الأكثر تداولًا على منصة X (تويتر سابقًا)، الآلاف من التغريدات، مئات الآلاف من الإعجابات وإعادة التغريد، يبدو الأمر وكأن هناك رأيًا عامًا جارفًا حول قضية ما. لكن هل هذا حقيقي؟ غالبًا ما يكون الجواب.. لا، تعد الهاشتاجات والتريندات الوهمية من الأدوات الفعالة التى تستخدمها اللجان الإلكترونية لخلق انطباع زائف بوجود رأى عام واسع حول قضية معينة، يتم ذلك عبر إطلاق حملات منظمة تستخدم عددًا كبيرًا من الحسابات الوهمية أو المبرمجة (البوتات) لتضخيم هاشتاج معين، مما يجعله يتصدر قائمة الأكثر تداولًا فى دولة معينة، هذا التكتيك يعطى انطباعًا بأن هناك دعمًا شعبيًا كبيرًا لفكرة ما، حتى لو كانت هذه الفكرة لا تحظى بقبول حقيقى فى الشارع، لإيهام الجمهور بوجود حركة جماهيرية غاضبة أو مؤيدة، ودفع الأفراد للانضمام إليها.
نزع الهيبة من كل شيء
يشتهر الشعب المصرى دائما بخفه الدم التى تعطيه القدرة على مواجهة متاعب الحياة، ولكن أن تصبح السخرية فى أيدى اللجان الإلكترونية تتحول إلى سلاح فتاك، حيث تستخدم تلك اللجان السخرية والتسفيه كأداة نفسية قوية لهدم الثقة فى رموز ومؤسسات الدولة، فبدلًا من المواجهة المباشرة، تلجأ هذه اللجان إلى السخرية من الإنجازات، والتقليل من شأن القرارات، وتشويه صورة الشخصيات العامة عبر «الكوميكس» والتعليقات الساخرة، ويسهم هذا الأسلوب فى نزع الهيبة عن الدولة والمؤسسات الوطنية، ويغذى شعورًا عامًا باليأس والإحباط بأن لا شيء يمكن أن يتحقق لإفقاد المواطنين الثقة فى قدرتهم على التغيير الإيجابي، ودفعهم نحو السلبية واللامبالاة.
اقتطاع التصريحات وتشويه السياق
كم مرة سمعت تصريحًا لمسئول رسمى يبدو صادمًا، لتكتشف لاحقًا أنه تم اقتطاعه من سياقه تمامًا؟ وتعد تلك العملية مع وإعادة نشر تصريحات المسئولين بشكل محرف من الأساليب الأكثر خبثًا وتأثيرًا، فكلمة واحدة أو جملة منتزعة من خطاب طويل يمكن أن تغير المعنى بالكامل وتقدم صورة مضللة عن المتحدث أو القضية، وتستغل اللجان الإلكترونية هذا التكتيك لإثارة الغضب الشعبى ضد المسئولين وخاصة فى أوقات الأزمات، أو لتأجيج الخلافات بين فئات المجتمع، أو لتشويه الحقائق المتعلقة بقرارات وقوانين مهمة، ويسهم هذا الأسلوب فى نشر المعلومات المضللة بسرعة، ويجعل من الصعب على الجمهور التحقق من صحة المعلومة فى ظل تدفقها السريع.
التشكيك الممنهج
تعد استراتيجية التشكيك الممنهج فى كل ما يصدر عن الدولة من بيانات وتصريحات رسمية من الركائز الأساسية لعمل اللجان الإلكترونية، سواء كانت هذه البيانات تتعلق بالاقتصاد، أو الصحة، أو الأمن، فإن الهدف هو إفقاد المواطنين الثقة فى مصداقية المصادر الرسمية، ودفعهم للبحث عن المعلومات فى مصادر بديلة، غالبًا ما تكون هى نفسها التى تدار من قبل هذه اللجان، هذا التكتيك يسهم فى خلق حالة من الفوضى المعلوماتية، ويضعف من قدرة الدولة على التواصل الفعال مع مواطنيها فى أوقات الأزمات.
الذباب الإلكترونى العدو الأخطر
«الذباب الإلكتروني» هو الشكل الأخطر من اللجان الإلكترونية، فهى تلك المجموعات المنظمة من الحسابات الوهمية أو الحقيقية التى تعمل بشكل منهجى لنشر الشائعات والأكاذيب وتشويه الحقائق على منصات التواصل الاجتماعي، إنها أشبه بالسرطان الذى ينهش فى جسد الوطن، فمهام هذه المجموعات مدبرة بخبث شديد، حيث يتم اختيار عناصر هادئة وعلى دراية كاملة بما يدور على الساحة يتفاعلون بشكل تقليدى كمواطنين عاديين، ثم يبدأون فى الترويج لأنفسهم كداعمين للدولة ومشروعاتها الوطنية، ليصطادوا بعد ذلك أى خطأ مهما كان صغيرًا ويضخموه لشن حملات هجوم وتشويه وقلب للحقائق.
وتستهدف هذه الحملات العقل الجمعى للمواطنين، وتصيبه بتشويش خطير، وتحول أى خطأ مهما كان حجمه إلى أزمة خطيرة، مع إضافة بهارات الإحباط والتشكيك والتسخيف، والهدف النهائى للذباب الإلكترونى هو تدمير جينات الانتماء للوطن، ليصبح المواطن أسيرًا للإحباط ورقمًا مهمًا فى معادلة الهدم وإثارة الفوضى، فهى حرب نفسية على الدولة المصرية لإيقاع الفتنة بين أهم عنصرين لمكونات الدولة الشعب والنظام السياسى ليحترق العنصر الثالث: الأرض.
وتتعدد مهام هذه اللجان، ففريق يتولى بالنشر الرقمى عبر منصات التواصل الاجتماعي، وآخر بتحفيز المتصفحين، وثالث بالتعليق والرد، وتتولى فرق أخرى تبرير الأخطاء التنظيمية، وبسبب الكم الهائل من الشائعات التى تنشر يوميًا، لا يدرك بعض متصفحى مواقع التواصل أن أنشطة هذه اللجان تعكس فشل الكيانات الداعمة فى إقناع الناس بأفكارها، كونها بلا برامج واقعية أو حلول حقيقية، إنها تعتمد على التضليل والتشويه كبديل عن الحجة والبرهان.
تجارب دولية: مصر ليست وحدها
لم تكن مصر وحدها مسرحًا لتأثيرات السوشيال ميديا المزدوج فى أوقات الأزمات، فمع تفشى جائحة كورنا، شهدت العديد من الدول حول العالم ظواهر مشابهة، حيث تحولت منصات التواصل الاجتماعى إلى بؤر لنشر الذعر والمعلومات المضللة، مما أثر سلبًا على استجابة المجتمعات للأزمة، لم يعد الأمر مقتصرا على دول نامية، بل امتد إلى دول مثل الولايات المتحدة وأستراليا وهونج كونج، حيث تكررت مشاهد الذعر والشراء الهستيري، مما ألقى بظلاله على جهود الحكومات لاحتواء الجائحة وتوفير الاستقرار للمواطنين، حيث انتشرت شائعات حول نقص المواد الغذائية الأساسية، مما دفع المواطنين إلى حالة من الذعر والشراء الهستيري، رغم التأكيدات الحكومية بعدم وجود أى نقص حقيقي.
وفى عام 2021، استيقظت بريطانيا على وقع أزمة وقود خانقة، لم يكن السبب نقصًا حقيقيًا فى الإمدادات، بل كانت شرارة صغيرة ألقتها لجان إلكترونية فى فضاء السوشيال ميديا، لتتحول إلى حريق هائل من الذعر، بدأت القصة بصور متفرقة لطوابير سيارات أمام محطات وقود قليلة، وسرعان ما انتشرت كالنار فى الهشيم عبر منصات مثل فيسبوك و«X»، لتتحول المنشورات من مجرد نقل للخبر إلى دعوات صريحة للتخزين، مصحوبة بصور ومقاطع فيديو درامية تظهر محطات وقود خاوية على عروشها، خلال ساعات، تحول القلق إلى هلع جماعي، حيث لم يعد الناس يتفاعلون مع حقيقة ندرة الوقود، بل مع الخوف من ندرته، «أزمة إمدادات الوقود فى المملكة المتحدة»، أظهرت كيف يمكن لمنصات التواصل الاجتماعى أن تخلق «نبوءة تحقق ذاتها».
وذلك النمط من الذعر الرقمى ليس حكرًا على أزمات السلع، ففى خضم الاستقطاب السياسى الذى يشهده العالم، فخلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024، على سبيل المثال، تم استخدام أدوات الذكاء الاصطناعى التوليدى لإنشاء مقاطع فيديو مزيفة، مثل ذلك الذى يظهر فيه رجل يزعم أنه صوت فى مقاطعتين مختلفتين، والذى تبين لاحقًا أنه تم إنتاجه فى روسيا، هذه الروايات الكاذبة، التى تنتشر بسرعة البرق، لا تهدف فقط إلى تشويه سمعة المرشحين، بل إلى تقويض الثقة فى العملية الديمقراطية بأكملها، وزرع بذور الشك والريبة فى قلوب المواطنين، مما يجعلهم أكثر عرضة للتصديق والتفاعل مع أى شرارة، سواء كانت حريقًا حقيقيًا فى مبنى اتصالات أو حريقًا افتراضيًا فى الفضاء الرقمي.
درع الوعى وسيف القانون
فى خضم هذا الطوفان المعلوماتي، تبرز التربية الإعلامية الرقمية كدرع يحمى المواطن المصرى من سهام الشائعات والأخبار الكاذبة، فلم تعد المعركة تقتصر على تفنيد الشائعات بعد انتشارها، بل أصبحت معركة استباقية، تبدأ من بناء وعى نقدى لدى كل فرد، تخيل أن كل مواطن، مثل عم محمد الذى ذكرناه فى البداية، يمتلك الأدوات التى تمكنه من التمييز بين الخبر الحقيقى والمزيف، بين المعلومة الموثوقة والدعاية المضللة. هذا هو جوهر التربية الإعلامية الرقمية «تحويل المواطن من مجرد متلقٍ سلبى للمعلومات إلى مشارك فعال، قادر على التحليل والتقييم والنقد».
فى سياق أزمة حريق سنترال رمسيس، كان يمكن للتربية الإعلامية الرقمية أن تلعب دورًا حاسمًا، فبدلًا من الانسياق وراء الأخبار المجهولة المصدر التى أثارت الفزع، كان المواطن الواعى سيبحث عن المصادر الرسمية، مثل حسابات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء أو وزارة الاتصالات، ليحصل على المعلومة الدقيقة، كان سيتعلم كيف يتحقق من صحة الصور ومقاطع الفيديو التى يمكن التلاعب بها عن طريق أدوات الذكاء الاصطناعى أو استحضار حوادث قديمة على أنها تفاصيل حديثة، وكيف يتعرف على الحسابات الوهمية التى تسعى إلى نشر الفوضى، التربية الإعلامية الرقمية ليست مجرد مهارات تقنية، بل هى ثقافة مجتمعية، تبدأ من الأسرة والمدرسة والجامعة، وتستمر عبر وسائل الإعلام الرصينة والمؤسسات الدينية والثقافية.
وبالتوازى مع بناء درع الوعي، يجب أن يكون هناك سيف القانون الرادع، فحرية التعبير لا تعنى حرية التدمير، وهنا يأتى دور المادة 188 والمادة 80 (د) من قانون العقوبات المصري، اللتين تشكلان إطارًا قانونيًا حاسمًا لمعاقبة كل منْ تسول له نفسه نشر الشائعات لتكدير الأمن العام أو إثارة الفزع بين الناس، إن تطبيق هذه المواد بحزم وشفافية يبعث برسالة واضحة: لا تسامح مع منْ يعبث بأمن المجتمع واستقراره. إنها رسالة لكل منْ تسوّل له نفسه استغلال أزمة، مثل حريق سنترال رمسيس، لتحقيق أهداف خبيثة، بأن هناك عواقب وخيمة تنتظره.
إن المعركة ضد الشائعات هى معركة ذات شقين: شق يبنى الوعي، وشق يفرض القانون. لا يمكن لأحدهما أن ينجح دون الآخر، فبناء مجتمع رقمى آمن يتطلب مواطنين واعين ومسئولين، وقانونًا رادعًا يحمى الجميع، رحلة طويلة، لكنها ضرورية لضمان أن يظل الفضاء الرقمى أداة للبناء والتقدم، لا معولًا للهدم والتخريب.