خلال الزيارة، كان اللقاء بين محافظ البنك المركزى المصرى، حسن عبدالله، ومحافظ بنك الشعب الصينى، نقطة محورية كشفت عن الأبعاد الاستراتيجية الجديدة للعلاقات الاقتصادية. تم استعراض ملفات دقيقة تتعلق بالسياسات النقدية والتعاون المصرفى، وهى ملفات حساسة تُناقش عادةً بين الحلفاء الاستراتيجيين فقط، ما يُشير إلى مستوى غير تقليدى من الثقة المتبادلة بين الجانبين، ووجود رغبة مشتركة فى بناء نظام مالى ثنائى مستقل نسبيًا عن النظام الدولى التقليدى الذى تهيمن عليه واشنطن.
أهم الموضوعات التى نوقشت تعكس هذا التوجه نحو السيادة النقدية وتوسيع الخيارات المالية:
1. تسويات المعاملات بالعملات المحلية (الجنيه واليوان): تُعد هذه الخطوة بالغة الأهمية لتقليل الضغط على احتياطى مصر من الدولار الأمريكى. تُمكن الشركات المصرية والصينية من التعامل مباشرةً بعملات البلدين، مما يلغى الحاجة إلى المرور بالدولار كوسيط. هذا يقلل من تكلفة التحويلات المصرفية ومخاطر تقلبات سعر صرف الدولار، ويُعزز من استقلالية القرار الاقتصادى المصرى.
2. تشجيع البنوك الصينية على التوسع فى مصر: تمثل هذه النقطة خطوة استراتيجية نحو تعزيز الوجود المصرفى الصينى فى السوق المصرية. فتح فروع لبنوك صينية عملاقة مثل «بنك الصين الصناعى والتجارى» أو «بنك التنمية الصينى» فى مصر سيسهل تمويل التجارة والمشروعات المشتركة، دون الحاجة لتدخل بنوك غربية أو الخضوع لشروط قد تكون مجحفةً أو غير مرنة. هذا يُوسع مصادر التمويل المتاحة للاقتصاد المصرى.
3. مذكرة تفاهم حول اتفاقية مبادلة العملات: هذه الاتفاقية تُتيح للبنك المركزى المصرى الحصول على سيولة باليوان الصينى مباشرةً، مقابل ضخ الجنيه المصرى فى السوق الصينية (والعكس). تُخفف هذه الآلية من تقلبات سعر الصرف وتدعم الاحتياطى النقدى من العملات الأجنبية البديلة، وتُعزز من قدرة مصر على مواجهة الصدامات الاقتصادية الخارجية.
توقيع 3 مذكرات تفاهم نوعية.. نقل التعاون من السياسة إلى السوق
بعيدًا عن النقاشات رفيعة المستوى، ترجمت الزيارة الرؤى المشتركة إلى خطوات عملية عبر توقيع ثلاث مذكرات تفاهم نوعية، تُؤشر إلى نقلة فى طبيعة التعاون نحو آليات السوق المباشرة:
1. مذكرة تفاهم لتسهيل استخدام اليوان فى منطقة تيدا (قناة السويس): منطقة «تيدا» الصناعية الصينية فى مصر، ضمن محور تنمية قناة السويس، هى واحدة من أكبر المناطق الصناعية الصينية خارج حدود الصين، وتُعد نموذجًا ناجحًا للتعاون الصناعى. الاتفاق على استخدام اليوان فى تعاملات الشركات الصينية داخل هذه المنطقة يُعد دفعة قوية للاستثمار؛ فهو يُقلل من مخاطر التحويلات المصرفية، ويُشجع على جذب مزيد من الشركات الصينية، ويجعل مصر نموذجًا عربيًا–إفريقيًا رائدًا للتعامل باليوان مباشرةً فى المناطق الاقتصادية الخاصة.
2. ومذكرتان لتوسيع استخدام بطاقة «UnionPay» الصينية فى مصر: «UnionPay» هى أكبر شبكة بطاقات دفع إلكترونية فى العالم من حيث عدد البطاقات المُصدرة، متفوقة على «Visa» و «MasterCard» تسهيل استخدام UnionPay فى مصر له أبعاد اقتصادية متعددة: فهو يُسّهل الإنفاق للسياح والمستثمرين الصينيين، مما يعزز من حركة السياحة والاستثمار المباشر. كما أنه يُمهد الطريق لنظام دفع مزدوج (محلى – آسيوى) بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية على خدمات المدفوعات، ويُقلل من تكلفة العمولة الدولية فى المعاملات البنكية، مما يصب فى مصلحة المستهلك والمؤسسات المالية المصرية.
الأبعاد الاقتصادية الأعمق للزيارة
تتجاوز أهمية هذه الزيارة مجرد توقيع اتفاقيات فردية، لتشمل أبعادًا اقتصادية أعمق تُعيد تشكيل مكانة مصر فى الاقتصاد العالمى:
1. دعم التوسع الصينى فى مصر: الصين تُدرك أهمية موقع مصر فى سلاسل الإمداد العالمية، خاصة فى ظل التوترات الجيوسياسية الحالية التى تدفع الشركات للبحث عن مراكز إنتاج وتوزيع بديلة. تريد بكين أن تجعل من مصر بوابةً للصادرات الصينية نحو إفريقيا وأوروبا عبر قناة السويس، مستفيدة من اتفاقيات التجارة الحرة التى تربط مصر بهاتين المنطقتين.
2. نقل مصر تدريجيًا خارج دائرة الاعتماد على الغرب: عبر أدوات مثل مبادلة العملات، استخدام اليوان فى التداولات التجارية، وتشجيع استخدام البطاقات الصينية، تصبح مصر أقل تعرضًا لمخاطر النظام المالى الدولى التقليدى. هذا يكتسب أهمية خاصة فى ظل العقوبات الغربية المتزايدة على بعض الدول، وتشدد شروط القروض من صندوق النقد والبنك الدولى، بالإضافة إلى تقلبات الدولار التى تؤثر بشكل مباشر على أسعار الواردات والتكلفة الإجمالية للتمويل. هذه الخطوات تعزز من مرونة الاقتصاد المصرى وتوفر بدائل استراتيجية.
3. فتح الباب أمام تعاون نقدى أعمق: هذه الخطوات التأسيسية قد تتطور لاحقًا إلى مستويات أعمق من التعاون المصرفى والمالى. يمكن أن تشمل فتح حسابات مشتركة للبنوك المصرية فى المؤسسات المالية الصينية، وتسعير بعض الواردات الصينية باليوان مباشرة دون الحاجة لوسيط، وربط الأنظمة المصرفية بين البلدين لتحسين كفاءة التحويلات والمدفوعات، مما يوفر بيئةً ماليةً أكثر سلاسةً وفاعليةً.
4. تكامل مع مشاريع البنية التحتية الكبرى: يتكامل التعاون المالى والنقدى مع المشاريع الكبرى الجارية فى مصر بمساهمة صينية، مثل محطات الكهرباء التى تُنفذها شركات صينية، ومشروعات النقل مثل القطار الكهربائى الخفيف (LRT) الذى يربط القاهرة بالمدن الجديدة. كما يمتد ليشمل اتفاقيات فى قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لدعم تطوير شبكة الجيل الخامس (5G)، والتعاون الزراعى لتطوير الزراعة الذكية واستيراد الأسمدة والآلات المتطورة، واتفاقيات التعليم والتبادل الثقافى مثل معاهد كونفوشيوس، بالإضافة إلى تمويل مشاريع البنية التحتية عبر قروض ميسرة من البنوك الصينية.
اتفاق مبادلة الديون الصينية باستثمارات
فى خطوة جريئة وغير مسبوقة على صعيد العلاقات الثنائية، أعلنت مصر والصين فى عام 2024 عن التوصل إلى اتفاق تاريخى لمبادلة ديون مستحقة على مصر للصين بقيمة 9 مليارات دولار، وتحويلها إلى استثمارات مباشرة فى مشروعات حيوية داخل مصر، بدلًا من سدادها نقدًا. يُعد هذا الاتفاق مؤشرًا قويًا على عمق الشراكة الاستراتيجية والثقة المتبادلة بين البلدين، ويعكس التفكير المُبتكر فى إدارة العلاقات الاقتصادية الدولية.
تشمل تفاصيل الاتفاق توجيه المبلغ المبادَل إلى مشاريع استراتيجية فى قطاعات البنية التحتية، والطاقة المتجددة، والمناطق الصناعية، مما يضمن أن تعود هذه الاستثمارات بالنفع المباشر على الاقتصاد المصرى. يتم تنفيذ هذه المشروعات من خلال شركات صينية متخصصة، بالتعاون الوثيق مع شركاء مصريين، مما يضمن تبادل الخبرات ونقل التكنولوجيا. وتمتد فترة تنفيذ هذه المشاريع على مدار 5 إلى 7 سنوات، مما يضمن استمرارية التدفق الاستثمارى والتخطيط طويل الأمد.
العوائد المنتظرة من هذا الاتفاق متعددة. على الجانب المصرى، يساهم بشكل مباشر فى تخفيف أعباء خدمة الدين الخارجى، وتحسين الوضع المالى والنقدى، وضخ استثمارات مباشرة تعزز النمو وتوفر فرص عمل. كما أنه يعزز نقل التكنولوجيا والمعرفة من خلال الشراكة فى التنفيذ، ويدعم ثقة الأسواق فى قدرة مصر على إدارة مديونياتها بطرق مبتكرة. أما على الجانب الصينى، فيعزز هذا الاتفاق من نفوذها الاقتصادى فى منطقتى إفريقيا والشرق الأوسط، ويضمن استرداد قيمة الدين عبر أصول ومنشآت استثمارية منتجة، بدلًا من مواجهة مخاطر التعثر، ويدعم الشركات الصينية العاملة بالخارج ويوسع نطاق أعمالها فى سوق واعدة مثل مصر.
الصين شريك غير مزعج.. مقاربة مختلفة
تُعامل الصين مصر بمبدأ «المنفعة المتبادلة دون تدخل سياسى» بخلاف بعض القوى الغربية، لا تفرض بكين شروطًا سياسية أو مطالب متعلقة بحقوق الإنسان أو بنية النظام الداخلى. وهذا يتجلى فى عدم التدخل فى الشأن الداخلى المصرى، واحترام السيادة المصرية، والتركيز على الجدوى الاقتصادية والمردود المالى للمشروعات المشتركة. هذه التجربة الناجحة، المدعومة بقدرات صناعية وتكنولوجية جبارة، تجعل الصين قوةً عالميةً صاعدةً للقمة بقوة دون أن تكون مزعجةً أو تفرض أجندتها.
هل نحن أمام تحالف مالى جديد؟
يمكن اعتبار الخطوات التى تمت خلال هذه الزيارة بمثابة بنية تأسيسية لتحالف مالى مزدوج بين مصر والصين، وهو ما يحمل دلالات استراتيجية كبيرة:
1. ريادة مصر الإقليمية: مصر ستكون من أوائل دول المنطقة التى تدير جزءًا من تجارتها بعملة غير الدولار، مما يضعها فى طليعة الدول الساعية لتنويع نظامها المالى.
2. تكامل مع بريكس: يتكامل هذا التوجه مع تحولات أوسع داخل تحالف بريكس (الذى انضمت إليه مصر فى 2024)، فى إطار السعى إلى إنشاء عملة مشتركة بين الدول الأعضاء، أو على الأقل نظام تسويات مالية جديد يقلل من الاعتماد على الدولار.
3. كفاءة المعاملات المصرفية: وجود بنك صينى مباشر فى مصر، وتشجيع التواجد المصرفى المتبادل، قد يُغنى لاحقًا عن الحاجة لمراسلين بنكيين فى أوروبا أو نيويورك، ما يُقلل الكلفة ويُزيد من السرعة والكفاءة فى التحويلات المالية الدولية.
التحديات والآفاق المستقبلية
على الرغم من الطفرة الكبيرة والزخم المتزايد فى العلاقات المصرية-الصينية، إلا أن هناك بعض التحديات التى يجب التعامل معها بفاعلية لضمان استدامة هذه الشراكة وتحقيق أقصى استفادة ممكنة منها:
1. العجز التجارى المزمن: يُعد العجز التجارى المستمر لصالح الصين تحديًا يتطلب وضع خطة طموحة لزيادة الصادرات المصرية إلى السوق الصينية، وتنويع قاعدة هذه الصادرات لتشمل منتجات ذات قيمة مضافة أعلى. يتطلب ذلك جهودًا لتعزيز القدرة التنافسية للمنتج المصرى وفتحه لأسواق جديدة فى الصين.
2. مخاوف الاعتماد المُفرِط على التمويل: يجب أن تقابل الاستثمارات والتمويلات الصينية الضخمة خططًا مصرية لتنويع مصادر الشراكات والتمويل، لتجنب أى اعتماد مُفرط قد يؤثر على استقلالية القرار الاقتصادى. هذا يتطلب سياسة اقتصادية متوازنة تستفيد من فرص التعاون المتعددة.
3. ضرورة نقل التكنولوجيا الفعلى: لا ينبغى أن يقتصر التعاون على استيراد المعدات الصينية، بل يجب التركيز على نقل التكنولوجيا والمعرفة بشكل فعلى إلى الصناعة المصرية والكوادر المحلية. هذا يشمل برامج التدريب، والتوطين الصناعى، والشراكات البحثية لضمان بناء قدرات ذاتية مستدامة.
4. تعزيز التعليم والتدريب: هناك حاجة ماسة لتعزيز برامج التعليم الفنى والتدريب المهنى لسد الفجوة فى الكفاءات الفنية المطلوبة لتشغيل وصيانة المشاريع المشتركة الكبرى. هذا يضمن أقصى استفادة من الاستثمارات ويقلل الاعتماد على الخبرات الأجنبية.
ومع ذلك، فإن المستقبل يبدو واعدًا إذا استمرت مصر فى تعزيز موقعها كمركز لوجيستى واستثمارى رئيسى ضمن مبادرة «الحزام والطريق»، ومع استمرار تحسين مناخ الاستثمار المحلى لجذب المزيد من الشركات الصينية، فإن هذه الشراكة ستشهد مزيدًا من التطور والازدهار. هذه الخطوات، المدعومة بمبادئ التعاون المتبادل وعدم التدخل، تُعد مرحلةً مختلفةً تمامًا من الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
إن زيارة رئيس مجلس الدولة الصينى إلى القاهرة ليست مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل هى إعلان دخول العلاقات الاقتصادية بين البلدين إلى مرحلة ما بعد التعاون.. إلى مستوى الشراكة النقدية والتكنولوجية. الرسالة الأهم هى أن مصر لم تعد تكتفى بجذب الاستثمارات أو استيراد المنتجات، بل أصبحت شريكًا ماليًا ونقديًا للصين، فى تحالف قد يُغير شكل التمويل فى المنطقة خلال السنوات المقبلة. تُمثل العلاقات المصرية-الصينية نموذجًا متميزًا للتعاون الدولى المبنى على الاحترام المتبادل، وتحقيق المصالح المشتركة، والرؤى المتقاربة لمستقبل النظام العالمى. ومع تعمق الشراكة الاستراتيجية الشاملة، والانضمام التاريخى لمصر إلى تحالف «بريكس»، وتفعيل اتفاقيات التعامل بالعملات المحلية ومبادلة الديون، بالإضافة إلى الخطوات الأخيرة لتعزيز التعاون المصرفى وتسهيل استخدام العملات المحلية وبطاقات الدفع الصينية، فإن البلدين يقفان على أعتاب مرحلة جديدة وواعدة من التعاون الاقتصادى والجيوسياسى العابر للقارات. يبقى التحدى الرئيسى هو استثمار هذه الفرص الاستراتيجية بفاعلية لتحقيق التنمية المستدامة والشاملة فى مصر، وتعزيز موقعها كقوة اقتصادية إقليمية فاعلة ومؤثرة فى عالم يتجه بثبات نحو التعددية والتعاون جنوب- جنوب.