تأخذنا الأحداث ويلتهمنا الحاضر دون ماض لا يمكن محوه من الذاكرة بقليله وكثيره.. رغم أن فترات الراحة بعد العناء قد تجعلك تهمل تفاصيل قد تحيد بها عن أصحاب الحق والفضل.. لكن معاودة الدفع تدفع بنا لفتح ملفات تستحضرها الذاكرة، كلما رغبت بعبور وأحداث علنا نفهم الحاضر الذى مازال مشتبكا بالماضى.
ربيع عربى هبت عواصفه فأسقطت أنظمة الطالح والصالح ومعها شعوبا ودولا؟!.. فما نجحت أى من الشعوب العربية حتى الآن فى إقامة أنظمة منتخبة مستقرة وفشل التحول الديمقراطى، الذى رافق شعارات هذه الثورات فأحدث الخلل والتشوه والمزايدات من النخب بدفع من الأجندات.. فضاعت الشعوب فى دهاليز المتشددين الدينيين والفوضويين من عملاء الخارج المدعومين بتمويلات خارجية.. وإن كان الإخوان جامعين بين التيارين.. مما خلق تصارعا وتكالبا لكل بلدان المنطقة، وكأنها العدوى التى انتشرت بداء عضال.. ومعها أوشكت مصر على الفوضى بسيناريوهات ممنهجة فى إشعال الحرائق وضرب الوحدة الوطنية، وحرق الكنائس ومهاجمة مؤسسات الدولة حتى مباريات كرة القدم لم تسلم؟!.. لولا وعى الشعب المصرى بطل القصة فى تمسكه بوحدة وطنه وسلامة أرضه من الكلاب والضباع من آكلى لحوم الأوطان.
رفض جماعة ذات فكر صدأ مدعومة بقوة دولية ظنت فى نفسها صلابة وقوة لا تقهر!.. صنعوا الخصومات والاختصامات ليفوذوا ويلوذوا وتكن لهم السيادة؟!.. خراف عقيدتهم السمع والطاعة وطأطأة الرأس للمرشد الأعلى.. توهموا أن الشعب المصرى قطيع يرضى الصمت والضغط والتخويف فكان الكفاح رغما واختيارا ليفوق الحدود فاحترقوا بنار مخططاتهم.
قطعنا طريقا طويلا فاق العقد من الزمان.. أقوى ما حمله المصريون عزيمة وجيش يحميه.. ورغم المعيقات تجاوز الأزمة وتخطى بسلام مرحلة انتقالية ضل الكثير الطريق عنها وتحولت بلدانهم إلى جماعات متناحرة متنافرة على أمور أطاحت باستقرار بلادهم.. نسوه وتمسكوا بمصالح شخصية وحزبية.. لكن المصريين منذ اليوم الأول أعينهم كانت مصوبة على جيشهم بحاجة ملحة للفريق عبدالفتاح السيسى ليحكم التناحر والتخاصم وينظم شؤون البلاد.. رغم إعلانه أنه ليس له ولا للجيش مطمع فى سلطة.. واتخذ المصريون منه زعيما.. حتى أنهم طبعوا صوره وعلقوها على الجدران.. وصور تشبه بطاقة الرقم القومى الخاص به كانوا يقتنونها فى حب واعتزاز.. وأذكر أن مجلة المصور طبعت صورا تذكارية له مع أحد أعدادها نفدت جميع النسخ المطبوعة وأعادنا طباعة الصورة الشخصية له التى كانت سببا فى نفاد العدد.
زعيم شعبى أحبه جموع المصريين وعلقوا آمالا كثيرة عليه.. محل للثقة وأكثر بولادة عصر جديد للتجربة المصرية.. وقدوة حاولت بعض التجارب فى المنطقة الوصول إليها وللأسف لم يصلوا لأسباب داخلية.. أو لعدم فهم ووعى شعوبهم لمخاطر مخططات الأجندات الغربية.. صحيح أن الشعب المصرى لا يغلب عليه الطابع القبلى مثل باقى الشعوب العربية إلا أنه حتى هذا النسيج فى شرق البلاد وغربها كان محل تقدير من القيادة السياسية.
تجربة فريدة مازال التاريخ والحاضر يحاول فك لغزها.. خالية من التحيز الطائفى أو الحزبى أو العنصرى بكافة أشكاله.. راسمة مشهدا فريدا لتجربة سياسية دون إقصاء أو اضطهاد.. مدعومة بتجربة من الإصلاح الاقتصادى تعاند الركود العالمى بأجنحة من الخبرات.. تعالج وتتصدى باستقرار على مستوى جيد فى المواجهة بشكل عام.. ففاض الأمن ربوع البلاد.. مع حركة من الأعمار والتطوير الحضارى يتباهى بها كل مصرى كان بالأمس القريب يعاير بتشوه الوجه الحضارى، وخاصة القاهرة عاصمة البلاد.. وتفشى العشوائيات كظاهرة كارثية تهدد الأرواح.. فكانت المدن الجديدة التى امتدت لتشمل الظهير الصحراوى.. مباهية أجمل المدن العالمية ما جعل من البلاد موطنا للاستثمار.
وإذا كان فى انتصارات حرب أكتوبر 1973 وعبور خط بارليف عبقرية عسكرية تدرس للآن فى الأكاديميات العسكرية فى العالم فسيظل 3 يوليو يوما فارقا فى تاريخ منطقة الشرق الأوسط.. الذى أحبط كل محاولات تغيير شكلها بإحلال الشرق الأوسط الجديد.. وهو أيضا السبب الرئيسى لخوض الحروب الحالية فى المنطقة بتوسيع رقعة إسرائيل وجعلها الدولة الأقوى.. بحروب اليمن وسوريا ولبنان وإبادة الشعب الفلسطينى والضغط علينا بقبول النزوح لأراضى سيناء.. وتأجيج الفوضى فى ليبيا والسودان.. تمزقت المنطقة وزالت أنظمة وضعفت دول وكشفت وتعرت دول كنا نظنها راسخة!.. خيمت الهشاشة على كل دول المنطقة!.. تحت مزاعم المعارضة بشعارات جوفاء.. مزقت الحروب الأهلية العديد منها وشردت شعوبها ولم تجد سوى مصر ملجأ وملاذا.. فمصر 3 يوليو هى ما استوعبت معظم الفارين والنازحين.
فمازالت مصر الصامدة الوحيدة فى المنطقة.. شعب يعرف عدوه ويلقى له بالا.. يعرف قدره بوجوده فى قلب العالم.. يحمل صبرا طويلا لا يهزمه جوع ولا يغير معدنه بحفنة من الأموال.. يحمل معادلة صعبة فى تحقيق الأهداف دون فرص استعراضية للعضلات.. رغم عدم نمطية أو روتينية رد فعل الشعب المصرى، لكن السمة الرئيسية هى إخلاصه لجيشه الذى يضم أبناءه.. فلا بيت بدون ابن يؤدى الخدمة العسكرية.. معضلة التوأمة منذ أيام الفراعنة.. من غابر الأيام منذ كان ليس للآخرين وجود.. يجمع الشتات ويمزق الأعداء.. يلتقى المصرى بوطنه وجيشه فى كلمة واحدة.
الشعب المصرى حر.. يتمسك بحريته ويرفض التخلى عنها.. ويخوض الثورات لإعلاء كلمتها مهما كانت الظروف ومهما فرض عليه.. مسؤولية تحملها نافضا رافضا أى محاولات لتغيير هويته من غير استجداء معونة دولية أو مزايدة للفوز بمكاسب هشة.. مهما اتخذت الأحداث من منحيات شديدة الخطورة من التخويف.. بإحداث تصعيد يهدد الحالة الاقتصادية.. فالمصرى لا يتخلى عن وطنه.. شعب غير قابل للهجرة مثلما فعلت الشعوب المحيطة.. فلم يكن منا يوما نازحا.
ارتباطه بأرضه وليد الفطرة وعقيدة الثأر التى خلقت فى جيناته.. أرضه عرضه.. أرض المصرى أغلى من ابنه الذى يستقبله شهيدا بالزغاريد يزفه للجنة فى فرح.
فى التحام مع جيش لم ينخرط فى الانحياز لأى فريق أو فصيل على حساب آخر ولم ينحز سوى للوطن والمواطن.. يتجرد وينأى عن الهوى والمغالطة.. لم ينفصل عن شعبه ولم ينفصل شعبه عنه وعن قيادته.
وتستمر أحداث القصة فالمخططات لم تتوقف ولن تتوقف.. وإلا لماذا تشعل الحروب من حولنا وتحبط محاولات التهدئة ووقف إطلاق النيران وفشل المصالحات حتى بين أبناء الشعب الواحد؟!.
ويفوق وعى الشعب المصرى كل التوقعات، حاملا سر العلاقة المخلصة بجيشه.. يبعث كل يوم بتفويض جديد للجيش والقيادة السياسية.. بحروف نافضة كبيرة قوية.. بيقين المكافح الحر.. كتبت بمداد الدم والعزة.. رافضا كل محاولات اصطياده وافتراس بلاده.. فى قصة خاصة بين شعب وجيش.