تحلُّ علينا ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، وهى من أعظم المحطات فى التاريخ الإسلامى، الهجرة ليست حدثًا عابرًا أو مجرد انتقال مكانى من مكة إلى المدينة، بل كانت تأسيسًا حقيقيًا لمجتمع جديد قائم على مبادئ الإيمان والتعايش والعدالة فى زمن اشتد فيه الأذى، بل هى محطة فارقة فى تاريخ الأمة الإسلامية، جاءت لبناء مجتمع جديد يقوم على العدل والمساواة، وتترسخ فيه قيم التسامح والتعاون بين أطياف متعددة من البشر، خاصة فى ظل الاضطرابات التى تعيشها الأمة الإسلامية، ولا نزال نستلهم دروسًا ومواعظ عظيمة من الهجرة النبوية المشرفة.
على المهدى، عضو هيئة كبار العلماء، قال إن الهجرة النبوية الشريفة تعلمنا التضحية والصبر عند الشدائد والمحن، حيث ينبغى أن يصطف جميع المسلمين، كما ترسخ لنا أن بناء الوطن مُقدم على المذهب والدين والطائفة، وعندما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أول ما شغل باله هو إقامة سلم اجتماعى بين العناصر المكونة لفئات المجتمع فى المدينة، والأمة عندما تتعرض لخطر لا يفرق العدو بين مسلم وغير مسلم، والنبى صلى الله عليه وسلم كان على وعى تام بهذه القضية، وأقام وثيقة المدينة وحافظ فيها على حقوق وحرمات وحدود الوطن، وهذا هو الفهم الصحيح للدين، وهو تهيئة وطن آمن يمكن لإنسان أن يمارس فيه شعائر عبادته وتُقام فيه الحرمات ويُؤسس فيه نظام يرعى العدالة، فكان المسلمون جنبًا إلى جنب مع مشركى العرب واليهود يمارسون التجارة بحرية.
فيما أوضحت الدكتورة حياة العيسوى، الباحثة فى الجامع الأزهر الشريف، أنه تمر علينا هذه الأيام ذكرى عطرة من نفحات الدهر، ألا وهى ذكرى هجرة النبى صلى الله عليه وسلم ، قال النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ - أَوْ هَجَرُ - فَإِذَا هِى الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ».
وأكدت «العيسوى» أنه لا يجب الاكتفاء بإحياء مناسبات الإسلام فقط؛ لأننا فى أمس الحاجة لأن نعيش بالإسلام، والهجرة النبوية حدث ضخم من أحداث الإسلام، وتُعد الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة حدثًا محوريًا فى التاريخ الإسلامى، وهى غنية بالدروس والعبر التى يمكن استخلاصها لتقليل العنف ونشر السلام فى المجتمعات المعاصرة، مضيفةً أن الهجرة لم تكن مجرد انتقال مكانى، بل كانت تحولًا استراتيجيًا يهدف إلى بناء مجتمعٍ قائمٍ على التسامح والعدل، بعيدًا عن الصراعات والعنف، ويظهر ذلك من الدروس المستفادة التى لا نزال نستلهمها من الهجرة النبوية.
«العيسوى» قالت إن الهجرة النبوية تُظهر لنا العديد من الدروس المستفادة من الهجرة النبوية، متمثلة فى البحث عن بيئة حاضنة للسلام والتسامح، حيث كان اضطهاد المسلمين فى مكة سببًا رئيسيًا للهجرة، وهذا يعلمنا أن البحث عن بيئة حاضنة للسلام والتسامح، يمكن للأفراد ممارسة معتقداتهم والعيش بكرامة دون خوف من العنف أو الاضطهاد، وهى خطوة أساسية لتقليل الصراعات عندما تكون البيئة معادية، يكون العنف أكثر احتمالًا.
كذلك تؤكد على أهمية التخطيط الاستراتيجى والتضحية، فالهجرة لم تكن حدثًا عفويًا، بل كانت نتيجة تخطيط دقيق واستراتيجى من النبى محمد صلى الله عليه وسلم.
وتابعت «العيسوى»: «عند وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لم يلجأ إلى العنف ضد مَن عارضوه، بل سعى إلى بناء تحالفات مع الفئات المختلفة، بما فى ذلك اليهود وغير المسلمين، من خلال صحيفة المدينة، هذه الوثيقة كانت بمثابة دستور يحدد الحقوق والواجبات، ويُرسّخ مبدأ التعايش السلمى وحرية المعتقد. هذا الدرس يُبرز أهمية الحوار، بناء الجسور، والتعاون مع جميع الأطراف، حتى المختلفين فكريًا أو دينيًا، كسبيل لدرء النزاعات والعنف».
من جانبه، لفت محمود عبدالجواد، الباحث بالجامع الأزهر إلى أن من إشراقات الهجرة النبوية المباركة تلك المؤاخاة التى أحدثها النبى ﷺ بين المهاجرين والأنصار فور قدومه المدينة المنورة التى أنارت بهجرته ﷺ، أراد النبى ﷺ أن يؤسس بنيان المجتمع الجديد على دعائم الإيمان وأن يرسخ للرابطة الإيمانية فى قلوب أصحابه من المهاجرين والأنصار، كما أراد تعليمهم أن الرابطة الإيمانية لا تحتاج إلى عهود أو مواثيق، بل يكفى أن الله - عز وجل- قد أكد تلك الرابطة بقوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»، وأمدها بقوة من عنده؛ حيث ألّف بين قلوب المؤمنين، ومُحال أن ترى قوةً بشريةً تفعل ذلك، قال تعالى: «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»، ولقد حقق رسول الله ﷺ بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أهدافًا، أولها، القضاء على العصبيات الجاهلية وبيان فضل الأخوة الإيمانية.
ثانى تلك الأهداف، هو تقوية الروابط الاجتماعية بين المهاجرين والأنصار، حيث تقاسموا اللقمة الواحدة واستظلوا بسقف واحد، وكذلك كانوا يتشاركون الأفراح كما يتشاطرون الأحزان، فأصبحوا لحمة واحدة.
والهدف الثالث، مرتبط بالاقتصاد، فالمهاجرون رحلوا إلى المدينة وقد خلّفوا ديارهم وأموالهم بمكة، ورحلوا وهم يرجون فضل الله ورحمته، فأخلف الله عليهم خيرًا مما تركوه، وقيض لهم إخوان صدق يشاركونهم الزراعة والصناعة والتجارة.
بدوره، قال الدكتور أحمد زارع، المتحدث باسم جامعة الأزهر، إن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم لنا العديد من الدورس التى يجب أن ننتهج بها أولًا، ويجب أن نضع أمام أعيننا التخطيط العلمى السليم، فالنبى صلى الله عليه وسلم لم يخرج للهجرة عشوائيًا إنما جهز لها وخطط حتى تنجح الهجرة بما لديه من إمكانيات، وهذا درس لا بد أن تعيه الدول الإسلامية.
وشدد «زارع» على ضرورة التعاون المثمر بين الدول العربية والإسلامية، من خلال اتحاد قوى لتقوى شوكتنا، قائلًا: «الكل يريد النيل من الإسلام»، ومثلما آخى النبى ﷺ بين المهاجرين والأنصار وهما عنصرا الأمة وأقام بينهما علاقة أخوة ومؤازرة، فكان كل أنصارى بمثابة أخٍ للمهاجرين، يتقاسمان السكن والمعيشة، ويشد بعضهم أزر بعض فأسس الدول الإسلامية على أساس الاتحاد.
وأضاف احترام النبى للقوانين من خلال إعلان لوثيقة المدينة لمنورة، والتى تُعد أول دستور مكتوب فى الإسلام، وضعه النبى محمد ﷺ بعد هجرته إلى المدينة المنورة، بهدف تنظيم العلاقة بين سكان المدينة من المسلمين واليهود والمشركين، وبناء مجتمع موحد يقوم على التعايش والعدالة، وكذلك دليل على احترامه للآخر.