رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

«دستور يا أسيادنا»


26-6-2025 | 23:28

.

طباعة
بقلـم: أشرف التعلبى

«دستور يا أسيادنا» هو فعلًا اسم مسرحية أخرجها جلال الشرقاوى سنة 1995 من بطولة أحمد بدير، لكننا اليوم لا نتحدث عن المسرحية، بل نتحدث عن كتاب «الدساتير المصرية فى مائتى عام» الصادر عن هيئة قصور الثقافة، للكاتب الصحفى الكبير ماهر حسن، وهو الكتاب الذى يجمع بين طيّاته وجوهًا ومعارك وحكايات قابعة خلف كل مادة، وكل لجنة دستور، حكايات لا غنى عنها لفهم ملامح مصر، كيف كنا بلا دستور منذ قرنين، وكيف أصبحنا الآن نحمل على أكتافنا تاريخًا طويلًا من الدساتير.

 

إذا كنا اليوم نتحدث عن كتاب يتناول الدساتير المصرية بمواده ونصوصه الجامدة الخشنة، إلا أن كاتبه -ماهر حسن- شاعر وصحفى وفنان يتذوق، استطاع أن يحيى النصوص الميتة، وهى معادلة صعبة للغاية أن تحول جمادًا إلى كلمات من لحم ودم، هى مهارة لا يجيدها إلا قليلون وهو أحدهم، لأنه مزج ما بين الصحافة بمعلوماتها المدققة وبين الشعر بخيالاته الفضفاضة، فجاء قلمه طيّعًا فى يده، ينساب برشاقة بين فنون الكتابة، من السرد والشعر إلى الحكاية والتأمل.

يشير كاتبنا فى مقدمة كتابه إلى أن مبعث حرصه هو إشاعة الثقافة الدستورية بين عموم الشعب، حيث يفتقد معظمه الثقافة الدستورية، بل والأخطر لا يحيط بحقوقه الدستورية كمواطن بما له وما عليه... وعلى الجانب الآخر حرص على إضفاء روح الحكى والسرد فى الكتاب؛ حتى لا يتملك الضجر والنفور من قارئه، فحكى كلّ الإرهاصات والمقدمات السياسية والوطنية التى سبقت صدور كل دستور، خاصة أن الكثير من دساتيرنا قد سبقتها ثورات، ليكون الكتاب مرجعًا شاملًا بداية من عهد محمد على وتكليفه لرفاعة الطهطاوى بترجمة الدستور الفرنسى، ويمتد حتى دستور 1971 وجميع التعديلات التى لحقته حتى سنة 2007.

الفصل الأول يتناول البذرة الأولى للدساتير المصرية، عندما أراد محمد على تكريس نظام إدارى محكم يساعده على تأسيس دولة عصرية، بجانب اهتمامه بالجيش، فأصدر أمرًا بتأسيس مجلس المشورة فى 1829، يتكون من 156 عضوًا، وهو ما يمكن اعتباره أول نواة نيابية فى تاريخ مصر الحديثة.

ليأتى دور الرائد التنويرى رفاعة الطهطاوى الذى ترجم الدستور الفرنسي، مدعومًا بشروح وتحليلات لتوضيح مبادئه، وهو ما كان يؤمن بأن الأمة مصدر السلطات، وهذا ما وضّحه سنة 1830.

بينما تطرق الفصل الثانى من الكتاب إلى عهد الخديو إسماعيل، الذى سعى إلى الظهور بمظهر الحاكم «المتنور»، فأنشأ مجلس شورى النواب مكونًا من 75 عضوًا يُنتخبون عبر عُمد البلاد ومشايخها، حتى تقدم شريف باشا عام 1879 بمشروع «اللائحة الأساسية» التى منحت النواب سلطة التشريع والموافقة على فرض الضرائب، لتُعد بذلك أول محاولة لصياغة دستور حديث مؤلّف من 49 مادة، ورغم بدء مراجعة النصوص واللوائح الانتخابية، فإن الظروف السياسية حالت دون صدور مرسوم الخديو وإقرار الدستور رسميًّا.

وفى الفصل الثالث غُصنا مع الكاتب بالمرحلة الثانية المهمة من الثورة العرابية فى عهد الخديو توفيق، بعد أن نجح أحمد عرابى فى عرض مطالب الأمة بميدان عابدين، وتمكن من الدفع نحو إصدار دستور جديد، اجتمع لأجله مجلس النواب فى فبراير 1882، برئاسة سامى البارودى ووزرائه، حيث تم تقديم الدستور الذى أقره النواب وصدّق عليه الخديو، فاستقبله الإنجليز والفرنسيون بالسخط والغضب، واحتجوا على صدوره.

ثم تناول الكاتب عصر الخديو عباس حلمى الثاني، مسلّطًا الضوء على ما شهده من تطورات سياسية وصراع بين القوى الوطنية والاحتلال البريطاني، إضافة إلى إلقاء الضوء على دور محمد شريف باشا، الذى يُعد أحد أبرز رواد الإصلاح السياسى فى مصر ومؤسس النظام الدستورى الحديث فى أواخر القرن التاسع عشر.

بينما تطرق مبدعنا فى الفصل السادس إلى مرحلة حاسمة فى تطور الحياة الدستورية بمصر، وهى عهد الملك فؤاد الأول، حيث تم إصدار دستور 1923، أحد أعظم الدساتير المصرية، الذى جاء بعد تصريح 28 فبراير 1922 والاعتراف باستقلال مصر، وقد وضعته لجنة مكونة من ثلاثين عضوًا برئاسة حسين رشدى باشا، وضم 171 مادة تهدف إلى إرساء نظام دستورى حديث يضمن مشاركة الشعب فى إدارة شئون الدولة، ورغم وصف سعد زغلول للجنة إعداد الدستور بأنها «لجنة الأشقياء»، فإنه كان أول المستفيدين منه، إذ فاز حزبه بأغلبية البرلمان وأصبح أول رئيس حكومة بإرادة شعبية، غير أن الصراع بين سعد والملك فؤاد سرعان ما تصاعد، مما أدى إلى حل البرلمان وتفاقم الأزمات السياسية، حتى تم إلغاء دستور 1923 فى أكتوبر 1930 وإصدار دستور جديد، ما حال دون تحقيق الأثر الكامل لهذا الدستور فى الحياة السياسية.

وقابلت مجلة «المصوّر» صدمة إلغاء دستور 1923 بالاستنكار، وهذا وراء ما نشرته على غلاف عددها الصادر بتاريخ 31 أكتوبر 1930، صورة طائفة من رجال مصر الذين اشتركوا فى وضع الدستور المصرى الأول الذى تم إقراره سنة 1923 وذلك بمناسبة إلغائه فى الأسبوع الماضى وصدر دستور جديد، ورأت المجلة أن تحيط القراء على الظروف التى ألفت فيها اللجنة التى تولت إعداد الدستور القديم، وكيف نظمت لإخراج مشروعها العظيم.

وتساءلت «المصوّر» بشكل واضح: لماذا لم تضع الدستور جمعية وطنية تأسيسية؟، ثم تحدثت فى مقال بعنوان نظام الانتخاب المباشر وغير المباشر فى مصر، ثم عن حرية الصحافة وحرية الاجتماع ودساتير الدول، وفيه عبرت عن غضبها من الدستور الجديد الذى قلّص صلاحيات البرلمان وأعطى صلاحيات أكثر للملك، ويمكن القول إن هذه الصفحات المنشورة فى «المصوّر» وثيقة تاريخية توثق لحظة مهمة فى تاريخ مصر السياسي.

وتكون دستور 1930 من 156 مادة، تم تحت رعاية الملك فؤاد الأول وإسماعيل باشا صدقى رئيس الوزراء، إلا أن هذا الدستور أثار لغطًا شديدًا لتوسيعه صلاحيات الملك وإعطائه صلاحيات حل البرلمان بمجلسيه النواب والشيوخ، مما يجعل الملك يملك ويحكم على عكس دستور 1923 الذى كان فيه الملك يملك ولا يحكم، ورفض حزب الوفد أكبر الأحزاب المصرية -آنذاك- الدستور وظلّ يجاهد لإلغائه، حتى كانت انتفاضة 1935 التى قامت فى مصر وسط أجواء الطلبة والعمال، واستمرت حتى اضطُر الملك إلى إلغائه وإعادة العمل بالدستور القديم 1923 حتى نهاية الفترة الملكية.

وفى رحلتنا الدستورية مع –ماهر حسن- وصلنا إلى ثورة 23 يوليو 1952، ومع الثورة يأتى الجديد، عندما أعلن الرئيس محمد نجيب فى ديسمبر من نفس العام بموجب إعلان دستورى عن سقوط دستور 1923، ليصدر بعدها بشهر مرسوم بتأليف لجنة الخمسين لوضع دستور جديد، ثم صدر مرسوم آخر حدد الفترة الانتقالية 3 سنوات تنتهى فى يناير 1956، وبعدها بأيام صدر الإعلان الدستورى الثانى الذى يتكون من 10 مواد متضمنًا أحكام الدستور المؤقت للحكم خلال الفترة الانتقالية، واكتفى الإعلان عن أن الأمة مصدر كافة السلطات دون التعرض لطبيعة نظام الحكم، سواء كان ملكيا أو جمهوريًّا، كما جعل السيادة العُليا للدولة من اختصاص قائد الثورة.

فى مطلع عام 1954 تمكن محررو «المصوّر» من التسلل إلى دار البرلمان، كما ورد فى أرشيف المجلة، لرصد مداولات لجان إعداد مشروع الدستور الجديد، ونقلت المجلة جملة من المقترحات المثيرة للجدل، منها اقتراح أن تتألف مصر من عدة ولايات تسمى «جمهورية الولايات المتحدة المصرية»، مع انتخاب رئيس الجمهورية لأربع سنوات غير قابلة للتجديد، ويكون رئيسًا للوزراء أيضا، كما اقترح تشكيل برلمان من مجلسين: مجلس شيوخ بالتعيين من الهيئات والنقابات، ومجلس نواب بالانتخاب، وبرزت مقترحات اجتماعية ودينية كمنع الخمر والميسر، ومنع النساء من ارتداء الثياب القصيرة، إضافة إلى اقتراح تشريع يُبطل الانتخابات القائمة على الرشوة، مع حرمان الراشى والمرتشى من حقوقهما الانتخابية.

ولكن عندما قُدمت المسودة فى سنة 1954 إلى مجلس قيادة الثورة تم تجاهلها وأُهملت، إلى أن عثر عليها المؤرخ الصحفى صلاح عيسى سنة 1999 بمعاونة كل من المستشار طارق البشرى والدكتور أحمد يوسف عميد المعهد العالى للدراسات العربية فى صندوق كان قد وُضع فى أحد مخازن مكتبة المعهد، وقام صلاح عيسى بنشر المسودة فى كتابه «دستور فى صندوق القمامة» سنة 2001. ومن المرجح أن تكون هذه هى النسخة الخاصة بالفقيه الدستورى عبدالرزاق السنهورى الذى كان عضوًا بلجنة الخمسين التى وضعت الدستور، إذ كان هو الذى أشرف على تأسيس مكتبة المعهد العالى للدراسات العربية.

قام الرئيس جمال عبدالناصر بتشكيل لجنة غير معلنة لوضع مشروع جديد للدستور، بعد رفضهم لمشروع دستور 1954، وتم العمل على إعداد دستور جديد، حتى أجرى استفتاء عليه فى 23 يونيو 1956، مكونًا من 196 مادة فى 6 أبواب، ليبدأ العمل به كأول دستور يصدر بعد ثورة 23 يوليو 1952.

هذا الدستور -كما يقول ماهر حسن- ليس مقتبسًا من دستور 1923، ولا من المشروع الذى وضعته لجنة الدستور 1954، وله ديباجة بليغة دلّت على تجديد وضع الدستور وتوضيح لأهداف الثورة، فدستور 23 كان منحة من الملك أما دستور 56 فهو تعبير عن إرادة الشعب. جاء فى الديباجة: «نحن الشعب المصرى.. الذى استلهم العظة من ماضيه، واستمد العزم من حاضره، فرسم معالم الطريق إلى المستقبل: متحرر من الخوف، متحرر من الحاجة، متحرر من الذل...».

كان دستور 1956 أول الدساتير المصرية التى صدرت بالاستفتاء وبموافقة الشعب، وقد صدر بعد الصراع الشهير داخل مجلس قيادة الثورة والذى انتهى بخلع محمد نجيب أول رئيس لمصر من منصبه عام 1954، وتنصيب جمال عبدالناصر خلفًا له، ولم يستمر ذلك الدستور إلا عشرين شهرًا فقط، نظرًا لقيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958.

فصدر دستور مؤقت للجمهورية العربية المتحدة فى مارس من نفس العام، وجاء هذا الدستور فى 73 مادة، يحدد الأسس السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتوجيهات دولة الوحدة، واستمر العمل بهذا الدستور إلى أن وقع الانفصال بين مصر وسوريا فى 28 سبتمبر عام 1961، فأصبح الوضع الدستورى فى مصر فى ضوء الانفصال لا يتلاءم مع دستور 1958؛ لذلك صدر الإعلان الدستورى فى سبتمبر 1962 لتنظيم سلطات الدولة لحين وضع دستور جديد بعد تعطيل العمل بدستور الوحدة، وبدا الإعلان وكأنه يختصر سلطات الدولة بأكملها لصالح السلطة التنفيذية.

ثم جاء دستور 1964 المؤقت استجابة للوضع السياسى الذى أعقب انفصال مصر عن سوريا وصدور القوانين الاشتراكية فى يوليو 1961، فتم إنهاء العمل بدستور 1958 المؤقت والإعلان الدستورى لعام 1962، وصدر الدستور الجديد فى 24 مارس 1964، ليعكس بوضوح التوجه الاشتراكى للدولة، ونص على تشكيل مجلس أمة من 350 عضوًا منتخبًا، نصفهم على الأقل من العمال والفلاحين، إضافة إلى 10 أعضاء يعيّنهم رئيس الجمهورية، وقد تضمن الدستور مقدمة وستة أبواب موزعة على 169 مادة، رسّخت فلسفة الدولة الاشتراكية فى تلك المرحلة.

بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970، تولى السلطة مؤقتًا نائبه محمد أنور السادات إلى أن تم ترشيحه بواسطة مجلس الأمة لرئاسة الجمهورية، وقد تمت الموافقة على رئاسته للجمهورية فى الاستفتاء الشعبى الذى أُجرى فى منتصف أكتوبر 1970، وفى 20 مايو 1971 طلب الرئيس السادات من مجلس الشعب وضع مشروع دستور جديد، فقرر المجلس بجلسته المنعقدة فى نفس اليوم تشكيل لجنة تحضيرية من خمسين عضوًا من أعضائه ومن أهل الرأى والخبرة ورجال الدين، وفى جلسته المنعقدة فى 25 مايو 1971، تقدم لعضوية اللجنة التحضيرية ثمانون من أعضاء المجلس، فقرر المجلس أن يرفع عدد الأعضاء من 50 إلى 80 عضوا، واعتبر جميع المتقدمين أعضاء فى اللجنة.

ويعد هذا الدستور أطول الدساتير المصرية عمرًا، بعد سلسلة من الدساتير المؤقتة التى شهدتها مصر منذ عام 1952، وبمقتضاه جرت انتخابات مجلس الشعب الذى عقد أولى جلساته فى 11 نوفمبر عام 1971، وهو أول مجلس يستكمل مدته الدستورية، وهى خمس سنوات كاملة.

ويُؤخذ على دستور 1971 -كما يقول ماهر حسن- أنه تم وضعه من قِبل لجنة حكومية، وليست جمعية تأسيسية، وأن نصوصه لم تُتَح لها الفرصة الكافية للمناقشة العلنية، كما يُؤخذ عليه توسيعه لسلطات رئيس الجمهورية، وتركيزها فى يديه، وجعله حكمًا بين السلطات مع تخويله سلطات استثنائية حددتها المادة (74) وغيرها.

وقد عانى دستور عام 1971 منذ مولده من فجوات واضحة بين نصوصه وبين التطورات على أرض الواقع، فعلى سبيل المثال ظلت نصوصه تؤكد على المفاهيم الاشتراكية، رغم سياسة الانفتاح الاقتصادى التى انتهجتها الدولة فى فترة السبعينيات وما تلاها، حتى للتعديل ثلاث مرات فى أعوام 1980، و2005، و2007، وهو يتكون من ديباجة، و211 مادة فى سبعة أبواب.

وبعد أن أمضيت أسبوعا كاملا فى القراءة أجزم أن الكتاب يمثل محاولة جادة وموفقة لتوثيق الحياة الدستورية فى مصر عبر مائتى عام، وقد نجح الكاتب والشاعر ماهر حسن فى تناولها بأسلوب رصين وبحث دقيق، كما اعتدنا منه، فهو ليس غريبا عن عالم الثقافة، وطوال سنوات ينقب ويقدم المواهب الجديدة من خلال بابه الشهير «سور الأزبكية» فى جريدة «المصرى اليوم»، التى أصبحت محطة أسبوعية تقدم للقارئ وجبة ثقافية دسمة، وهو ما يجعله صاحب أيادٍ بيضاء على الثقافة والمثقفين.. ورغم تمنياتنا أن يتفرغ يومًا للشعر فقط، فإننا ندرك صعوبة تخلّيه عن الصحافة التى أحبّته بقدر ما أحبّها.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة