رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

داخل معامل الترميم والمخازن المتحفية..قصة المتحف المصرى الكبير (3) «حراس الظل» يعيدون الحياة لآثار مصر


30-5-2025 | 22:36

ترميم الاثار

طباعة
تقرير : أمانى عبد الحميد

فى قلب الصحراء على مشارف الجيزة، وبينما تتجه الأنظار إلى الواجهة المهيبة للمتحف المصرى الكبير، هناك عالم آخر ينبض بالحياة خلف الجدران، ليس داخل قاعات العرض، إنما فى أعماق صروح علمية متقدمة تم بناؤها بعناية فائقة؛ كى تظل تلعب دورها باقتدار كدروع حامية لتراث ممتد لأبعد من آلاف السنين، إنها معامل الترميم والمخازن المتحفية، حجر الأساس الحقيقى فى منظومة الحفاظ على آثار مصر.

بعد أسابيع قليلة سيقف زوار المتحف المصرى الكبير أمام قناع الملك توت عنخ آمون ويتأملونه عن كثب، يشعرون بالدهشة عند رؤية مقاصيره المذهبة أو عجلته الحربية دون أن يدركوا أن ما يرونه ليس مجرد قطعة أثرية فريدة من نوعها، بل شهادة حية على جهود علمية دقيقة بذلها جيش من العلماء والفنيين والمرممين من وراء الكواليس، عملوا فى صمت ودون بهرجة أو لفت الانتباه، وفق نظام مدروس لضمان أن تظل آثار مصر صامدة فى وجه الزمن، ونتيجة العمل الجاد بات المتحف المصرى الكبير أحد أهم مراكز ترميم الآثار والتخزين المتحفى فى العالم، ليس فقط من حيث الإمكانات، بل من حيث الخبرات المصرية التى أبدعت فى صمت.

 

هم «حراس الظل والقلب النابض»، أبطال قصة مختلفة عن غيرها من القصص، إنها القصة غير المرئية التى بدأت منذ لحظة التخطيط الأولى، فصولها لا يراها زائر المتحف المصرى الكبير ولا يعرف عنها الكثير، أبطالها يمثلون ذلك الكيان النشط الذى يكمن خلف الصورة البصرية الفخمة التى تتجسد داخل قاعات أكبر المتاحف المتخصصة فى عرض الآثار المصرية القديمة، يعملون ضمن بنية تحتية علمية معقدة ومدروسة تمثل القلب الحقيقى للمتحف، إنهم أبطال مركز الترميم والمخازن المتحفية، ومهمتهم لا تقتصر على حماية الآثار فقط، بل هى الامتداد الأكبر والحقيقى لعمليات الإنقاذ الأثرى التى شهدتها مصر الحديثة.

منذ أن كان المتحف مجرد فكرة خاضعة للتخطيط، لم يكن الهدف مجرد بناء مكان لعرض الآثار، بل كان الهدف أكبر وذا بُعد فلسفى عميق، يسعى إلى إقامة منظومة متكاملة للحفظ والترميم والبحث العلمى، وبمرور الزمن، بات واضحًا أن كثيرًا من كنوز مصر القديمة تحتاج إلى أكثر من مجرد عرض، بل إلى رعاية طبية دقيقة، «مستشفى للآثار» إن صح التعبير، يعيد لها الحياة ويضمن استمرارها، ومن هنا نشأت فكرة بناء أكبر وأحدث مركز ترميم أثرى فى الشرق الأوسط يُضاهى المراكز العلمية فى جميع أنحاء العالم.

 

إذًا بداية البناء كانت هناك نظرا لضخامة حجم العمل، وقبل بناء المبنى المتحفى بسنوات طويلة، منذ وضع حجر الأساس فى عام 2002 حتى جاء يوم 27 مايو عام 2010، وافتتحت الدولة المصرية المرحلتين الأولى والثانية من مشروع المتحف المصرى الكبير، فتحت الأبواب أمام اكتمال الحلم، وكانت أولى مراحله هو تأهيل وإعداد موقع المتحف لاستقبال القطع الأثرية، وبناء المركز الدولى للترميم والمخازن المتحفية، إلى جانب إقامة وحدة ضخمة للإطفاء ومحطتى محولات لتوفير الطاقة الكهربائية اللازمة للمشروع، ومحطة مياه، وكذلك تم تركيب الأجهزة والمعدات الحديثة ذات المستوى التقنى الرفيع طبقا لأحدث النظم العالمية.

 

وبالتأكيد كان لا بد من وضع مواصفات هندسية دقيقة وبيئة علمية محكمة، لذا جاءت تصميمات معامل الترميم التى وصل عددها إلى 19 معملا متخصصا، لتخدم مختلف أنواع المواد الأثرية، احتلت مبانيها مساحة تتجاوز عشرة آلاف متر مربع داخل مبنى مستقل ملحق بالمتحف، وإن ظل مرتبطا وظيفيًا وتقنيًا، من بين أهم المعامل هو معمل ترميم الأخشاب، كونه يتعامل مع القطع الخشبية العضوية البالغة الرقة والتى قد تحتاج إلى رعاية خاصة، ومنها التوابيت الملكية والأثاث الجنائزي، وبالتأكيد تأتى مجموعة الملك توت عنخ آمون كأشهر وأهم المقتنيات الخشبية التى يتطلب الحفاظ عليها مهارة علمية غير مسبوقة.

الأمر لا يختلف مع معامل ترميم المعادن، وهى المتخصصة فى معالجة التحف البرونزية والذهبية والفضية التى تأثرت بالعوامل البيئية أو الزمنية، كذلك معمل الأحجار والفخار المتخصصة فى ترميم كل التماثيل واللوحات الحجرية والأوانى الفخارية، بما يشمله ذلك من عمليات تنظيف وتثبيت وترميم دقيق.

 

ومن أهم المعامل التى يمتلكها المتحف المصرى الكبير ما يسمى بمعامل التحاليل الدقيقة، نظرا لكونها مزودة بأحدث الأجهزة مثل الميكروسكوب الإلكترونى وجهاز (XRF وFTIR) لتحليل المواد والتعرف على مكوناتها من دون إتلافها، إلى جانب معامل ترميم الأنسجة والمومياوات التى تقوم بعملية دراسة المومياوات الملكية والمنسوجات القبطية والمصرية القديمة، وترميمها، وضمان وضعها داخل بيئة معقمة ومدروسة بدقة.

 

مع العلم أن كل معمل من تلك المعامل يهتم بوضع منظومة بيئية مضبوطة تراقب درجات الحرارة والرطوبة والتهوية والإضاءة، على أن تدور كلها عبر أنظمة ذكية لحماية القطع الأثرية الحساسة.

 

وإذا كانت معامل الترميم هى القلب النابض داخل المتحف، فإن القائمين عليها هم الكنز الحقيقى الذى لا يمكن تقديره بثمن، المرممون الأثريون هم ثروة المتحف ومصر البشرية التى تقف خلف المركز العالمى للترميم، فالمعامل كمكان وأدوات حديثة ونظم تكنولوجية وحدها لا تكفي، بل يقوم بتشغليها والإشراف على دقة أدائها فريق عمل نادرا ما يتكرر داخل مكان واحد.

 

فمنذ البدايات الأولى كان لا بدّ من تأهيل كوادر علمية مصرية قادرة على العمل بأعلى كفاءة، لذا خلال مراحل البناء أطلق المتحف دورات وبرامج تدريب محلية ودولية، مع العلم أنها لم تكن مجرد تدريب تقنى فقط، بل شملت دراسات فى علوم المواد، والميكروبيولوجي، وتاريخ الفن، لتكتمل دائرة الفهم حول الأثر من كل جوانبه، وذلك بالتعاون مع جامعات ومعاهد علمية متخصصة فى علوم الترميم بمختلف أنواعها فى اليابان وألمانيا وفرنسا، استفاد منها أكثر من 300 مرمم مصرى، باتوا اليوم من أمهر المتخصصين فى الشرق الأوسط، فلا أحد يستطيع إنكار الدعم اليابانى «جايكا» الذى لعب دورًا محوريًا، ليس فقط فى تمويل الأجهزة الحديثة، بل أيضًا فى عملية تدريب الكوادر المصرية، إلى جانب عدد من الشراكات الأكاديمية مع عدد من المؤسسات الدولية مثل جامعة طوكيو، معهد «غيتي» الأمريكى للترميم، ومتحف اللوفر فى باريس، هذا التعاون أتاح لمصر الوصول لأحدث تقنيات ترميم الآثار المستخدمة عالميًا، لكن بيد وعقل وخبرة مصرية.

 

لذا تراهم داخل مواقعهم صامتين يعملون بتأنٍّ، يرتدون ملابس بيضاء كأنهم أطباء يجرون عمليات جراحية، حتى أنفاسهم تكتمها أقنعتهم الطبية، تلك بعض من ملامح يوم عملهم، وبعد أكثر من 15 عامًا من العمل المتواصل داخل مواقعهم، حيث نجح فريق الترميم بالمتحف فى القيام بعمليات ترميم دقيقة لعدد من أهم وأندر القطع الأثرية فى تاريخ مصر القديم، فاق عددها أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، كلها عادت إلى الحياة بأيدٍ مصرية خالصة، وستظل مقتنيات الملك توت عنخ آمون شاهدة على بطولاتهم العلمية، والعالم أجمعه سيشاهد كيف عاد تابوته الذهبى لحالته الأولى بعد نقله من مقبرته بالبر الغربى ليسكن داخل معامل الترميم، علاوة على ترميم عدد من مقتنياته النادرة والتى كانت مهددة بالاندثار، مثل ترميم عقد من ورق شجر الزيتون والذى يعتبر من أصعب القطع التى تم ترميمها، وهو عقد هش للغاية مصنوع من ورق شجر الزيتون كان موضوعا فوق مومياء الملك توت عنخ آمون، فريق معامل الترميم نجح فى ترميمه بعناية فائقة نظرا لضعف مادته الأصلية، كذلك الصدرية الذهبية للملك وهى من أندر القطع الأثرية، وتتكون من مئات الحليات الملونة والذهبية، وتصور الطائر حورس المجنح، فريق العمل قام بفحصها بشكل دقيق مما أظهر أن المصريين القدماء قاموا بترقيم كل قطعة صغيرة لتسهيل تجميعها، وهو ما ساعد فريق الترميم على إعادة تركيبها بشكل صحيح، نفس الأمر تكرر مع عملية ترميم القلادات المذهبة المصنوعة من الذهب واللازورد والأحجار الكريمة، بالإضافة إلى قطع الألباستر الخاصة بالملك باستخدام مواد ترميم قابلة للإزالة للحفاظ على أصالتها.

 

إلى جانب ترميم عدد من مقتنياته مثل الصدريات الحربية الجلدية، والأسرّة الجنائزية، وعدد من القطع المعدنية بما فى ذلك تماثيل للإله «باستت» والإله «مونتو» باستخدام تقنيات تنظيف ميكانيكية آمنة لإزالة التكلسات دون الإضرار بالأثر.

 

كما نجح فريق الترميم فى التعامل مع التماثيل الثقيلة والضخمة، مثل تمثال الملك أمنحوتب الثالث، حيث خضعت لعمليات تجميع ودراسة دقيقة لتحديد المواد المستخدمة فى ترميمها.

 

وفى الجانب الخفى من المتحف يقف هناك حراس الظل صامتين لا يعلم بوجودهم أى من الزائرين، جنود شداد يحمون كنوز مصر من القطع الأثرية التى فاق عددها آلاف المئات من كل أنواع الآثار المصرية القديمة، يحمون أكبر وأهم مخازن أثرية مبنية على أحدث الطرز العلمية المتطورة فى العالم، موقع خفى لا يقل أهمية عن قاعات العرض المتحفي، دوره لا يقتصر على الحماية من السرقات فقط، لكنه مسئول عن حفظ آلاف القطع الأثرية وتخزينها بشكل يتلاءم مع طبيعتها، أى أن كل قطعة موضوعة بعناية داخل مخزن متخصص فى المواد المصنوعة؛ منها مخازن للأخشاب، وللمعادن، وللمومياوات، وللبرديات، وغيرها، مرصوصة بعناية بشكل يسهل معه البحث عنها ومعرفة كافة المعلومات المتعلقة بها كى يسهل استرجاعها، حيث تتميز المخازن المتحف العملاقة بوجود أنظمة أمنية صارمة ومراقبة بالكاميرات، إلى جانب تطبيق نظام أرشفة رقمى دقيق يربط كل قطعة بقاعدة بيانات تشمل صورها وموقعها وتاريخها وحالتها، بعدما باتت مستقر كل القطع الأثرية المنقولة من أماكن حفظها القديمة إلى المعامل الجديدة.

 

والمعلوم أن مشروع بناء المتحف المصرى الكبير بدأ أولا بالتخطيط لإنشاء المخازن المتحفية ومركز الترميم، وبعد سنوات من الدراسات والتخطيط وورش العمل التى استمرت ما بين 2005 وحتى 2009، تم تحديد أفضل طريقة لبناء مخازن أثرية تستوفى الشروط العالمية من عزل حراري، مقاومة للزلازل، أنظمة مكافحة الحرائق دون مواد كيميائية، إمكانية الوصول السريع والمنظم للقطع، وذلك بمشاركة خبراء مصريين ودوليين.

 

ومن بعد عام 2010 بدأت عمليات البناء بعد التهيئة البيئية، حيث تم بناء المخازن تحت سطح الأرض فى عمق آمن لضمان استقرار الحرارة والرطوبة، مع تركيب أنظمة تحكم مناخى إلكترونية (HVAC) ومستشعرات ذكية تقيس التغيرات فى البيئة، والأهم تشغيل نظام رقمى للتتبع Inventory System يحدد مكان كل قطعة بدقة، لينتهى العمل بها بحلول عام 2015، لتبدأ بعدها قصة أخرى من قصص المتحف المصرى الكبير، فصولها تتبع خطى أخطر وأكبر عمليات نقل للقطع الأثرية فى العصر الحديث، وتلك قصة أخرى نسرد تفاصيلها فى حلقتنا المقبلة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة