رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

ملجأ للسماء


30-5-2025 | 15:25

الارشمندريت د. ذمسكينوس الأزرعى

طباعة
بقلم : الأرشمندريت د. ذمسكينوس الأزرعى

تأخذنا مسارات الإيمان أحيانًا إلى أماكن، هذه الأماكن أصبحت رمزًا ذا قدسية فى القلوب، ونبعًا جاريا للبركة غير المنقطعة، من هذه الأماكن فى عالمنا تبرز وتتجلى أرض مصر، الأرض المباركة التى اختارها الرب لتكون ملجأً للعائلة المقدسة، فى لحظة تجسد أكثر لحظات التاريخ قداسة فى التاريخ المسيحى.

 

ولست أكتب عن مسار العائلة المقدسة فى مصر كمجرد دارس أو متأمل، بل أكتبه من موقع المعايشة والخدمة والخبرة الروحية أيضا؛ إذ حملت بنعمة الرب الإله لفترة من الزمن مسئولية رئاسة دير مار جرجس البطريركى للروم الأرثوذكس فى مصر القديمة، وكان لى شرف القرب من المواقع التى مرت منها أمنا الفائقة القداسة العذراء الطاهرة، وحمل فيها يوسف النجار الطفل يسوع، هاربين من بطش هيرودس، ولكن بحماية السماء وتوجيه يفوق العقول.

مصر القديمة ليست مجرد حى تاريخى فى العاصمة، بل هى موضع صلاة، ومرقد ذكريات، وكنز روحى وحضارى قلّ نظيره، وبين ثنايا وجدران مصر القديمة تتجاور الكنائس والأديرة والمساجد فى مشهد فريد من نوعه يعكس للعالم أصالة أرض الكنانة المباركة وتاريخها المتجذر الراسخ، وكأن الأرض ما زالت تردد صدى خطوات العائلة المقدسة وهى تبحث عن الأمان.

 

فى قلب هذه المنطقة المقدسة، يقف دير مار جرجس البطريركى للروم الأرثوذكس، شامخًا كأنموذج حى نابض بالحياة الروحية والمعجزات اليومية، التى تلامس ببركتها حياة آلاف من الزوار ومن كافة أنحاء العالم وبشكل يومي، فهذا الدير أيقونة تجسد طريق التقوى الأرثوذكسية، ومنارة يقصدها المؤمنون من كل حدب وصوب. وفى باحته، تفيض بئر السيدة العذراء، التى تُروى عنها الروايات المقدسة، حيث يُقال إن العذراء مريم شربت من مائها، إبان مراحل إقامتها بالقاهرة، ضمن رحلة العائلة المقدسة. حيث لا تزال هذه البئر حتى يومنا هذا شاهدة على لحظة التقاء السماء بالأرض، لحظة عطشٍ بشرى مكللا بالروح ارتوى بماء مصري، فصار مقدسًا.

 

مرّت العائلة المقدسة بعدة محطات فى مصر، من الشمال إلى الجنوب، محطات تحمل فى طياتها وبين خطواتها رسالة أبدية ورجاء، فأرض مصر حاضرة فى مشهد الخلاص، تستقبل الطفل يسوع وأمه مريم العذراء فى أحضانها الحانية وتحت ظل نخيلها، مانحة بذلك يوسف النجار مكانًا يبيت فيه دون جزع.

 

إن الحديث عن هذا المسار ليس حديثًا عن الماضى فحسب، بل هو إحياء لحدث حى حدث ولكن عظمته حية للأبد لا تنتهي!، ومسئولية روحية وحضارية وثقافية، فالمواقع التى باركتها أقدام العائلة المقدسة هى شهادة على أن مصر كانت، ولا تزال، وستبقى بنعمة ربنا أرض الله الحاضرة فى التاريخ والحاضر دوما.

كمواطن أردني، أنتمى لوطنٍ حمل رسالة السلام والتسامح، وكمسئول سابق فى دير من أقدس الأديرة وأبرزها فى العالم الأرثوذكسي، رأيت بأم العين كيف أن البركة لا تعرف حدودًا جغرافية، بل تسكن القلوب عابرة ومستوطنة الأماكن التى احتضنت الإيمان. الأردن ومصر، بلدان شقيقان، يتكاملان روحا وتاريخا، ويجمعهما حضور الأنبياء والقديسين.

 

ولعل من أعمق اللحظات التى عشتها، وقوفى يومًا عند بئر السيدة العذراء داخل دير مار جرجس، أستمع إلى صمت الماء، وأشعر كأن العذراء ما زالت تصلى هناك، بأنات خافتة، تشكر الله على أمانٍ وجدته فى أرض مصر. كانت تلك اللحظة كافية لأدرك أن القداسة ليست قصة فى كتاب، بل حضورٌ حى نعيشه فعلا، ينتظر منْ يراه بعين الإيمان.

 

إن مسار العائلة المقدسة فى مصر ليس إرثا للمسيحيين فقط، بل هو إرث إنسانى وروحى عالمي، ينبغى أن يكون موضع اهتمام كل من يؤمن بالرحمة والعدالة والجمال، فلنحمل هذا المسار فى قلوبنا وعقولنا، ونعمل جميعًا على صيانته، ونقله للأجيال المقبلة، كإرث حى من النعمة، ومصدر دائم للسلام.

 

إن سيرة العائلة المقدسة فى أرض مصر ليست فقط صفحة من التاريخ المقدّس، بل هى دعوة حيّة لكل إنسان أن يصير هو أيضًا ملجأً، ومسارًا للخير، وجسرًا للسلام. ففى زمن يبحث فيه العالم عن الطمأنينة، تذكّرنا مصر أن السماء لا تزال تختار الأرض، حين تجد فيها قلبًا يؤمن ويحب.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة