فى التاسع عشر من مايو سنة 1927م ولد يوسف إدريس فى قرية (البيروم) قرب (فاقوس) بمحافظة الشرقية، عاش طفولة قاسية جافة مثل كل أطفال القرى آنذاك، والتحق بطب قصر العيني، وتخرج طبيبا سنة 1951م، وفى الجامعة كان عضوا نشطا فى اليسار المصري، وفى جماعة (حدتو)، وقاد المظاهرات الطلابية ضد الاستعمار البريطاني، وضد الرجعية، وبدأ فى وقت واحد يكتب وينشر القصة القصيرة مع أبناء جيله ورفاقه من أمثال (يسرى أحمد، ومصطفى محمود، وصلاح حافظ، ومحمود السعدني)، وآخرين، وقدمه عبد الرحمن الخميسى (القديس) للعمل فى (المصري)، ثم انتقل إلى (روزاليوسف)، وأصدر عنها مجموعته الأولى (أرخص ليالي) ضمن سلسلة (الكتاب الذهبي)، متجاوزا قواعد النحو؛ إذ إن الصحيح لغويا أن يكتب العنوان هكذا: (أرخص ليالٍ)، ثم قدم العميد د. طه حسين مجموعته الثانية (جمهورية فرحات)، وحين كتب مسرحيته (الفرافير) دعا إلى ثورة جديدة فى عالم المسرح، حيث أسقط الحائط الوهمى بين الممثلين والجمهور، وجعل الجمهور شريكا فى حالة (المسرحة)، وقال وقتئذ إنه يعود بالمسرح لجذوره المصرية كحالة فرجة جماعية، مثل عروض (الأراجوز)، وألعابنا الشعبية فى الموالد والقرى والساحات الشعبية، ولاقت المسرحية صدى نقديا وجماهيريا واسعا.
حدتو
اعتزل إدريس الطب بلا رجعة، وأصبح كاتبا، وعضوا فى نقابة الصحفيين، ثم فى اتحاد كتاب مصر عندما أسسه السباعى كنقابة تضم أدباء مصر، وكعضو نشط سابقا فى (الحركة الوطنية للتحرر الوطني)، المعروفة اختصارا باسم (حدتو)، كان ضمن تنظيم أوسع وأشمل يضم أسماء كثيرة من الأدباء والفنانين الشباب آنذاك، ونذكر منهم: عبد الرحمن الشرقاوي، وفؤاد حداد، وصلاح جاهين، وكمال عبد الحليم، ويوسف إدريس، ويسرى أحمد، وصلاح حافظ)، وغيرهم مثل د. مصطفى محمود، وكان ينشر هو ورفاقه فى صحف ومجلات اليسار، فضلا عن النشر فى مجلة (الكاتب) لمالكها يوسف حلمي، كما نشروا فى صحف (الملايين) و(النداء)، و(قصص للجميع)، وكانت علاقة إدريس بزميله فى كلية الطب، وكاتب القصة القصيرة الناشئ يسرى أحمد هى الأقوى بين كل رفاقه، حتى كتب إدريس:
(ليالٍ طويلة قضيناها يقرأ لى ما كتبه، وأقرأ له ما كتبته، وشوارع المدينة النائمة نجوبها سيرا على الأقدام، جوعى مفلسين، نبحث عن الحقيقة، ونناقش الفن والخلود وأصل الكون والفرق بين رومانسية إيليا أبى ماضى ورومانسية ناجي)!
رفاقه
كان لإدريس أصدقاء يشجعونه، ويحيطون به، وكان هو أحد نجوم (قهوة عبد الله) فى ميدان الجيزة، وكانت عامرة بأجيال من الموهوبين من عبد الرحمن الخميسى إلى أنور المعداوي، والشاب رجاء النقاش، ومحمود السعدني، وغيرهم الكثير، باختصار كان لإدريس (شلة أو ميليشيا)، وكانوا يصفقون لكل ما ينتجه، وكان إدريس غزير الإنتاج، قلقا، عاصفة تمشى على قدمين، نهما لحب المعرفة، وصاحب كاريزما وموهبة خصبة، ولو لم يكن موهوبا لما ذاع وانتشر وشاع مصريا وعربيا.
إنتاجه
بلغت قصصه القصيرة نحو 350 قصة جمعها فى 12 مجموعة قصصية، ونشر عشر روايات، وتسع مسرحيات، وبلغت كتبه التى ضمت مقالات نحو 13 كتابا على مدى عشر سنوات، وتحولت بعض قصصه إلى أعمال درامية، مثل قصة (مشوار) تحولت إلى فيلم (العسكرى شبراوي)، وقصة (العسكرى الأسود) تحولت إلى فيلم (حلاوة روح)، وتحولت روايته (الحرام) إلى فيلم بنفس الاسم، ونجح بسبب بطلته فاتن حمامة، حيث قدمت دور الفلاحة الفقيرة المقهورة (عزيزة)، زوجة الفلاح المعدم عبد الله غيث، واضطرت للعمل مع أنفار الغيط، وبسبب (جدر بطاطا) وقعت فى الخطيئة!
كما تحولت قصته (النداهة) إلى فيلم سينمائى بديع من بطولة ماجدة وشكرى سرحان، ويقوم الفيلم على تيمة أضواء العاصمة والمدينة التى تجذب الريفيات، كما يجذب المصباح الفراشات، ثم يعمم المعنى على كل نداهة فى حياة كل منا.
وتحولت روايته (البيضاء) لفيلم سينمائي، وفى (قصة حب) تناول قصة حب حقيقية وقع فيها مع فتاة أجنبية، وتحولت قصته (قاع المدينة) لفيلم من إخراج حسام الدين مصطفى، وسيناريو وحوار أحمد عباس صالح، وبطولة نادية لطفي، ونيللي، ومحمود ياسين، وعرض الفيلم سنة 1974م ولعبت نادية لطفى دور الخادمة (شهرت) العاملة فى منزل القاضي، كما قدمت نادية من قبل فيلم (خمس ساعات) عن قصة لإدريس، وكتب السيناريو والحوار بكر الشرقاوي، وإخراج حسن رضا، وعرض سنة 1968م، وقدمت له للمرة الثالثة (على ورق سولفان)، سيناريو وحوار كوثر هيكل، وإخراج حسين كمال، وعرض سنة 1975م، وكانت نادية لطفى تعتز بصداقته، ومن خلاله كأديب مثقف تعرفت على د. أنور عبد الملك، ونزار قباني، حيث كان نزار صديقا مقربا لإدريس، وكان ابن نزار يدرس فى طب قصر العينى تحت رعاية وأبوة إدريس.
وفى المسرح كان إدريس نجما، وسط جيل كبير من مسرحيى جيل الستينيات من نعمان عاشور، ورشاد رشدي، وميخائيل رومان، وألفريد فرج، ونجيب سرور، ولاقت مسرحيته (الفرافير) صدى نقديا وجماهيريا طيبا، وأصبح اسم (الفرفور) يطلق على إدريس ضمن شلته النقدية القريبة منه، لدرجة أن الناقد الكبير د. غالى شكرى كتب عنه كتابا عنوانه (يوسف إدريس.. فرفور خارج السور)، كما وضع عنه الناقد الكبير الراحل كتابه (البحث عن اليقين المراوغ)، وكتب عنه كل من: فؤاد دوارة، ود. سيد حامد النساج، ود. عبد المحسن طه بدر، ود. سيد البحراوي، ود. جابر عصفور، ووضعت عنه اعتدال عثمان كتابا سنة 1991م تحت إشراف د. سمير سرحان، ومن الأجيال اللاحقة وضع زميلنا فى (المصور) د . محمد فتحى كتابه (يوسف إدريس.. دراسة فى تكوين المبدع وإبداع الأصالة وأصول النبوغ)، ووضع شعبان يوسف كتابه (ضحايا يوسف إدريس)، والأخير اعتبر أن نجومية وموهبة وشهرة إدريس الطاغية قد أقصت أجيالا كاملة من المبدعين السابقين والمعاصرين له واللاحقين عليه، فقد اعتبر كثيرون أن القصة القصيرة بدأت مع إدريس مع أن (محمد ومحمود تيمور وطاهر لاشين ويحيى حقي) وغيرهم سبقوه فى كتابة القصة، وحدّث ولا حرج عن عشرات من معاصريه مثل د. مصطفى محمود ومحمود السعدنى والخميسى ويسرى أحمد وسعد مكاوى ويوسف الشاروني، وغيرهم، ومن التالين له الموهوب يحيى الطاهر عبد الله، ومحمد المخزنجي، وإدريس نفسه هو من بشّر بهما وقدمهما فى الندوات وفى عالم النشر.
مقالاته
هجر إدريس كتابة القصة والرواية والمسرحية فى سنوات عمره الأخيرة، واكتفى بكتابة مقالات فى (الأهرام)، تحت عنوان (مفكرة يوسف إدريس)، ووصف بعض خصومه ذلك بأنه نضب إبداعه، وهو من أبدع قصص (بيت من لحم) و(العتب على النظر) و(العسكرى الأسود)، وغيرها من القصص الفريدة والعجيبة، والتى وضعته فى مكانة الكاتب الروسى العظيم، والطبيب أيضا (أنطون تشيخوف)، وكان إدريس مغرما به، وكان سعيدا بأن يطلق عليه اسمه، ويُرضى غروره بذلك لما عرف عنه من نرجسية كان يتقبلها المحيطون به ويغفرونها له لموهبته الكبيرة، وإخلاصه لفنه، ولثقافته ووطنيته.
جوائزه
فاز إدريس بجائزة الدولة التقديرية وهو على فراش المرض، وجاء ترشيحه من أكاديمية الفنون وليس من اتحاد الكتاب، وجاءته الجائزة متأخرة جدا، وكان سبق وفاز بجائزة مجلة (حوار) اللبنانية، ولكن عبد الناصر طلب منه عبر مكتبه رفض الجائزة لأنها ممولة من المخابرات الأمريكية، ولا يصح لكاتب وطنى مثله أن يقبلها، واستدعاه مكتب عبد الناصر وسلمه مبلغا من المال يفوق ما كان من الجائزة!
ولكن إدريس القلق جدا والحاد المزاج قبِل جائزة صدام حسين، فوقع فى شر أعماله وأهاج على نفسه عاصفة من الهجوم والنقد الصاخب، ومرة أخرى أثار اللغط والغضب حين هاجم محفوظ يوم فاز بنوبل، وزعم أنه كان مرشحا لها!
هذا هو إدريس الذى عرفه الناس، وكانوا يغفرون له لموهبته ووطنيته، وهو منْ قاوم الاستعمار الإنجليزي، ثم عمل فى صحيفة ثورة يوليو (الجمهورية) مع رئيسها آنذاك أنور السادات، وصديقهم الثالث زكريا الحجاوي، ثم عمل مع السادات فى (منظمة المؤتمر الإسلامي)، ثم انقلب عليه ونشر سلسلة مقالات فى (القبس) الكويتية بعنوان (البحث عن السادات) سنة 1981م بعد اغتياله، وجمعها فى كتاب، مما أغضب مبارك، ثم زاره مبارك بصحبة الرئيس السورى حافظ الأسد فى الفيلا الخاصة به فى (مارينا) بالساحل الشمالي، وهى الزيارة التى يبدو فيها إدريس جالسا بالقميص والشورت!
البهلوان
قرأت لإدريس وأحببته مثل كل منْ قرأوا له، خاصة قصصه القصيرة، من (بيت من لحم) إلى (العسكرى السود) و(العتب على النظر) و(رأس الجمل) و(الرجل والنملة) وغيرها الكثير من قصصه المتفجرة تشريحا للنفس البشرية، وحالات الفقر القاتل، والقهر، والكبت، والعجز الجنسي، والحرمان وغيرها، وفى رواياته وجدت بعض الحشو والتطويل، فهو مبدع قصة قصيرة بامتياز، كما أن نجيب محفوظ سيد الرواية بامتياز، وفى المسرح حضرت عرض مسرحيته الأخيرة على خشبة المسرح القومى (البهلوان) بطولة يحيى الفخراني، كنت طالبا فى كلية الإعلام فى جامعة القاهرة، ومشيت من الجيزة إلى ميدان العتبة حيث المسرح القومي، وقطعت تذكرة بجنيه واحد، وكانت أسعار التذاكر من جنيه وثلاثة وخمسة جنيهات، وقضيت ليلة رائعة، والفخرانى يجسد شخصية رئيس تحرير يتقلب كما تتقلب أوضاع السياسة، فأحيانا يمدح فى المعسكر الشرقى والاشتراكية، ويذم الغرب والرأسمالية، ثم فجأة يمدح الرأسمالية ويذم الاشتراكية، وهكذا طوال عرض (البهلوان)!
ثم التقيت بيوسف إدريس فى حفل تأبين الناقد الراحل د. عبد المحسن طه بدر فى كلية الآداب بجامعة القاهرة، وبحضور د. سهير القلماوي، ود. عبد المنعم تليمة، وآخرين، وبعد الندوة اقتربت منه، كان طويلا، وسيما، شامخا، وأخذت منه حوارا نشرته آنذاك فى صحيفة (رأى الشعب) الصادرة عن دار الشعب، ومما قاله لى إدريس ونشرته:
(أنا بصراحة يائس جدا، ليس من وضع ثقافتنا فحسب، ولكن من كل شيء، خصوصا ما يتصل بالثقافة والعلم والتعليم، ذوقنا هبط، ومشاعرنا تبلدت، وصرنا وكأننا لا نسمع ولا نرى أو نعقل، فالكتاب فى واد، والناس فى واد آخر، وكأنهم يكتبون لأنفسهم).
ولما سألته: أين دورك؟ قال: (طيب، وأنا أعمل إيه؟ بنكتب كلنا، وروادنا كتبوا من زمن، والنتيجة.. الأمية استفحلت، والأزمة الاقتصادية تبحث عن حلول، وأصبحنا وكأننا نسير إلى الوراء بسرعة رهيبة، أنا خلاص زهقت، لا عايز أكتب أو أقول دام مفيش فايدة، يبقى الصمت أحسن)!
ولكن والحق يقال حين أخبرته أنى أكتب إبداعا ولا أعرف كيف أنشر، نصحنى قائلا: (اكتب واكتب ولا تتوقف، الكتابة مثل العجين، ودور النشر مثل الفرن، والخوف أن يأتى وقت يكون الفرن مشتعلا ولا عجين عندك).
ثم حاورت زوجته رجاء الرفاعى كثيرا بعد رحيله، وكان أول حوار لى معها على صفحات (المصور) بمناسبة خمس سنوات على رحيله، فى العدد 3738 الصادر فى 31 مايو سنة 1996م، ونشره مكرم محمد أحمد رئيس التحرير على ثلاث صفحات تحت هذا العنوان: (رجاء إدريس: أول خطاب غرامى من يوسف شرح لى عيوبه)، وجاء فيه أنها تزوجته وعمرها 17 سنة، وهو 29 سنة، وأنهما عاشا معا 35 سنة من الحب والعواصف، وقالت: (أنا داخل كل حرف كتبه يوسف، واسألوا النداهة)، وقالت إنه أعطى سامح ابنه الذكاء، وبهاء الحنان، ونسمة موهبة الكتابة، وقد رحل ابنه سامح بعد رحيله بثماني سنوات.

