وَقَفَ الخَلقُ يَنظُرونَ جَميعاً.. كَيفَ أَبنى قَواعِدَ المَجدِ وَحدى
وَبُناةُ الأَهرامِ فى سالِفِ الدَهر..ِ كَفَونى الكَلامَ عِندَ التَحَدِّى
الشعور بالفخر، والإحساس بالكبرياء، وإدراك العظمة، هذه الحالة تسيطر على كل من تطأ قدمه المتحف المصرى الكبير، وتجعله يردد بلسانه، ويحدِّث نفسه بهذين البيتين لشاعر النيل العظيم حافظ إبراهيم من قصيدته الخالدة «مصر تتحدث عن نفسها»، ولا أبالغ حينما أقول إن الزائر من شدة الانبهار بجمال المنظر، وحلاوة المشهد، وروعة المكان -يكاد ينفصل عن عالمه المعاصر، وينسى تفاصيل حياته اليومية، ويتوه عن مشاغله الآنية، ويتغافل عن همومه الحالية، ليسافر فى رحلة عبر الزمن البعيد، وليعيش بين التاريخ المصرى القديم فى رحاب 30أسرة ملكية، بداية من توحيد مصر على يد الملك «نعرمر»، ويتجول فى سيرة ثلاث دول قوية هى الدولة القديمة والدولة الوسطى والدولة الحديثة، ويرى ويقرأ مسيرة شعب أصيل من خلال القطع الأثرية، التى تغطى كل فترات هذا التاريخ العريق منذ عصور ما قبل الأسرات، وحتى العصرين الرومانى واليونانى ببُعد زمنى يمتد إلى 700ألف عام قبل الميلاد.
بلا أى مبالغة أو تضخيم لهذا المشروع العملاق الذى يتحدث عن نفسه بجلاء، ويشهد للقيادة السياسية فى الجمهورية الجديدة أنها صانعة الأمجاد فى حماية «إرث الأجداد» بملحمة «المتاحف العالمية»، كما حققت إنجازات فى كل المجالات خلال السنوات الـ11 الأخيرة، وما زالت تواصل معركة التنمية ومسار البناء فى كل القطاعات. أقول بصدق من واقع الجولة التى شاركت فيها ضمن وفد من رؤساء مجالس الإدارة ورؤساء تحرير الصحف والمواقع الإخبارية، يوم الاثنين الماضى، بدعوة كريمة من وزير السياحة والآثار، السيد شريف فتحى، لتوضيح الاستعدادات للحدث الأهم عالميًّا فى 2025 وهو الافتتاح الرسمى للمتحف المصرى الكبير: إن هذاالمتحف سيكون فتحًا عظيمًا لقطاع السياحة المصرية، وسيجلب ملايين من عُشّاق الحضارة المصرية القديمة من مختلف أنحاء العالم، ويغطّى تكلفته التى تُقدر بنحو مليار دولار فى غضون فترة وجيزة، وحسب تأكيدات وزير السياحة والآثار حصيلة الافتتاح التجريبى مبشّرة جدًّا.
ومن النقاط التى أجد نفسى مدفوعًا إلى الحديث عنها من واقع هذه الجولة الفريدة، أولا: حُسن التنظيم والميكنة مع دقة الإجراءات منذ اللحظة الأولى للدخول من البوابات الرئيسية، وحتى نهاية التجربة السياحية الرائعة التى تستمر عدة ساعات بلا ملل أو رغبة فى المغادرة؛ حبًّا فى المزيد من الاطلاع على أسرار المصريين القدماء. والمثال الواضح هنا وفقًا لشهادة وزير السياحة والآثار هو الرئيس الفرنسى ماكرون الذى قضى فى زيارته منذ عدة أسابيع 45 دقيقة أمام عدة قطع أثرية، مندهشًا من روعة حضارتنا، وغادر مضطرًا للحاق بجولته بصحبة الرئيسالسيسى فى خان الخليلى مع وعد بالعودة عندما تحين الفرصة، وهذا أمر منطقى بحكم أن هذا المتحف هو الأكبر من نوعه كمتحف مخصص لحضارة واحدة، على أرض واحدة، يحكى قصة ثقافة واحدة، ويروى تاريخ شعب واحد، فضلًا عن أن المتحف يغطى مساحة ما يقرب من 500 ألف متر مربع، أى حوالى 117 فدانًا، على بُعد 2 كم من أهرامات الجيزة.
أيضًا من المشاهدات اللافتة الإبداع فى التصميم، وبفكر يجمع بين الأصالة والحداثة مع الاستدامة، وهنا التحيةواجبة للشركة الأيرلندية «Hengan peng»، التى وقع الاختيار عليها فى المسابقة العالمية التى أعلنتها مصر لتقديم أفضل تصميم، ويحضرنى سؤالى خلال الجولة لوزير السياحة والآثار عن نظام التكييف داخل المتحف، فأكد لى أنه لا وجود للتكييفات لأن نظام التهوية فى التصميم يسمح بتوفير درجة حرارة منخفضة وكأن المكان به تكييف مركزى، وبالفعل لن يشعر السائح أو الزائر بحرارة الجو داخل المتحف المصرى الكبير رغم طول مدة الزيارة، وتتابع التنقل من مكان لآخر، بل إن كل زائر أو «جروب سياحى» أو حتى من المواطنين تشغلهم الرغبة فى الاستمتاع بالقطع الأثرية عن أى هدف آخر، وما حصل فى جولتنا يحمل دلالة واضحة على ذلك، فرغم تجولنا بصحبة الوزير فى مختلف القاعات لم يقطع أحد من السائحين أو الزوار رحلته من أجل التصوير مع الوزير أو كبار الكُتاب والإعلاميين كما يحدث فى مختلف التجمعات أو الأماكن الأخرى، إنه الولع بحضارة قدماء المصريين.
ومن الضرورى التوقف عند نقطة طرحها وزير السياحة والآثار شريف فتحى، وهى أن المتحف الكبير ليس مجرد متحف عادى بل هو حالة ثقافية وعلمية وترفيهية، فإلى جانب عرض عدد مهول من القطع الأثرية تغطى كل فترات التاريخ المصرى منذ عصور ما قبل الأسرات، وحتى العصرين اليونانى والرومانى، منها ما تم عرضه، ومنها ما هو جاهز للعرض المؤقت، وهى تجربة فريدة فى العرض المتحفى بأحدث الأساليب وأبدع التقنيات العالمية، هناك مركز مخصص للدراسة فى علم المصريات، لأنه من غير المقبول أن يحظى هذا العلم العظيم بالاهتمام فى مختلف دول العالم، ومَن يريدون الحصول على درجتى الماجستير والدكتوراه فى علم المصريات، حتى من المصريين، يسافرون للخارج، بينما نفتقد فى مصر هذا التخصص بالإمكانات المطلوبة، وفى الوقت نفسه يضم المتحف العديد من الخدمات والملحقات منها مكتبة ضخمة، ومركز ترميم من بين الأكبر على مستوى العالم، وقاعات للعرض باستخدام الواقع الافتراضى وقاعات للفنون، فضلا عن محور الترفيه من وجود حدائق لاستضافة الأحداث والمناسبات الثقافية إلى جانب وجود قاعات للمؤتمرات والسينمات ومنطقة تجارية لأفضل البراندات العالمية، ومنطقة مطاعم، ومتجر رسمى خاص بالمتحف، وهنا يكفى أن الزائر يرى الأهرامات من داخل المتحف، وكأنها على بُعد خطوات.
أما عن تأهيل الكوادر البشرية داخل المتحف الكبير، فحدِّث ولا حرج، فالابتسامة تعلو الوجوه فى كل مكان، والهدوء سيّد الموقف، من أفراد الأمن الذين يقفون فى كل القاعات وجميع الجهات، ويتعاملون برفق مع الجميع، وينبهون المترددين بضوابط الاقتراب والتصوير للقطع الأثرية بلين وبشاشة، وصولا إلى المرشدين السياحيين. ومن الإنصاف أن أحكى تجربتى فى الجولة مع المرشد حسن الطلة، جميل الشرح، قوى التأثير وهو حسن شلبى، مفتش آثار ومرشد داخلى بالمتحف الكبير، الذى رافقنا فى الجولة بالمتحف، فأمتعنا بحكايات الأجداد، وملاحم الأبطال من قدماء المصريين فى كل المجالات.
البداية كانت من البهو العظيم، واستقبال تمثال الملك رمسيس الثانى لنا، والتقاط الصور الباهرة مع جلالتهكواحد من أهم ملوك مصر القديمة، ليس فقط لأن آثاره منتشرة على مستوى الجمهورية، ولكن لدوره فى اتساع النفوذ المصرى، واتساع الحدود وحروبه ضد الحيثيين وشعوب البحر المتوسط، والتى انتهت بأول معاهدة سلام موثقة فى التاريخ، بالإضافة إلى قيمة التمثال الأثرية بارتفاع يقارب 10 أمتار ووزن يقارب 83.5 طن منالجرانيت الأحمر، وظهوره بهيئة ملكية كاملة مع وجود العديد من النقوش المهمة التى تغطى جسد التمثال، وعمود الظهر الخاص كألقابه الثلاثة ونقش خاص بابنه «خع أم واست» المعروف بكونه أول مرمِّم فى التاريخ القديم -وهذا يؤكد سبقًا مصريًّا مهمًّا فى واحد من أهم المجالات الموجودة حاليًّا وهو مجال الترميم-، ثم المرور على تمثالين من فترة الحكم اليونانى، وهما من الآثار الغارقة تم اكتشافهما فى مياه الإسكندرية، حسب كلام مرشد الجولة.
وفور صعودنا على الدرج العظيم، تدفقت المعلومات عنه، فهو بارتفاع 6 طوابق، وبمساحة تتجاوز 6 آلاف متر، ويُعرض فى هذا المكان 61 قطعة أثرية ما بين تماثيل ولوحات وتوابيت وعناصر معمارية وفنية من فترات زمنية مختلفة، ويخدم سيناريو العرض 4 ملفات مختلفة هى الهيئة الملكية، وكيف كانت الهيئات التى حرص الملوك على الظهور بها، ثم البيوت المقدسة أو المعابد التى اعتُبرت بيوتًا للآلهة، وعرض بعض العناصر المعمارية التى تم استخدامها فى تشييدها أو زخرفتها كالمسلات والأعمدة، مرورًا بعلاقة الملوك والآلهة، والتى تتناول تنوع الآلهة وأدوارها، بالإضافة إلى حرص الملوك فى الظهور مع الآلهة فى بعض النقوش والتماثيل لتأكيد دعم الآلهة لهم أو شرعية حكمهم، وصولا إلى الرحلة الأبدية، وكيف استعد المصرى القديم لحياته الأبدية بعد الموت واهتمامه بالحفاظ على جسده وعرض لتطور أشكال التوابيت ونقوشها، وقبل أن تخرج من حالة الاندهاش تُفاجأ بالدخول إلى «منطقة البانوراما»، ومن خلالها لأول مرة تكون الأهرامات جزءًا من سيناريو عرض المتحف ليستمتع السائحبرؤيتها من المتحف.
وتتواصل المتعة داخل قاعات العرض فى رحلة طويلة داخل التاريخ والمجتمع المصرى القديم، وهى 4 قاعات رئيسية على مساحة 18 ألف متر، وتغطى ثلاثة موضوعات ترتكز عليها الحضارة المصرية، حسبما يقول المرشد حسن شلبى، وهى المجتمع والملكية والمعتقدات فى كل مراحل التاريخ المصرى من عصور ما قبل الأسرات وحتى العصرين اليونانى والرومانى، شاهدنا بانبهار الأدوات البدائية التى استخدمها أجدادنا القدماء، وكيفية تطورها، ومسيرة التحول من الاعتماد على الصيد وجنى الثمار إلى الاستقرار والزراعة وصناعة الفخار، وبناء المجتمعات وصولًا إلى وضع نظام إدارى، جعلهم يستطيعون إدارة ثروات البلاد والاستعداد لحياتهم الأخرى، وصولًا إلى عصر الوحدة، واكتشاف الكتابة، وبناء الأهرامات.
يا لها من رحلة زاخرة بالمتعة، عامرة بالبهجة، من تمثال الكاتب المصرى «مترى»، الذى يبهر الناظر إليه بدقةملامحه ونحته وثبات ألوانه، وتمثال ومقصورة التوحيد التى وثّق عليه الملك «منتوحتب نب حبت رع» إعادة توحيده للبلاد وبداية المملكة الوسطى، وتمثال الملكة حتشبسوت التى استطاعت التغلب على التقاليد المصرية، وتولَّت حكم مصر، وظهرت بشكل ذكورى لإثبات قدرتها على إدارة حكم البلاد 19 عامًا من القوة والنفوذ العسكرى والتجارى، مع عرض نماذج لأدوات موسيقية، ولعبة السنت، وحافظات طعام، ونماذج للزينة، وباروكة شعر، يمتد عمرها إلى أكثر من 3 آلاف سنة، إلى جانب لوحة مرسوم «كانوب»، والذى يشبه «حجر رشيد»، وتم استخدامه لإعادة فكّ رموز الحضارة المصرية القديمة.
وبعيدًا عن المتحف المصرى الكبير، لا ينكر أحد أن عهد الرئيس السيسى هو الأزهى فى تاريخ قطاع المتاحف؛ حفاظًا على التاريخ المصرى، وتأكيدًا على الهوية الوطنية المتأصلة عبر آلاف السنين، ولا تسمح هذه المساحة بالحديث المطوَّل عن ملحمة المتاحف فى الجمهورية الجديدة، لكن على سبيل المثال لا الحصر نشير بالبنان إلى المتحف القومى للحضارة بالفسطاط، الذى افتُتح عام 2021، وتزامن معه الحدث التاريخى، مشهد نقل المومياوات الملكية، ويُعرض به 1600 قطعة فى القاعة المركزية تحكى تاريخ مصر فى عدة مراحل، وأيضا متحف الغردقة، وافتُتح فى عام 2020، ويحتوى على 1273 قطعة أثرية، تعود إلى حقب تاريخية متتابعة، ومتحف شرم الشيخ الذى خرج للنور فى عام 2020، ويتضمن 5200 قطعة أثرية، ومن المتاحف التى تمت إعادة افتتاحها بعد ترميمها، يتصدرها متحف المركبات الملكية ببولاق، ويحتوى على 458 من المركبات الملكية، ومتحف الفن الإسلامى بالقاهرة.
حمى الله مصر وشعبها وقيادتها
ومؤسساتها الوطنية من كل سوء.

