البحر الأحمر لم يعد مجرد ممر مائى هام، بل بات ساحة لصراعات متشابكة بين قوى محلية ودولية. والتعامل مع أزماته يتطلب نهجًا شاملًا يوازن بين الأمن والمصالح الاقتصادية والسيادة الوطنية للدول المشاطئة. فاستقرار البحر الأحمر هو استقرار للعالم بأسره.
يمتد البحر الأحمر بطول يقارب 2,250 كيلومترًا، ويقع بين قارتى آسيا وإفريقيا، ويطل عليه عدد من الدول الهامة من الناحية الاستراتيجية: مصر شمالًا، والسودان، إريتريا، وجيبوتى غربًا، والسعودية واليمن شرقًا. هذا التنوع الجغرافى والسياسى يجعل من البحر الأحمر منطقة حيوية ولكن معرّضة بشكل دائم للتجاذبات والنزاعات، وأن تشرف هذه الدول على واحد من أهم المعابر البحرية العالمية، خصوصًا مع وجود قناة السويس فى الشمال، ومضيق باب المندب فى الجنوب -يجعل لها وعليها دورا كبيرا للحفاظ على أمن وسلامة المرور بالبحر الأحمر.
يمر عبر هذا البحر أكثر من 15 فى المائة من التجارة العالمية، وقرابة 30 فى المائة من تجارة النفط المنقول بحرًا، ما يجعله أحد أهم الشرايين التى تربط الشرق الأوسط، بأوروبا وآسيا، ويمنحه مكانة متقدمة فى حسابات الأمن القومى للعديد من الدول.
تحول البحر الأحمر مع الأزمات التى تأججت منذ اندلاع الحرب فى اليمن عام 2015، وتحديدًا مضيق باب المندب، إلى بؤرة توتر دولى، فتحركات جماعة الحوثى المدعومة من إيران، وإعلانها أكثر من مرة استهداف سفن تجارية وعسكرية باستخدام الزوارق المفخخة أو الصواريخ والطائرات المسيّرة، وتسببت هذه الهجمات فى تهديد مباشر لحركة الملاحة الدولية، ما دفع عدة دول إلى إرسال سفن حربية إلى المنطقة لحماية السفن العابرة، مما يثير التساؤل: هل هذه الجماعات المسلحة المدعومة من قوى فى الإقليم هدفها خلق حروب وتدخل القوى العظمى فى المياه الإقليمية وتحكمها فى ممرات وشرايين ملاحية هامة فى حركة التجارة العالمية؟
وقد زاد الوضع تعقيدًا مع إعلان الحوثيين عن استهداف سفن مرتبطة بإسرائيل عقب حرب غزة 2023، وهو ما وسّع من نطاق النزاع ليشمل أطرافًا دولية جديدة، وأدى إلى تدخلات من قِبل الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وغيرها لحماية التجارة فى مضيق باب المندب.
وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة تمتلك قاعدة عسكرية كبيرة فى جيبوتى «معسكر ليمونييه»، وتنافسها الصين بقوة عبر قاعدة عسكرية قريبة، تُعد الأولى من نوعها خارج الأراضى الصينية، فرنسا واليابان أيضًا لديهما وجود عسكرى دائم، مما يعكس أهمية البحر الأحمر كمسرح لصراع النفوذ العسكرى والاقتصادي، وتتوالى صراعات محاولة بسط النفوذ من دول فى الإقليم، وهذا ما نتطرق إليه تفصيلًا فى مقالات قادمة بإذن الله وصولًا لطرح حلول وتحركات إقليمية بعد فشل التحالفات الإقليمية فى حماية مصالح الدول المشاطئة، خاصة أنه رغم الجهود الدولية المبذولة منذ أكثر من عقد، فإن بعض المناطق فى جنوب البحر الأحمر وخليج عدن لا تزال عرضة لعمليات قرصنة بحرية، خصوصًا فى ظل هشاشة الوضع الأمنى فى الصومال واليمن، وظهور بين الحين والآخر تهديدات من جماعات متطرفة قد تستخدم البحر الأحمر منفذًا لتنفيذ عمليات ضد سفن تجارية أو منشآت حيوية.
ومع تفاقم الأزمات السياسية فى دول مثل السودان، واليمن، والصومال انعكس بشكل مباشر وأساسى على أمن البحر الأحمر، واستمرار النزاعات المسلحة، عدم الاستقرار، وانهيار المؤسسات فى بعض هذه الدول يجعل من الصعب تأمين الشواطئ والموانئ، ما يُفسح المجال أمام التهديدات العابرة للحدود، ويزيد من اعتماد الدول الكبرى على تدخل عسكرى مباشر.
شكلت التهديدات فى البحر الأحمر ضربة موجعة لحركة التجارة العالمية، فمع ازدياد استهداف السفن التجارية، لجأت العديد من الشركات العالمية إلى تغيير مسار سفنها نحو رأس الرجاء الصالح، ما يضيف أيامًا طويلة وتكاليف باهظة لعمليات النقل، وهذا بدوره أدى إلى تأثير سلبى وتراجع الدخل من قناة السويس وبالتالى هدّد بشكل مباشر الدخل القومى المصرى، كما ارتفعت تكاليف التأمين على السفن العابرة للبحر الأحمر، بسبب المخاطر الأمنية المتزايدة، وتُقدّر الخسائر اليومية الناجمة عن تعطّل مرور السفن عبر قناة السويس ومضيق باب المندب بملايين الدولارات، خاصة فى ظل الارتباط الوثيق لهذا الممر بإمدادات الطاقة العالمية، فلم تكن الصراعات المتشابكة حول البحر الأحمر لها تأثير سياسى ودبلوماسى فقط، بل أدت إلى ضربات موجعة ومتسارعة فى المسار الاقتصادى الدولي.
لم يعد البحر الأحمر مجرد ممر مائى استراتيجي، بل تحوّل إلى مسرح معقد من الصراعات المتداخلة بين قوى إقليمية وعالمية، ومع أن مصالح التجارة والطاقة تدفع نحو الحفاظ على استقراره، فإن التحديات الأمنية والسياسية تجعل من تحقيق هذا الاستقرار مهمة صعبة، وأصبح المستقبل مرهونا بقدرة الأطراف المعنية على تجاوز منطق الصراع والانخراط فى شراكات تنموية وأمنية طويلة الأمد، تحمى هذا الممر البحرى الحيوى وتضمن أمنه وسلامة الملاحة فيه، وهذا أيضًا ما سنحاول التحدث عنه فى سلسلة مقالات قادمة بإذن الله عن أزمات البحر الأحمر، والدول الفاعلة لحل هذه الأزمات بعد فشل التحافات الإقليمية، ودور المبادرات الإقليمية والدولية لحل هذه الأزمة والمساعى الدبلوماسية لحل النزاعات، ونظرة مستقبلية، وإلى أين يتجه دور البحر الأحمر بين التنمية والتدمير؟