شهيد سيناء بطل حرب العبور
تُحيى الدولة المصرية يوم الشهيد فى التاسع من مارس كل عام، تكريمًا لأرواح الأبطال الذين بذلوا حياتهم دفاعًا عن وطنهم وأرضهم.. فهذا اليوم نتخذه مناسبة وطنية، تعكس فخر الشعب المصرى واعتزازه بالتضحيات التى قدمها الشهداء، حتى يهنأ أصحاب الأرض بالأمن والاستقرار والسلام.
اتخدنا من هذا اليوم فرصة، نسلط فيها الضوء على القيم النبيلة التى تمثلها الشهادة فى سبيل الأرض، وأيضًا تقديرًا لعائلات الشهداء، الذين يحملون فى قلوبهم، حزن الفراق وعبء الفقدان، ولكن تعزيتهم الوحيدة هى لذة الفخر وشرف الانتماء.
شهداء مصر على مر العصور، كانوا وما زالوا- رمزًا للصمود والإرادة، من معارك التحرير فى العبور العظيم، إلى التصدى لتهديدات أنصار الشر وعاشقى الدمار والخراب..
(المصور) وجدت فرصة إعلامية مثلى، تنتهز من خلالها تقديم دورها الهادف- حتى ولو مجرد سطور تكتب بأقلام، تثمن دور الشهداء، فيما نحن عليه الآن من أمان وسلام.. بفضل الله أولا، ثم هؤلاء الأبطال، الذى نعتبر التعرف على قصصهم واجبًا قوميًا.
هذا التحقيق، نرصد من خلاله، بعض القصص المُلهمة والتضحيات الجليلة.. نحلل الأثر الذى سطروه فى تاريخ البلاد الناصع، كجزء أساسي من الذاكرة الوطنية.. فقررنا إجراء حوارات مع أسر الشهداء، لتقديم رؤية أوضح حول كيفية تأثير هذه التضحيات على المجتمع المصرى وثقافته.. من هنا، ندعو القراء إلى التأمل فى مسيرة الشهداء وما قدموه، ونجدد العهد بالوفاء لهم ولأرواحهم الطاهرة... وإلى نص التحقيق:
تزامنا مع الاحتفال بذكرى العاشر من رمضان ويوم الشهيد نستقى من البطولات ما تروى به للأجيال الحالية كيف أن التراب المصرى عزيز على أبنائه، ففى 6 أكتوبر 1973، عبرت القوات المسلحة المصرية قناة السويس، وحطمت خط بارليف «الذى وُصف بأنه غير قابل للتدمير»، ولكن بفضل تضحيات ضباط، أمثال السيد إبراهيم نخل، نفذوا مهامهم تحت النيران الكثيفة، قادوا فرقهم بكل جرأة وأتموا عمليات الاقتحام كما ينبغي، وذلك مثلما حدث فى عملية «التينة» و«التمساح»، حيث استشهد العشرات أثناء تأمين رؤوس الكبارى وتدمير دشم العدو المتغطرس.
الحاج محمد، شقيق الشهيد البطل الملازم أول السيد إبراهيم نخلة، بدأ حديثه قائلا أن الأخير كان محبا للعسكرية المصرية منذ طفولته، يحلم أن يلتحق بصفوف القوات المسلحة، عبر الكلية الحربية مصنع الرجال، إلا أنه لم يحالفه التوفيق للقبول بها لتشاء الأقدار بأن يتحقق حلمه ويلتحق بكلية الضباط الاحتياط ليقضى فترة تجنيده ضابط احتياط بالجيش المصري.
ويصف شقيقه - مدى السعادة والفرحة التى كانت تغمره عندما علم بأنه سيلتحق بصفوف المقاتلين على الجبهة، ليكون ضمن الصفوف الأولى التى تنتظر إشارة القادة لاقتحام قناة السويس والفتك بالعدو الإسرائيلى المحتل لسيناء آنذاك.. انتظر حتى قررت قيادة مصر السياسية، أنه حان موعد استرداد الأرض والكرامة، لذلك عندما التحق بالقوات المسلحة أظهر كفاءة ومهارة كبيرة خلال الفرق التدريبية التى حصل عليها، من أجل الاستعداد القتالى الجيد لساعة الصفر، التى ينتظرونها جميعًا من أجل عودة الهيبة المصرية.
(بعد وفاة البطل علم شقيقه من زملائه مدى الشجاعة والبسالة التى أظهرها إبراهيم نخلة خلال العبور، وأثناء قتال المحتل لأراضى سيناء بالضفة الشرقية، حيث شارك زملاءه فى الوصول حتى مشارف تحصينات العدو فى بالوظه على الساحل الشمالى لسيناء، إلا أن روحه قد فاضت لبارئها خلال قذف جوى لطيران العدو الإسرائيلى فى 18 أكتوبر 1973 لتروى دماؤه الزكية تراب الأرض الغالية، وتكتب لمصر النصر الذى نحتفل به عبر الزمن، ونفتخر به ونتذكره هو وجميع شهدائنا إلى يومنا هذا - بكل شرف وفخر.
ويذكر شقيق البطل أن الشهيد كان يسعى لطمأنتنا عليه عبر المراسلات قبيل الحرب، ودائما ما كان يسأل عن خطيبته، حيث إتمام الزواج كان مرتبطا بإنهاء خدمته العسكرية، ولكن نداء الواجب تجاه وطنه، أبى أن يكن له زوجة فى الدنيا، ليزف عريسا إلى أعلى الجنان رفقة الشهداء والصديقين.
ويؤكد شقيقه أن السيد إبراهيم نخل، كان بارًا جدًا بوالديه، ودائمًا ما يردد: «إن عشت هشيل أبويا فوق دماغى وإن مت فهعيش عيشة كريمة»، كما أنه كان حنونا ببقية أشقائه ينصحهم فى حياتهم ويساندهم حق المساندة، فكان نعم الأخ السند القدوة لنا جميعًا»..
الحاج محمد يصف لحظة استقبال خبر استشهاده بـ»العصيبة»، فلم نكن متأكدين من الأخبار حتى أتانا اليقين الذى وقع كالصدمة على والدينا، ولكن عزاءنا كان أن روحه لم تذهب هباء ولكن بفضل تضحياته ومعه زملاؤه تمكنت مصر من تحقيق النصر.
الرائد مصطفى حجاجى:
«حاسس إنى شهيد يا أمى»
بلهجة صعيدية أصيلة وصوت حزين باك، بدأت الحاجة «بهية» أم الأبطال الشهداء، الرائد مصطفى حجاجى والملازم أول حلمى حجاجى، تحكى عن أبنائها الشهداء، حيث قالت «كانوا قريبين من ربنا وبارين بوالديهم».. وأضافت أن مصطفى بالأخص كان قواما صواما لا يترك فرضا ويحرص على صيام يومى الإثنين والخميس والليالى القمرية من كل شهر عربي، كما أن والدهم كان يعمل مدرسا إلا أنه كان يعانى من بعض المشاكل الصحية فى عضلة القلب، لذا كان يحرص «مصطفى» على توصيل والده يوميا إلى عمله ويصطحبه فى طريق العودة أيضًا.
«مصطفى كان راجل البيت بعد وفاة أبيه»، فقد توفى والده فى عام ٢٠٠٤م، وقتها تحمل مصطفى مسؤولية أخيه حلمى الذى كان يبلغ من العمر وقتها ٤ سنوات فقط ووالدته، بجانب التحصيل العلمى لدروسه، حيث كان مصطفى - آنذاك، فى المرحلة الثانوية، ثم نجح فى تحصيل مجموع عال، وكان يفصله عن دخول كلية الهندسة نصف درجة مئوية، فبدافع الأم الصميمة أرادت أن تساعد نجلها، تقديرا لدوره فى رعاية البيت بعد والده، فعرضت عليه الالتحاق بإحدى الجامعات الخاصة لدراسة الهندسة، إلا أنه رفض حتى لا يكلف والدته مصروفات زائدة.
الشهيد كان يحلم بالانضمام لصفوف القوات المسلحة، وهذا ما أكدته «بهية»، قائلة: «كان دايمًا يقولى ادعيلى يا أمى ربنا يجعلنى من المقبولين فى الكلية الحربية»، وبالرغم من إحباط الكثير من الأهل والجيران والأصدقاء بأن الالتحاق بالكلية الحربية يحتاج لمحسوبية، إلا أننى آمنت بقدرات ابنى وتوفيق الله لنا وتوكلنا على الله وكتب الله لنا القبول لعرين الأبطال.
وأظهر الشهيد البطل تفوقا خلال فترة دراسته بالكلية الحربية، حيث قالت «بهية»: (بعد استشهاده أبلغنى بعض زملائه أنه كان يقول لهم «ادعولى أطلع الأول عشان أفرح أمى وتفتخر بيا»، وبالفعل كان الشهيد البطل أحد أعضاء مثلث القيادة - كما أوضح الفيلم بالندوة التثقيفية ليوم الشهيد.
وعن «مثلث القيادة»، أشارت «بهية» إلى أن القدر كتب لهم أسمى درجات الموت وهى الشهادة فى سبيل الوطن والدفاع عنه، وكانوا جميعا يشتركون فى صفات الشهامة والرجولة والجدعنة والتقوى والتقرب إلى الله، لذا أنعم الله عليهم بالشهادة.
«مصطفى كان حاسس إنه هيقابل وجه رب كريم»، هكذا أوضحت «الحاجة بهية» عن تصرفات البطل قبل استشهاده، فتروى أن البطل كتب فى مدوناته «قادم إلى سيناء شهيد»، بالإضافة إلى أنه قبل عودته من آخر إجازة له تواصل مع زوج شقيقته وبعض أصدقائه المقربين وأخبرهم بأن يحرصوا على والدته وإخوته حتى عودته، وكانت تلك المرة الأولى التى يوصى فيها أحد علينا، كما أنه كان يحب وطنه ويشعر بالغضب والغيرة حال سماعه أخبارا عن استشهاد زملاء له فى سيناء، وعلى رأسهم الشهيد البطل العقيد أحمد الدرديري، الذى قال «والله ياخونة لازم أجيب حقه منكم»، فور سماعه خبر استشهاده.
وعن شعورها خلال الندوة وأثناء تكريم الرئيس عبدالفتاح السيسى لها، تقول: «أنا فخورة بانى والدة شهيدين قدموا روحهم فى سبيل مصر وأمانها واستقرارها، فهم عاشوا رجالًا واستشهدوا أبطالًا، وأضافت: «حسبى الله ونعم الوكيل فى الخونة وفى كل من حرق قلب أم على ولادها»..
وعن حديثها مع الرئيس أمام الندوة التثقيفية، أكدت «بهية» أنها شعرت بفخر وثقة وثبات كبير خلال حديثها مع السيسى، خاصة أنها كانت تروى قصة أبنائها وتضحياتهم للجميع حتى يعرفهم وتخلد ذكراهم فى ذاكرة الوطن، مؤكدة أن القوات المسلحة لا تنسى أهالى الشهداء وأسرهم وتوفر لهم كل متطلباتهم، فضلًا عن أنهم قد حققوا أمنية الشهيد مصطفى بزيارة والدته لبيت الله الحرام عام 2017م.
أم البطل - الأم المصرية التى تقدم كل غال ونفيس فداء حبة رمل واحدة لهذا الوطن، إنها الأم المصرية التى تضرب دائما المثل على القوة والمثابرة والصبر والمسئولية والتحمل، وهذا ما تعلمه لأبنائها فى كل لحظة من عمرهم.. ففى عيدها كانت أم الشهيد هى النموذج الأعظم للأم المصرية المثالية.
والدة الشهيد عماد أبو رجيلة:
« أنا أم البطل»
السيدة عفاف رضوان والدة الشهيد البطل النقيب عماد عبدالغنى أبو رجيلة - دفعة 103 حربية سلاح حرس الحدود، الذى استشهد إثر انفجار حزام ناسف أثناء مشاركته للقوات فى تمشيط منطقة الباويطى بالواحات البحرية بتاريخ 31 مايو 2017م..
«ابنى كان من صغرة أمنيته أنه يكون ضابط»، بهذه الكلمات بدأت السيدة عفاف رضوان، والدة الشهيد البطل عماد أبو رجيلة - حديثها عن ابنها واستكملت قائلة: (إنه منذ الصغر وهو شخص مسئول، لديه من الحنان والبر بأهله ما يكفى كل من حوله، فكان يعد مثالًا للرجولة والنبل بين أهله وأصدقائه، فكان الضهر والسند لأمه، يخشى عليها من أى شيء يمسها)، واصفة ذلك بقولها: «كان دايما شايلنى فوق راسه»، ابنى شخص متفوق فى دراسته، ترك كلية الصيدلة والعلوم، ليلتحق بالكلية الحربية، ويحقق حلمه بأن يصبح عنصرًا فى الجيش المصرى العظيم، ولذلك تقدم بالكلية الحربية وتم قبوله، وكان دائمًا ما يظل وراء أهدافه وأحلامه حتى تصبح حقيقة، فكان طموحًا ومسئولًا، معروفًا بعقله الكبير، رغم أنه كان أصغر أشقائه، إلا أنه كان الأكبر بتصرفاته دائمًا، منظمًا، يحب قراءة القرآن الكريم بالتجويد، يتسابق مع والدته فى ختم القرآن فى شهر رمضان الكريم.. لتصف كل هذا بقولها: «كل ما أقرأ قرآن أفتكره وأحس بيه حواليا».
(كنت مبحسش أن عيد الأم جه غير لما هو يقولى كل سنة وأنتى طيبة يا أمي.. دايمًا أول واحد يقولهالي)، بهذه الكلمات المؤثرة، عبرت والدة الشهيد البطل عن مدى افتقادها لابنها، موضحة أنه كان طيب القلب، رقيق، لا يتحمل أن يرى حزنها، يرى أن حضن الأم هو الأمان بالنسبة له ولها، كان يمتلك من التواضع ما يقربه من قلب كل من حوله.. «ملاكًا يمشى على الأرض، كان سيتزوج فى شهر ديسمبر من نفس العام الذى استشهد فيه.. ولكنه أصبح عريس الجنة»، كما روت الأم الأصيلة لنا.
وتضيف والدة الشهيد، إنها شعرت خلال تكريمها فى احتفالية يوم الشهيد، كأن ابنها استشهد الآن، ووصفته بأنه كان عينيها فى هذه الدنيا لأنه كان أصغر ابن لها، من الصعب عليها إحساسها بأنها لن تراه مرة أخرى، تراه دائما أمامها، ولكن لا تستطيع أن تضمه لحضنها، «فهو الآن فى مكانة أفضل وربنا يلحقنى به عن قريب» كما وصفت لحظاتها.
فى يوم استشهاده، تقول والدته إنها كانت ليلة رؤية هلال شهر رمضان الكريم، وكانوا قد صلوا سويًا صلاة الترويح لليلة أول يوم رمضان، وكانت تنتظره على الإفطار فى أول أيام الشهر الفضيل، ولكنه ذهب إلى عمله قبل أذان المغرب، بلغها فى مكالمة هاتفية، وذهب دون أن تراه.. وتستكمل حديثها بعيون مليئة بالدموع، قائلة: «أنا لو كنت عارفة إنى مش هشوفه تانى كنت حضنته أكتر بس هو مشى مستعجل مشفتوش وقبل استشهاده بساعتين كلمنى وقالى إنه عنده شغل وقولتله رمضان وحش من غيرك يا ابني، وبعدها لقيتهم بيقولوا إنه استشهد، وأنا مصدقتش لأنه كان لسه مكلمني»..
واختتمت والدة البطل، حول ما شعرت به خلال احتفالية يوم الشهيد، تقول: «أنا كنت مبسوطة جدًا وحاسة كأنى بتكلم مع ابني، وكنت فرحانة إنى أم البطل وأنى فى أعلى منزلة عند الله عز وجل، رأسى مرفوع بابني، شوفته فى السما السابعة، حسيت أن الشهداء قريبين فى الصفات كأنهم كلهم واحد، فهم ملائكة فى الجنة، واستشهاد ابنى هو فخر ووسام وشرف لي، فأنا أصبحت أم البطل، وهو اللى هياخد بإيدى يوم القيامة للجنة، وكان دايمًا يقولى إنه سيستشهد، ويشوفنى زعلت، فيقولى «هو إنتى يا أمى تكرهى أخد بإيدك للجنة» .
والدة الشهيد البطل محمد العزب:
«دائمًا يقولى يا ماما.. إحنا عندنا أعظم جيش فى الدنيا»
الشهيد نقيب محمد على العزب، ابن قرية «الرجبية» بمحافظة الغربية، تخرج فى الكلية الحربية عام 2010م، كأحد أوائل دفعته، واستشهد قبل 7 سنوات، إثر انفجار عبوة ناسفة أثناء تمشيط بمنطقة كرم القواديس بسيناء، وقد تقلد الشهيد البطل، العديد من المناصب، حتى انتقل للعمل فى سيناء، وتزوج عام 2015م، واستشهد قبل أن تضع زوجته مولودها.
جاءت قصة استشهاده، عندما كان “العزب” فى مأمورية تمشيط واكتشفوا وجود 3 عبوات ناسفة، نجح بالفعل فى تفكيك اثنين منها والثالثة كانت الأصعب، ورفض الشهيد تدخل أحد الضباط لتفكيكها لأنه عريس جديد، وأصر على تفكيكها خوفًا على حياة زملائه، لتنفجر العبوة ويلفظ أنفاسه الأخيرة.
«كان بسيط وقنوع طول عمره».. بهذه الكلمات وصفت السيدة سميرة والدة الشهيد محمد على العزب، أحد أبطال مثلث القيادة، وتقول: (منذ صغره وهو معروف بسعة صدره وقدرته على التحمل، كان يراعى كل من حوله، وفهو كان وسط ثلاث أخوات غيره، كان حافظًا للقرآن كاملًا)، وعبرت والدة البطل عن صفاته بصوت يتخلله الفخر والشجن: (يمتلك كل الصفات الكويسة كان شبه الملائكة، متواضع وكل اللى يعرفه يحبه)..
تابعت سميرة: «كان يحب الشعر، يتمتع بالذكاء خلال فترة تعليمه، طول عمره من الأوائل، وكان بيتمنى يطلعنى عمرة، وأول ما اشتغل طلعنى أنا ووالده عمرة لزيارة بيت الله، كان هو عوضنا فى الدنيا، دائمًا يقول لى أنا هعوضك يا أمى عوض جميل».. وبصوت الدموع الممزوجة بالفرحة قالت أم البطل: «لم أكن أعلم أنه يقصد الشهادة وأنه سيجعلنى مكرمة فى الدنيا والآخرة بكونى أم البطل، لأكون فى المنزلة الأعظم عند الله سبحانه وتعالى».
وتواصل السيدة سميرة: «عمره ما تعبنى كان دائما يقولى يا ماما جيشنا دا أعظم جيش فى الدنيا، وبرغم خوفى وقلقى عليه كان دائما يقولى يا أمى أنا مرتاح ومبسوط، وكنت أحس براحة لما أشوفه، وقلقى يختفى على طول».
«حرة هى اللى بتعوضنى عن غياب محمد»، بهذه العبارة وصفت السيدة سميرة مدى حبها وتعلقها بحفيدتها التى لم تر والدها، كونها ولدت بعد استشهاده بأربعة أشهر، وهو من أوصى بتسميتها «حرة»، والتى تمتلك الكثير من صفات البطل فى ذكائه وهدوئه وخفة روحه، الذى تميز بها.
وتستكمل أحداث يوم استشهاده: «أنا حسيت بيه، رغم أنهم كانوا فى البداية يقولولى إنه كويس، بس أنا كنت عارفه أنه استشهد، وقلت لهم «أنا راضية بقضاء الله»، فدائمًا كان يتمنى الشهادة طوال فترة خدمته بالجيش»..
«لم أكن أصدق عندما قالولى إننى سأتكرم من الرئيس.. كنت سعيدة جدا»، بهذه الكلمات أعربت السيدة سميرة عن سعادتها البالغة بتكريمها فى ندوة يوم الشهيد، مضيفة: «رأينا احترام وتقدير من القوات المسلحة لنا كأسرة شهيد، والقوات المسلحة دائما ما تسند وتدعم أسر الأبطال، فهم دائمًا بجانبنا».
واختتمت والدة البطل قائلة «الحمد لله ابنى كان بيتمنى الشهادة ونالها، وأنا سعيدة أن ابنى شهيد وبمشى بكل فخر فى البلد، مش أى حد ينول الشرف دا، واللى مصبرنى إن ابنى فى الفردوس الأعلى مع الأنبياء، وأنهت حديثها قائلة: «تكريم الرئيس لى تاج فوق رأسى».
الشهيد الملازم أول محمود أصلان..
“بطل لا يغيب»
فى المنيا، لا تزال صور الشهيد محمود أصلان تزيّن جدران منزل أسرته، بينما تتردد كلماته الأخيرة فى أذن كل من عرفه: «كملوا.. إحنا على حق».. هكذا رحل الملازم أول محمود (22 عامًا) فى 23 يوليو 2015، بعد انفجار عبوة ناسفة بسيناء، لكن حكايته بقيت شاهدة على إرادة إنسان آمن بوطنه حتى آخر نبضة فى قلبه.
وُلد محمود فى أسرة عسكرية فدائية؛ فوالده عقيد متقاعد، وشقيقه الأكبر ضابطٌ يخدم فى سيناء، تربى على حب القرآن الكريم – الذى حفظه فى صغره – وحب الوطن.
تخرّج فى الكلية الحربية عام 2014 بتقدير امتياز، وحصل على تدريبات متقدمة فى القفز الحرّ والكاراتيه، لكن شغله الشاغل كان «سيناء»، وبعد هجوم الشيخ زويد الإرهابى فى 2015م، تقدّم بطلب نقله إليها رغم وجود شقيقه هناك، وعندما رُفض طلبه، ذهب شخصيًا إلى قائده وأصرّ حتى وافق.
وبصوت حزين يملؤه الشوق إلى ابنه.. تحدث الحاج أصلان صدقي، يقول إن الشهيد البطل محمود، وصل إلى رفح فى 11 يوليو 2015، وفى 12 يومًا فقط شارك مع وحدته فى 8 مداهمات ضدّ عناصر إرهابية، وأثبت شجاعةً أذهلت زملاءه.. ويذكر الحج أصلان أنه فى آخر مكالمة مع صديقه الضابط أحمد شوقي، قال: «أنا حاسس إنى مش هُرجع» وعندما حاول صديقه طمأنته، أكّد له: «ده مصيري.. أنا أتمنى أموت شهيدًا».
وعن تفاصيل استشهاد البطل، يقول والده: (فى مساء 23 يوليو، أثناء مهمة تمشيطية بالقرب من كمين «المهدية»، انفجرت عبوتان ناسفتان تحت مدرعته، ارتفعت بها 150 مترًا فوق الأرض. خرج محمود مصابًا، لكنه ظلّ يردّد الشهادة ثلاث مرات قبل أن يلفظ أنفاسه مبتسمًا).. وسريعا ذرقت عيونه بالدموع حزنًا على ابنه، قائلا: «فخور بأنى أب لشهيد، استشهد مدافعا عن أرضه وأهله ضد العناصر التكفيرية»..
قبل استشهاده بستة أشهر، أخبر محمود والده بأنه سينال الشهادة، وطلب منه ألا يحزن: قائلًا: «الشهادة شرف.. دى حاجة حلوة أوي»، موضحا أنه كان شديد التعلق بوالدته، بارًا بها، يحرص على إرضائها بشتى الطرق.
كانت كلماته نبوءة تحققت، لكنها تركت جرحًا فى قلب أمٍّ لم تكن تتخيل أن «الزغاريد» ستتحول إلى دموع.. وهنا يصف الحاج أصلان مشهد جنازة البطل بـ»العرس»، حيث شُيّع محمود فى قرية «بنى خيار» بحضور المئات، رافعين صوره وهاتفين: «الانتقام للشهداء».. رغم حزنه، وقف والده يشكر الله مرددا: «الحمد لله.. ابنى اختار وجه الله»..
لم يكن محمود مجرد ضابط، بل كان رمزًا للفداء، وأُطلق اسم الشهيد على إحدى المدارس فى محافظة المنيا، ليصبح نموذجًا للأجيال القادمة..
رحل محمود أصلان، لكن كلماته الأخيرة صارت شعارًا لكل من يؤمن بمصر.. هو لم يمت، بل صار قصة تُحكى للأطفال والأجيال القادمة، دمعة تذرفها الأمهات، همسة أمل فى أذن كل جندى مفادها أن «الشهادة ليست نهاية.. بل بداية خلود»..
فالشهيد يعلم متى يحين أجله، فقبل استشهاده بثلاثة أسابيع، نشر صورةً للآية الكريمة: *»وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ»*، وكتب فوقها: «حداد».. واليوم، وبعد عشر سنوات على استشهاده، لا تزال «ضحكته البريئة» – كما وصفها أهله – تُذكّرنا بأن الأبطال لا يغيبون.. إنهم فقط ينتظروننا فى الجنة.