خط التاريخ حروفه وتهادت كلماته وألحانه، لتترك سيمفونية وصوتًا للحق أيقظ أمة، ويقينا وصبر على البلاء، ليحل اليوم العالمي للغات الإشارة ليؤكد أن الإبداع الإنساني لا تحده عوائق الجسد ولا قيود الحواس، وأن العجز قد يتحول إلى قوة دافعة نحو التميز.
في هذا اليوم، يستعيد العالم أسماءً لامعة صنعت مجداها رغم الصمم أو فقدان الحواس، لتظل شاهدة على عظمة الإرادة الإنسانية، وليرسخ بيتهوفن أن أنماله لم تخلق للتواصل مع الناس بالكلام، بل لتكون وسيلة للتخلل لمشاعرهم وحواسهم من خلال موسيقاه.
ولتخوض هيلين كيلر معركتها ضد الصمم لتصبح رمزًا عالميًا للإرادة، بينما أثبت مصطفى صادق الرافعي أن الأدب قادر على أن يتجاوز صمت الأذن ليصل مباشرة إلى وجدان الأمة.
لودفيج فان بيتهوفن
بدأ بيتهوفن يفقد سمعه في السادسة والعشرين من عمره عام 1796، حيث عانى من طنين حاد في أذنيه جعله يتجنب المحادثات ويجد صعوبة في سماع الموسيقى، ورغم أن سبب الصمم ظل غامضًا، إلا أن بعض الأطباء رجحوا إصابته بالتيفوس أو أحد أمراض المناعة الذاتية، خاصة بعدما أظهرت التشريحات وجود التهاب في أذنه الداخلية.
كتب بيتهوفن في عام 1801 رسالة مؤثرة لأصدقائه يصف فيها عذابه وتأثير حالته على حياته المهنية والاجتماعية، ثم انتقل عام 1802 إلى ضاحية هيلنستات قرب فيينا بناءً على نصيحة طبيبه، هناك عاش لحظات من اليأس دفعت به إلى التفكير في الانتحار، لكنه سرعان ما قرر مواجهة مصيره والتعايش مع واقعه الجديد.
مع مرور الوقت تدهورت حالته حتى فقد سمعه تمامًا عام 1814، وأصبح يستخدم "دفاتر المحادثة" للتواصل مع من حوله، ورغم ذلك، لم يتوقف عن التأليف، بل كتب أعظم أعماله في تلك الفترة، ومنها السيمفونية التاسعة التي لم يسمع منها نغمة واحدة.
في عرضها الأول عام 1824 وقف الجمهور يصفق ويحيي المؤلف خمس مرات متتالية، ولوّحوا بالقبعات والمناديل في الهواء ليشاهد بيتهوفن مظاهر الإعجاب التي لم يعد يسمعها.
ظل بيتهوفن حتى آخر أيامه رمزًا على أن الإرادة قد تهزم الصمم، وأن الموسيقى ليست مجرد أصوات تُسمع، بل مشاعر تُكتب وتُخلّد في الذاكرة الإنسانية.

هيلين كيلر
أُصيبت هيلين كيلر بـ "التهاب بالرأس" وبدأت معاناتها معه في سن التاسعة، حيث اعتقد الأطباء أنها تعاني من حمى قرمزية أو التهاب في السحايا، مما أدى إلى فقدانها السمع والبصر تمامًا.
عرضها والداها وهي في السادسة على طبيب متخصص، أوصى بعرضها على ألكسندرغراهام بيل، الذي اقترح عليهما الذهاب إلى معهد بيركنز للمكفوفين في بوسطن، فأرسل معها مدير المعهد إحدى خريجاته تدعى "آن سوليفان"، وكانت تعاني مشاكل في الرؤية، تولت مسئولية تعليم هيلين أساسيات القراءة والكتابة للمكفوفين.
تعلمت كيلر بعد أشهر التعبير بإشارات الأصابع، وتعلمت الشعور بالأشياء ومسمياتها وتشكيل الحروف، كما تعلمت قراءة الحروف البارزة على الورق المقوى، ومنذ ذلك الحين أصبحت "آن" تعلم كيلر لغة برايل في معهد بيركنز، ثم التحقت بكلية رادكليف حيث حصلت على شهادة البكالوريوس في الآداب، وكانت المعلمة الأولى للصم والبكم في مدينة زيوريخ السويسرية التي تعود إليها أصولها، ونشرت كتاب عن تدريبها لهم.
نشرت كيلر ثمانية عشر كتاباً، ومن أشهر مؤلفاتها، "العالم الذي أعيش فيه، أغنية الجدار الحجري، الخروج من الظلام، الحب والسلام، وهيلن كيلر في اسكتلندا"، كما تُرجمت كتبها إلى خمسين لغة.

مصطفى صادق الرافعي
وفي الأدب العربي، يقف مصطفى صادق الرافعي شاهدًا على أن فقدان السمع لا يمنع انطلاق الكلمة، فقد أصيب بالصمم في شبابه، بمرض يقال أنه "التيفود" أقعده عدة أشهر في فراشه، وأثر ذلك المرض عليه وأصيب في أذنيه، واشتد به حتى فقد سمعَه نهائيا في الثلاثين من عمره، ولكن لم يستسلم لإعاقته التي جعلته أكثر ارتباطًا بالقراءة والكتابة، مما منحه فرصة للتركيز على تطوير مهاراته اللغوية، وصقل موهبته الأدبية، فأبدع في مجال المقالات الأدبية والنقد والشعر.
أصدر صادق الرافعي في عام 1903، ديوانه الأول، وقد حظي على إعجاب وإشادة شعراء عصره، أمثال البارودي وحافظ إبراهيم، لكنه ترك الشعر رغم ذلك وتفرغ إلى النثر الفني الأدبي.
وله العديد من الأعمال التي تحمل تأملاته العميقة ومن أشهرها: "السحاب الأحمر"، و"أوراق الورد"، حيث عبّر عن مشاعر الحب، الألم، والصراع الداخلي بأسلوب أدبي راقٍ يعكس تأثره بعزلته.
كما استخدم الرافعي إعاقته كوسيلة للحديث عن أهمية الإرادة والعزيمة، وكان يرى أن الإرادة البشرية أقوى من أي عائق، وهو ما ظهر جليًا في كتاباته، التي كانت مليئة بالحكمة والتفاؤل.
لم يكن الرافعي مجرد أديب، بل كان صاحب رسالة أدبية سامية، دافع عن اللغة العربية وأبرز جمالياتها، وترك إرثًا فكريًا يُعد من أعظم الكنوز الأدبية، ويظل حتى اليوم نموذجًا حيًا لقدرة الإنسان على تحويل المحن إلى منح، وصناعة النجاح من قلب المعاناة.
