فى محاولة لكبح جماح العجز المالى المتزايد وتقليص حجم الدين العام فى فرنسا، كشف رئيس الوزراء الفرنسى فرانسوا بايرو عن الخطوط العريضة لمشروع ميزانية عام 2026، مع مقترحات تشمل تخفيضات كبيرة فى الإنفاق، وإلغاء عطلتين رسميتين، وفرض قيود على المعاشات التقاعدية.
الخطة التى وُصفت بأنها «تقشفية» أثارت موجة غضب عارمة من مختلف أطياف المعارضة، من اليسار إلى اليمين المتطرف. وفى ظل برلمان منقسم وأزمات اقتصادية متفاقمة، أصبحت حظوظ «بايرو» السياسية على المحك، وسط تهديدات صريحة بحجب الثقة عن حكومته فى الخريف المقبل.
أعلن رئيس الوزراء الفرنسى، فى خطاب أمام النواب والوزراء، عن خطة تهدف إلى توفير ما لا يقل عن 43.8 مليار يورو من ميزانية البلاد لعام 2026. وتتضمن الخطة تجميدًا عامًا للإنفاق على مزايا الرعاية الاجتماعية ومدفوعات المعاشات التقاعدية فى العام المقبل عند مستويات عام 2025، دون حتى تعديلها فى ضوء التضخم، وهو ما لاقى انتقادات فورية من سياسيين يساريين ويمينيين متطرفين. كما تتضمن فرض «مساهمة تضامنية» من ذوى الدخل المرتفع، وتقليص عدد موظفى الخدمة المدنية، ودمج المؤسسات الحكومية. ولم ينجُ من هذه التخفيضات سوى الإنفاق الدفاعى فى ظل تصاعد التهديدات الروسية.
يسعى «بايرو» إلى تخفيض معدل الدين العام فى فرنسا، الذى تجاوز 3.3 تريليون يورو، لما يمثله من «فخ قاتل» يهدد استقلالية القرار المالى لفرنسا. كما يهدف مشروع الميزانية، الذى سيتم تقديمه رسميًا إلى البرلمان فى أكتوبر القادم، إلى خفض العجز البالغ 5.8 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى فى نهاية عام 2024 إلى 4.6 فى المائة بحلول نهاية عام 2026. أما الهدف الأكبر للحكومة الفرنسية فيتمثل فى خفض العجز إلى 3 فى المائة بحلول عام 2029، ليصبح فى النطاق المسموح به لدول الاتحاد الأوروبي.
ولتشجيع الفرنسيين على «العمل أكثر»، دعا بايرو أيضًا إلى إلغاء اثنتين من العطلات الرسمية الإحدى عشرة فى فرنسا، وحدد «اثنين الفصح» و«الثامن من مايو» - وهو عطلة وطنية ليس فقط فى فرنسا بل فى جميع أنحاء أوروبا، يخلد ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية فى أوروبا واستسلام ألمانيا النازية عام 1945 - معللًا أن تخفيض العطلات سيدر «مليارات اليوروهات» على الخزينة الفرنسية بفضل زيادة الإنتاج. وقد أثار هذا الاقتراح حفيظة الفرنسيين على نطاق واسع. وبحسب وكالة الإحصاء الفرنسية (INSEE)، فإن خطة بايرو المتوقعة لن ترفع الناتج المحلى الفرنسى إلا بنسبة تبلغ 0.06 فى المائة فقط، مما يشير إلى أن الأثر الاقتصادى سيكون هامشيًا للغاية.
وتعرضت العديد من إجراءات «بايرو» المقترحة لانتقادات شديدة من أحزاب المعارضة اليسارية واليمينية المتطرفة، التى تهدد بالفعل بإسقاط الحكومة بسبب ما يسمونه ميزانية تقشفية ستؤثر على الفقراء والعمال والمتقاعدين. ولا يتمتع التحالف الوسطى الهش الذى يدعم ماكرون وبايرو بأغلبية فى البرلمان، لذا سيتعين على رئيس الوزراء استخدام بند دستورى لتجاوز قرارات المشرعين لإقرار الميزانية، مما سيفتح الباب أمام تصويت بسحب الثقة من الحكومة. وقد أطاحت المعارضة بسلف بايرو، ميشيل بارنييه، العام الماضى بسبب الميزانية، مشيرين إلى خطة لفصل المعاشات التقاعدية عن التضخم لمدة عام، وهى الفكرة التى أعاد بايرو إحياءها الآن.

فى هذا السياق، أوضح خالد شقير، الكاتب الصحفى المختص بالشأن الفرنسي، ورئيس جمعية مصر–فرنسا 2000، لمجلة «المصور»، أن الإجراءات التى قام بها فرانسوا بايرو واقعية، وهى خطوة شجاعة وضرورية لوقف نزيف الاقتصاد الفرنسي. كما عمل «بايرو» على تحذير الفرنسيين قائلاً: «إننا نخسر خمسة آلاف يورو كل ثانية. ويجب وقف هذا». وطالبهم بضرورة التحلى بالمسئولية، ولم ينسَ أن يذكرهم بسيناريو اليونان فى الأعوام الماضية، مؤكدًا أن اليونانيين استطاعوا تخطى الأزمة عندما تخلوا عن بعض الامتيازات وقدموا تنازلات. لكن، وبعد حديثه بلحظات، تم انتقاد هذه الخطوات، وبصفة خاصة من أحزاب اليسار كافة، من حزب الخضر والحزب الاشتراكي، وأيضًا حزب فرنسا الأبية. وقد أكد الجميع أنه فى حال تمسكه بهذه الخطة، فلن يكون أمامهم سوى حجب الثقة عنه وعن حكومته فى الخريف القادم. كما اعترضت الأمينة العامة لفيدرالية العمال، صوفى بانيه، على اقتراح رئيس الوزراء بإلغاء يومين من حق العمال فى الإجازات، وأكدت أن هذا الاقتراح مرفوض شكلًا وموضوعًا.
وأشار «شقير» كذلك إلى تدخل مارين لوبان، ممثلة حزب التجمع الوطنى فى البرلمان، والتى سبق ولم توافق على طرح الثقة عن حكومة بايرو فى الشتاء الماضي، إلا أنها أكدت رفضها لهذه الخطوات التى نادى بها رئيس الوزراء، وأنها ستضطر لحجب الثقة عن حكومته. ويرى «شقير» أن التصريحات التى أطلقتها الحكومة الفرنسية ورئيسها كـ«بالونة اختبار» قد يتبعها تنازل من «بايرو» عن بعض البنود المقترحة حتى يتفادى عملية طرح الثقة عنه وعن حكومته.
أما فيما يخص الثمن الذى ستدفعه فرنسا ما بين سياسة التقشف وزيادة ميزانية الدفاع، فقال «شقير» إن الوضع يبدو صعبًا على الحكومة الفرنسية لإقناع الشارع بإجراءات التقشف. وأظهر آخر استطلاع للرأى قامت به مؤسسة «إيلاب» أن غالبية الفرنسيين يرفضون هذا المقترح. فالمواطن الفرنسى يجد نفسه أمام انخفاض فى قوته الشرائية بسبب ارتفاع أسعار المنتجات، والإيجارات، والمواصلات، مما أثر على مستوى الرفاهية التى كان يتمتع بها قبل أزمة كورونا والأزمة الأوكرانية. لذلك، لا يجب المساس بحقوقه لأنه بالفعل يعاني، وهو غير مستعد لتقديم تنازلات أخرى.
أما فيما يتعلق برفع موازنة الدفاع، فقد أظهر استطلاع للرأى موافقة الفرنسيين على مقترحات الرئيس ماكرون فى هذا الشأن، لأهمية توفير الحماية لهم ولأولادهم ولمستقبل فرنسا، بعد أن نجح ماكرون فى دق ناقوس الخطر، مستفيدًا من أجواء الحرب فى أوكرانيا، ومن انسحابات الولايات المتحدة الأمريكية المتكررة من توفير الدعم العسكرى لأوكرانيا.
وفى ختام حديثه، صرح «شقير» أنه إذا استطاع بايرو وحكومته تفادى حجب الثقة، ستستمر حكومته حتى الانتخابات الرئاسية القادمة فى 2027. وعلى الرغم من صعوبة هذا الاحتمال، إلا أنه ليس مستحيلًا. أما إذا تحالف أقصى اليسار وأقصى اليمين فى فرنسا فى الخريف القادم، فستسقط حكومة بايرو، وسيتم إجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة، التى قد تعطى الأغلبية لحزب التجمع الوطنى (اليمين المتطرف) - ولكن ليس أغلبية مطلقة - أو لليسار فى حالة اتحاده ككتلة واحدة. وعندئذ، تدخل فرنسا فى طريق مبهم وغير واضح خلال العامين الأخيرين من ولاية الرئيس ماكرون، الذى سيجد نفسه أمام حكومة يمينية متطرفة لا يرغب فيها، أو حكومة يسارية لا يتمناها، لكنه، وفقًا للدستور الفرنسي، سيكون مضطرًا للتعايش معها حتى نهاية ولايته.
