الخلل لم يعد تنظيميًا بحتًا، بل له كلفة اقتصادية يومية قابلة للقياس، فى أزمات صيف 2024 وصيف 2025، على سبيل المثال، تسبب تأخر تشغيل وحدات التغييز (FSRU) من طراز Energos Power وEnergos Eskimo، إلى جانب تأخر استيراد الشحنات البديلة، فى فجوة تشغيلية دفعت الدولة لاستخدام المازوت كوقود بديل فى محطات الكهرباء، هذا الخيار وإن كان لازمًا فى سياق الطوارئ، تسبب فى خسائر مباشرة قُدرت بحوالى 10 ملايين دولار يوميًا، نتيجة فروق السعر بين الغاز والمازوت، إلى جانب الارتفاع الحاد فى تكاليف الصيانة لمحطات التوليد، إذ إن استخدام المازوت يرفع من معدلات ترسيب الكبريت والكربون داخل التوربينات، ويقلص العمر الافتراضى للمعدات، هذا النوع من الكُلفة المركّبة- المالية والتقنية - هو نتيجة مباشرة لغياب مركز وطنى مسئول عن التنسيق اللحظى بين الإنتاج، النقل، والتشغيل.
فى الوضع الراهن، تُدار منظومة الطاقة فى مصر من خلال توازن هش بين جهات متعددة: وزارة البترول مسئولة عن الإنتاج والتعاقدات الخارجية؛ وزارة الكهرباء تدير الطلب والتوليد والتوزيع؛ جهاز تنظيم الكهرباء والغاز يشرف على التسعير والتنظيم؛ ووزارات أخرى مثل التخطيط والبيئة لها أدوار جانبية، لكن حين تندلع أزمة، كما فى حالة توقف شحنة أو تعطل وحدة تغييز، لا توجد جهة تملك صلاحية أو قدرة اتخاذ القرار السيادى المتكامل الذى يربط بين مستوى المخزون، وحاجة الشبكة، وبدائل التمويل، وجدوى التوريد.
وزارة طاقة موحدة، بحكم تعريفها المؤسسى، تتجاوز فكرة دمج المهام، لتشكل عقلًا مركزيًا للدولة فى قطاع الطاقة، الوزارة ستكون مسئولة عن صياغة رؤية وطنية لمزيج الطاقة، تأخذ فى اعتبارها الأمن القومى، تكاليف الإنتاج، مستقبل التحول إلى مصادر نظيفة، وتحديات الإمداد فى ظل التوترات الإقليمية مثل ما يحدث فى البحر الأحمر، كما ستعمل كجهة تفاوض مركزية أمام الشركاء الدوليين، بدلاً من تعدد الجهات المنخرطة حاليًا فى التعاقد، التوريد، والتمويل.
النماذج الدولية تؤكد فاعلية هذا النهج، ففى المملكة العربية السعودية، شكّلت وزارة الطاقة بعد إعادة هيكلتها عام 2019 نموذجًا للحوكمة الفعالة، حيث وحّدت تحتها ملفات النفط، الغاز، الكهرباء، والطاقة المتجددة، ما مكنها من إدارة مشاريع كبرى مثل الربط الكهربائى الخليجى والهيدروجين الأخضر بقدرات تفاوضية وتنفيذية موحدة، فى الولايات المتحدة، وزارة الطاقة لا تكتفى بالتنظيم، بل تلعب دورًا رائدًا فى الابتكار وتمويل التقنيات المستقبلية، مستفيدة من أدوات تحليل البيانات الفورية مثل إدارة معلومات الطاقة (EIA). أما فى الصين فقد أُنشئت لجنة وطنية للطاقة ضمن مجلس الدولة لتوجيه دفة السياسة الطاقوية بناءً على الأولويات الاقتصادية والأمنية.
حتى فى أوروبا، حيث تتعدد مستويات الحوكمة، لجأت فرنسا إلى دمج ملف الطاقة مع البيئة تحت مظلة وزارة التحول البيئى، تأكيدًا على الترابط بين الاستدامة والقدرة التشغيلية، هذا النهج عزز قدرة الدولة على تحقيق أهداف مناخية دون الإضرار باستقرار الشبكة أو كفاءة الإمداد.
التجربة المصرية فى الكهرباء تمثل بصراحة نموذجًا يُحتذى به داخل الجهاز البيروقراطى، إذ تمكنت من تنفيذ برامج توسعية طموحة- كخطة سيمنز الثلاثية - بكفاءة تنفيذية عالية، مستندة إلى قدرة تنظيمية واضحة، فى المقابل، بقى قطاع البترول يعانى من افتقار للتخطيط المرن، وتخبط فى إدارة سلاسل التوريد، وتكرار للارتباك المؤسسى فى التعامل مع السوق العالمية، وهو ما أظهره الأداء غير المتماسك فى ملف وحدات التغييز العائمة، وتأخر دخولها الخدمة رغم الجاهزية الفنية.
إن هذا التفاوت فى الأداء لا يمكن حله بتعديلات موضعية، بل يستوجب إعادة بناء المؤسسة المنظمة للقطاع من الأساس، فالمطلوب ليس مجرد تحسين التنسيق، بل تأسيس بنية مؤسسية قادرة على اتخاذ قرار سيادى طاقوى مبنى على معطيات السوق، أولويات الأمن القومى، وحتميات التحول التكنولوجي، وزارة الطاقة المقترحة لا ينبغى أن تكون مجرد تجميع لملفات البترول والكهرباء، بل عقل تحليلى واستراتيجى يقود ملفات الطاقة التقليدية والمتجددة، يشرف على البيانات القومية للاستهلاك والإنتاج، ويملك سلطة فورية على أدوات التخزين والتوزيع.
من هذا المنظور، يصبح إنشاء وزارة طاقة موحدة فى مصر ليس فقط خطوة تنظيمية، بل تحولًا فى فلسفة إدارة الدولة للموارد الاستراتيجية، فكما كانت وزارة المالية نقطة مركزية لضبط السياسة المالية، وكما أصبحت وزارة التخطيط حاملة لرؤية التنمية المستدامة، فإن وزارة الطاقة يجب أن تُبنى لتكون الجهة السيادية التى تُوازن بين النمو الاقتصادى، المتغيرات المناخية، ومستهدفات الاكتفاء الذاتى.
ورغم أن هذا التوجه سيصطدم بمقاومات بيروقراطية قائمة، خصوصًا من داخل وزارات ترى فى التوحيد تهديدًا للصلاحيات، إلا أن المصلحة الوطنية تقتضى الخروج من التوازنات المؤقتة إلى منظومة متماسكة للحكم الطاقوى، كما أن التوحيد لا يعنى الإلغاء، بل إعادة تعريف الأدوار داخل بنية أكثر فعالية وكفاءة.
فى ضوء التجارب الدولية، والخسائر المحلية القابلة للقياس، وحتميات المستقبل الطاقوي، تبدو الحاجة إلى وزارة طاقة فى مصر ليست خيارًا، بل استحقاقًا مؤجلًا، ومن لا يمتلك حوكمة طاقته، لن يملك قراره الاقتصادى ولا موقعه الجيواستراتيجى، والوقت الآن ليس للترقيع، بل لإعادة البناء المؤسسى من الجذور.