منذ أن طوت مصر صفحة حكم جماعة الإخوان فى 3يوليو 2013، بدأت الدولة فى إعادة بناء المؤسسات وإعادة ضبط بوصلة السياسات العامة، وكان ملف التعليم فى صدارة الأولويات، وعلى مدار أكثر من عقد، تعاقبت الحكومات على وضع استراتيجيات لإصلاح المنظومة التعليمية، التى ظلت عقودا تعانى التكدس، وضعف الجودة، وعدم ملاءمة مخرجاتها لسوق العمل.
فى هذا التقرير، نرصد أبرز ملامح ما جرى فى ملف التعليم منذ رحيل الإخوان وحتى اليوم، حيث يتأرجح المشهد بين الطموحات المعلنة والتحديات المزمنة.
فور عزل محمد مرسى، اتخذت وزارة التعليم خطوات لإزالة ما اعتُبر «تغولًا فكريًا» فى المناهج الدراسية، حيث تم حذف مواد دينية مسيّسة، ومراجعة محتوى التاريخ والتربية الدينية، واستُبعد عشرات القيادات التعليمية المحسوبة على الجماعة، وأُعيد تشكيل لجان تطوير المناهج بهيمنة واضحة لأساتذة الجامعات والمتخصصة.
فى 2018، أطلقت وزارة التربية والتعليم مشروع «التعليم 2.0» كنظام جديد يبدأ من رياض الأطفال، ويصعد عامًا بعد عام.
وتم الاستغناء عن الامتحانات حتى الصف الثالث الابتدائي، واعتمد النظام الجديد على التعلم النشط والأنشطة الصيفية والمهارات.
وطُورت مناهج اللغة العربية، والرياضيات، والعلوم، والتربية الدينية، مع التركيز على بناء الشخصية، والتفكير النقدي، والهوية الوطنية، ثم جاء عام 2019 بتغييرات جذرية فى نظام الثانوية العامة، حيث تم إلغاء النظام القديم القائم على الامتحان الموحد، لصالح نظام تقييم جديد يعتمد على الامتحانات الإلكترونية باستخدام أجهزة «التابلت».
بعد ذلك، أُدخلت نماذج مختلفة للأسئلة بنظام «الكتاب المفتوح “ open book، وتم منع الحفظ والتلقين، وشهدت السنوات الأولى لتطبيق هذا النظام «مشكلات تقنية واسعة»، من تعطل الخوادم، وضعف البنية التحتية، ما أدى إلى تكرار بعض الامتحانات، واحتجاجات بين أولياء الأمور والطلاب.
كما أدركت الدولة أهمية التعليم الفني، فأطلقت منذ 2018 مشروع مدارس التكنولوجيا التطبيقية بالشراكة مع القطاع الخاص، وتجاوز عدد هذه المدارس 60 مدرسة حتى منتصف 2025، وتغطى مجالات الصناعة، التكنولوجيا، السياحة، الزراعة، والذكاء الاصطناعي، وأُنشئت هيئة مستقلة لاعتماد وجودة التعليم الفني، وحظى الخريجون بفرص توظيف مباشرة بعد التخرج.
وفى إطار المشروع القومى «حياة كريمة»، تم بناء وتجديد آلاف المدارس فى القرى، مع توصيل الإنترنت، وتوفير الأثاث والتجهيزات، ويُعد المشروع أكبر دفعة لتقليل الفجوة التعليمية بين الريف والحضر منذ عقود.
رغم ما تحقق، فإنه لا تزال هناك ملفات شائكة تؤرق المنظومة، منها عجز المعلمين، وأقرت الوزارة بوجود عجز يتجاوز 250 ألف معلم، وبدأت بتنظيم مسابقات لتعيين 30 ألف معلم سنويًا.
كما تُعد مشكلة الكثافة فى الفصول من الملفات الشائكة، وكانت تضم الفصول أكثر من 70 طالبًا فى بعض المناطق، بخلاف أن التعليم الخاص والدولى تصاعد نفوذهما وارتفعت المصروفات، ما أدى إلى فجوة طبقية فى جودة التعليم.
وفى 2024، أعلن الوزير الدكتور رضا حجازى عن نظام جديد يُطلق عليه «البكالوريا المصرية»، يجمع بين منهج وطنى وتقييمات عالمية، ويُطبق بشكل تجريبى بداية من العام الدراسى 2025/2026، ويهدف إلى إعداد جيل قادر على المنافسة محليًا ودوليًا، ويعتمد النظام على مشروع تخرج، واختبارات متعددة المستويات، وتقييم مستمر.
وشهد التعليم المصرى تحولات جوهرية، سعت لإعادة بناء منظومة متآكلة، والتخلص من آثار التسييس والتهميش، ومع كل إنجاز تبقى الحقيقة أن التعليم فى مصر لا يزال بحاجة إلى تمويل كافٍ، وتخطيط طويل المدى، وإرادة لتجاوز البيروقراطية، لكن الطريق لا يزال طويلًا.
وفى هذا السياق، قال الدكتور عاصم حجازى، الخبير التربوى وأستاذ علم النفس التربوى بكلية التربية بجامعة القاهرة: إن من أبرز إنجازات ثورة 30 يونيو فى قطاع التعليم أنها أعادت للنظام التعليمى استقلاليته وحياده، بعد أن كان موجهًا لخدمة أيديولوجية معينة تسعى لفرض رؤيتها على المجتمع، دون أى اعتبار لأهداف الدولة أو خططها التنموية.
وأكد «حجازى» أن ثورة 30 يونيو شكلت انطلاقة حقيقية لتحول شامل فى فلسفة النظام التعليمي، الذى أصبح أكثر ارتباطًا برؤية مصر التنموية وبالمعايير العالمية وتخصصات المستقبل، بما يشمله ذلك من مواكبة للثورة الصناعية والتطور الرقمي، وانطلقت منذ ذلك الحين ثورة تعليمية مستقلة، شملت عناصر النظام كافة، ووضعت أسسًا قوية لتطوير مستدام.
وأشار إلى أن أبرز مظاهر هذا التطوير تمثلت فى الربط المباشر بين التعليم وسوق العمل، من خلال تطوير مناهج التعليم العام والفني، وتطبيق منهجية الجدارات، والتوسع فى إنشاء مدارس التكنولوجيا التطبيقية التى بلغ عددها 79 مدرسة حتى عام 2024، كما تم التوسع فى إنشاء الجامعات التكنولوجية، ليصل عددها إلى 10 جامعات، فضلًا عن إنشاء 20 جامعة أهلية غير هادفة للربح، ما أسهم فى استيعاب أعداد أكبر من الطلاب وتنويع مجالات الدراسة، ورفع عدد الجامعات المصرية من 49 جامعة فى عام 2014 إلى 109 جامعات فى 2024، تشمل الجامعات الحكومية والخاصة والأهلية والتكنولوجية.
وأوضح «د. حجازى» أن هذا التوسع تزامن مع تبنى معايير عالمية فى تطوير المناهج من مرحلة رياض الأطفال حتى نهاية المرحلة الثانوية، فضلًا عن تطوير مناهج التعليم الفنى وفقًا لأحدث المعايير الدولية، وتحديث البرامج الدراسية واللوائح فى الجامعات، وعلى رأسها كليات التربية المسئولة عن إعداد المعلمين، وتم كذلك استحداث تخصصات أكاديمية جديدة ترتبط بالصناعات التكنولوجية المتقدمة، فى إطار جهود الدولة لتوطين هذه الصناعات وجذب الاستثمارات المرتبطة بها.
وأضاف أن أحد المؤشرات المهمة على تطور التعليم فى مصر، هو التحسن الملحوظ فى التصنيفات الدولية، حيث تم إدراج 79 مؤسسة تعليمية مصرية فى تصنيف ويبومتركس (يناير 2024)، منها 6 جامعات ضمن أفضل 1000 جامعة على مستوى العالم، إضافة إلى إدراج 13 جامعة مصرية فى تصنيف QS العالمى للتخصصات الجامعية، وهو ما يعكس جودة التطوير الذى يشهده النظام التعليمي، ويزيد من الثقة فى الخريج المصرى على المستوى الدولى.
كما أوضح أن الدولة عملت على التوسع فى إتاحة التعليم وتحسين البنية التحتية، حيث تم إنشاء 105 آلاف فصل دراسى جديد بزيادة 22 فى المائة مقارنة بعام 2014/2015، وافتتاح 97 مدرسة جديدة، كما تم توفير فرص تعليمية مخصصة للفئات المعرضة للتسرب من التعليم، من خلال المدارس المجتمعية، وغيرها من المبادرات الداعمة للعدالة التعليمية.
فى حين، أوضح الدكتور حسن شحاتة، الخبير التربوى، أن توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى فى بناء إنسان جديد للجمهورية الجديدة كانت نقطة الانطلاق لتحول جذرى فى النظام التعليمي، قائم على إعداد شخصية مصرية قادرة على التفكير والتحليل والتفسير، وقادرة أيضًا على إبداء الرأى وتقبّل الآخر واحترام الثقافات المختلفة، بما يرسّخ لقيم التعددية والانفتاح.
وأكد «شحاتة» أن الرؤية التعليمية بعد ثورة 30 يونيو وضعت التعليم المصرى فى إطار المنافسة العلمية الدولية، من خلال توظيف كل ما هو عالمى لخدمة ما هو مصري، وبناء منظومة تعليمية حديثة تصنع أجيالًا مؤهلة للمستقبل، وبدأ هذا التحول مبكرًا من مرحلة رياض الأطفال، حيث تم إنشاء رياض أطفال جديدة وتزويدها ببرامج تعليمية، تستهدف بناء العقل المصرى، وتربية الأعماق، وتنمية الأخلاق الوطنية.
وأشار «شحاتة» إلى أن مشروع «تحالف وتنمية» عزز العلاقة بين الجامعات واحتياجات المحافظات التنموية، وساهم رجال الأعمال فى دعم هذا التوجه داخل محافظاتهم، من خلال الربط بين الجامعات والمصانع والمؤسسات الإنتاجية، وهو ما مكّن الخريجين من امتلاك جدارات سوق العمل، والتعامل مع التحديات بأساليب علمية معتمدة على التكنولوجيا.
وفى ذات السياق، أكد الدكتور تامر شوقى، الخبير التربوى، أن ثورة 30 يونيو كانت بمثابة طوق نجاة حقيقى لمنظومة التعليم المصرى، بعد أن كادت تنزلق إلى نفق مظلم من التسييس والانغلاق الفكري، حيث كان يُعاد توجيه التعليم لخدمة أيديولوجيات معينة على حساب الهوية الوطنية وخطط التنمية.
وأوضح «شوقى» أن ملف المناهج الدراسية شهد تحولات جذرية منذ عام 2018، حين بدأت وزارة التربية والتعليم فى تطوير المناهج بشكل علمي، بداية من مرحلة رياض الأطفال، ثم توالى التطوير ليصل حاليًا فى عام 2025 إلى الصف الأول الإعدادي، ومن المخطط أن يستمر حتى الصف الثالث الثانوى بحلول عام 2030، منوهًا بأن المناهج تحولت من أساليب الحفظ والتكرار إلى مناهج متكاملة تركز على الفهم والتحليل وحل المشكلات والبحث عن المعلومات، وهى مهارات ضرورية لمواكبة الحياة المعاصرة، وتتماشى مع المعايير الدولية.
وفيما يخص ملف المعلمين، أشار د. شوقى إلى أن الدولة اتخذت العديد من الإجراءات لتحسين أوضاع المعلمين، سواء من حيث رفع الأجور والمعاشات، أو صرف حوافز ومكافآت إضافية، وخاصة مقابل الحصص الزائدة، إضافة إلى تحسين أوضاعهم الصحية والاجتماعية، كما تم التركيز على تطوير مهاراتهم، لا سيما فى التعامل مع التكنولوجيا واستخدامها فى التدريس، إلى جانب التطوير العلمى والمهنى فى التخصصات المختلفة.
وأضاف أن هناك اهتمامًا كبيرًا بتأهيل القيادات التربوية، ومن أبرز المبادرات الرئاسية فى هذا الإطار تعيين 1000 مدير مدرسة بعد إعدادهم أكاديميًا وتربويًا بشكل مناسب.
وأفاد الخبير التربوى بأن التكنولوجيا التعليمية باتت محورًا رئيسيًا من محاور تطوير التعليم فى مصر، حيث تم تعميم استخدام الشاشات الذكية فى العديد من مدارس الجمهورية، كما حصل طلاب الصف الأول الثانوى على جهاز التابلت كهدية من الدولة، وتحولت امتحانات الصفين الأول والثانى الثانوى إلى امتحانات إلكترونية بالكامل، كما تم تعميم التصحيح الإلكترونى فى امتحانات الثانوية العامة بعد تطبيق نظام «البابل شيت»، ما أسهم فى تقليل الأخطاء وتسريع نتائج التصحيح.
وأشار أيضًا إلى إنشاء منصات تعليمية إلكترونية تغطى كافة المراحل التعليمية وتوفر محتوى تعليميًا متميزًا ومجانيًا، ما أدى إلى تقليص الاعتماد على الدروس الخصوصية.
وفى ملف التعليم الفنى والتدريب المهنى، أكد «شوقى» أن الدولة منحته اهتمامًا غير مسبوق، من منطلق كونه أحد روافد التنمية المستدامة وفقًا لرؤية مصر 2030، وسعت الوزارة إلى تطوير منظومة التعليم الفنى بالكامل، من خلال تحسين التعليم الفنى التقليدى (الصناعى، الزراعى، التجارى)، بالتوازى مع إنشاء مدارس التكنولوجيا التطبيقية، التى تُعد نقلة نوعية فى هذا المجال، حيث تمنح الطلاب تدريبًا عمليًا وشهادات معترف بها تؤهلهم لسوق العمل المحلى والدولى.
وفى هذا السياق، قال د. شوقى إنه فى عام 2024، بلغ عدد مدارس التكنولوجيا التطبيقية 79 مدرسة موزعة على 22 محافظة، بينها 25 مدرسة متخصصة فى تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، فى إطار التوجه الاستراتيجى نحو التحول الرقمى. وفى عام 2025، ارتفع العدد إلى 90 مدرسة، وتسعى الوزارة إلى تحويل 1270 مدرسة فنية إلى مدارس دولية، بالتعاون مع دول مثل اليابان وإيطاليا، ومؤسسات القطاع الخاص، ورجال الأعمال، لتأهيل الطلاب لسوق العمل العالمي، وتستهدف الوزارة الوصول إلى 420 مدرسة تكنولوجيا تطبيقية بحلول عام 2030، بطاقة استيعابية تصل إلى 130 ألف طالب، وتم تطوير المناهج والبرامج الدراسية فى هذه المدارس وفقًا لمنهجية الجدارات المهنية، التى تركز على المهارات العملية والكفاءة الفعلية، وليس فقط الجانب المعرفى.
كما أكد الدكتور محمد فتح الله، أستاذ القياس والتقويم والإحصاء النفسى والتربوى بالمركز القومى للامتحانات، أن منظومة التعليم فى مصر شهدت خلال الفترة من عام 2013 وحتى 2025 تحولات كبيرة، فى إطار رؤية مصر 2030 التى تضع التعليم فى صدارة أولويات التنمية الشاملة والمستدامة.
وأوضح أن الدولة المصرية أولت اهتمامًا متزايدًا بإصلاح التعليم، باعتباره أداة استراتيجية لمواجهة التحديات الوطنية المستقبلية، حيث تم إطلاق العديد من المبادرات والتشريعات التى استهدفت تطوير التعليم قبل الجامعى والتعليم الجامعي، مع تركيز ملحوظ على التعليم الفني.
وأشار «د. فتح الله» إلى أن تطوير التعليم قبل الجامعى، بدأ من مرحلة رياض الأطفال، حيث تم إدخال مناهج حديثة تعتمد على التكامل بين المهارات والعلوم والفنون، بالإضافة إلى تدريب المعلمات على استراتيجيات التعلم النشط، إلا أن التطبيق واجه بعض المعوقات مثل نقص المعلمات المدربات، وضعف البيئة الصفية، وقلة الوسائل التعليمية، مع الحاجة إلى دعم بنية أساسية قوية تحقق جودة حقيقية داخل المدارس الحكومية والخاصة.
وأضاف أنه رغم التوسع فى هذه المرحلة، فإنه من الضرورى أن تصل خدمات رياض الأطفال إلى جميع مناطق الجمهورية، مع تعزيز الشراكة المجتمعية لتوفير أدوات وأنشطة تربوية بالتعاون مع المجتمع المدنى ورجال الأعمال، وتطوير برامج تدريبية مخصصة لخريجات كليات التربية النوعية للعمل فى هذا المجال.
وشدد على أن المنظومة ما زالت تعانى من مشكلات هيكلية، أبرزها، التكدس فى الفصول، ومحدودية الدعم الإدارى للمعلمين، وضعف آليات الإشراف التربوي، وهى أمور تعرقل تطبيق النظام الجديد بالشكل المرجو.
وأشار «فتح الله» أيضًا إلى جهود الدولة فى مجال التحول الرقمى من خلال إطلاق منصة بنك المعرفة، وإنشاء مكاتب رقمية مفتوحة للطلاب والمعلمين، وتقديم برامج إرشادية وتربوية مستوحاة من التجارب الدولية مثل التجربة الفنلندية فى الفصول الصغيرة، ما أسهم فى إثراء المحتوى الرقمى وتوفير مصادر تعليمية متعددة.

