فى ظهيرة يوم السبت الأول من يونيو، ضجت وسائل التواصل الروسية بما وصفته تقارير محلية بأنه أعنف هجوم أوكرانى داخل العمق الروسى حتى الآن، فى إيركوتسك أقصى شرق سيبيريا، وعلى بعد آلاف الكيلومترات من جبهة الحرب، وأظهرت لقطات تداولها سكان محليون طائرات مسيرة تطلق من شاحنات مدنية باتجاه مطار استراتيجى، مشهد تكرر فى مورمانسك، وفى قواعد عسكرية أخرى داخل ريازان وإيفانوفو، فلم يعد الهجوم محصورًا على الحدود أو بالمناطق المتنازع عليها بل تتسلل إلى قلب روسيا.
وفى رد مباشر أعلن جهاز الأمن الأوكرانى مسئوليته عن العملية التى أطلق عليها اسم «شبكة العنكبوت»، مؤكدًا إلحاق الضرر بـ41 طائرة عسكرية روسية، بينها طرازات نادرة من طائرات A-50 الاستراتيجية وTu-95، وفى الفيديوهات التى نشرتها أوكرانيا تظهر رئيس الجهاز، فاسيلى ماليوك، وهو يتباهى بما سماه «الاحتراق المبتهج» للطائرات الروسية، بينما كانت موسكو تسقط عشرات المسيرات باتجاه العاصمة وتحاول احتواء الأضرار، الهجوم الواسع بالطائرات المسيرة جاء متزامنًا مع عملية نوعية أطلقتها كييف داخل الأراضى الروسية، ركزت على القواعد التى تضم طائرات قادرة على حمل رؤوس نووية.
فى المقابل، أفادت روسيا بإسقاط عشر طائرات مسيرة أوكرانية كانت تتجه نحو موسكو، حسب تصريحات عمدة العاصمة سيرجى سوبيانين، كما تم إسقاط سبع مسيرات أخرى فى منطقة كالوغا، بحسب السلطات المحلية، وأعلنت هيئة الطيران الروسية «روزافياتسيا» تعليق الرحلات فى مطارات فنوكوفو ودوموديدوفو وكالوغا لدواعٍ أمنية، ثم أعيد فتحها بعد تقييم الموقف.
على صعيد آخر، أعلنت روسيا للمرة الأولى توغل قواتها البرية فى منطقة دنيبروبيتروفسك، وهى خطوة غير مسبوقة منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عامين، وأفادت وزارة الدفاع الروسية بأن وحدة دبابات وصلت إلى الحدود الغربية لما يعرف بـ «جمهورية دونيتسك الشعبية»، وواصلت التقدم فى عمق منطقة دنيبروبيتروفسك، وتمثل المنطقة هدفًا استراتيجيًا بالنظر إلى ثقلها الصناعى وموقعها الجغرافى الرابط بين الشرق والوسط الأوكرانى.
ترافق التصعيد الميدانى مع جمود سياسى بعد فشل جولة مفاوضات إسطنبول فى إنهاء النزاع الروسى الأوكرانى.
وفى خضم التصعيد المستمر واتساع رقعة الضربات المتبادلة بين موسكو وكييف، أشار خبير الشئون الروسية، أونتيكوف أندرى فى تصريحاته للمصور، إلى أن التصعيد الأوكرانى بالطائرات المسيرة فى الداخل الروسى لا يعكس تحولًا حقيقيًا فى موازين القوى، بل هو أقرب إلى محاولة لصنع مشهد إعلامى يوحى بالقدرة على المبادرة والهجوم، حتى وإن لم يكن لذلك أثر ملموس على سير المعارك، ويوضح أن بعض هذه الضربات أحدثت بالفعل أضرارًا فى طائرات ومرافق روسية، إلا أن الهدف الأساسى من وجهة نظره لم يكن عسكريًا بحتًا، وإنما توجيه رسائل للغرب مفادها أن أوكرانيا ما زالت تمتلك القدرة على الإرباك والرد. وأضاف «أندري» أن هذا النوع من الضربات، بالرغم من طابعه الاستعراضى، لا يغير فى الواقع العملياتى شيئًا، طالما أن السيطرة الميدانية تميل لصالح القوات الروسية، التى تحقق تقدمًا ثابتًا فى أكثر من محور.
أما بشأن التحرك الروسى الأخير فى دنيبروبيتروفسك، فيؤكد «أندرى» أنه لا يحمل فى طياته تغييرًا فى الأهداف الاستراتيجية لموسكو، بل هو امتداد طبيعى للتكتيك الروسى القائم على الضغط المتواصل على عدة جبهات بالتوازى، فالقوات الروسية، كما يشير، تمضى فى تنفيذ عمليات متقدمة فى مناطق مثل لوجانسك، خارسون، زاباروجيا، وسومى، بهدف توسيع نطاق سيطرتها وخلق مناطق عازلة تؤمن المجال الحيوى وتحمى خطوط الإمداد من أى اختراقات مفاجئة، ويرى أن الانتقال إلى دنيبروبيتروفسك يتسق مع هذا النهج، ويعكس تصميمًا روسيًا على تعزيز مكاسبها الميدانية قبل أى مفاوضات مستقبلية.
وأوضح أن الأهداف الروسية لم تتغير منذ بدء العملية العسكرية، إذ إن موسكو لا تزال تتمسك بقائمة مطالبها التى طُرحت خلال المفاوضات الأولى، وهى مطالب تعتبرها مرتبطة بشكل مباشر بأمنها القومي، ويشدد على أن روسيا مستعدة نظريًا للحلول السياسية إذا ما تحققت هذه الأهداف، لكنها -بحسب تعبيره- لا تعول كثيرًا على مسار دبلوماسى فى ظل ما تعتبره تعنتًا أوكرانيًا مدعومًا غربيًا، وحذر «أندرى» من أن استمرار تقدم الجيش الروسى على الأرض قد يفرض معادلات أكثر تعقيدًا على كييف لاحقًا، إذ إن ما ترفضه اليوم فى سياق تفاوضى قد يصبح أقل مما يمكن أن يُعرض عليها فى المستقبل، إذا ما استمرت الخسائر الميدانية وتآكلت أوراق الضغط الأوكرانية تدريجيًا.
على الصعيد الدولى، كشف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أنه أجرى مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بعد الضربة الأوكرانية، وصفها بأنها «جيدة لكنها غير كافية لتحقيق السلام الفورى»، اللافت أن الولايات المتحدة بدأت تفقد موقعها كوسيط محايد فى أعين كثيرين، فترامب الذى عاد إلى السلطة متعهدًا بإنهاء الحرب خلال يوم، لم ينجح سوى فى فتح نافذة اتصالات مع بوتين، اتصالات وصفت بـ«الإيجابية»، لكنها لم تثمر عن خطوات ملموسة، فى وقت تتزايد فيه الضغوط عليه داخليًا وخارجيًا.
من جهة أخرى، تصر أصوات فى لندن على أن بريطانيا باتت فى حالة حرب فعلية مع روسيا، سواء عبر دعم أوكرانيا عسكريًا أو من خلال التصعيد الاستخباراتى، وذلك بعد تفاقم التوتر بين موسكو ولندن فى الأيام الأخيرة، بعد اتهام روسيا لبريطانيا بالتورط المباشر فى الهجمات الأوكرانية بالطائرات المسيرة التى استهدفت مواقع داخل العمق الروسى، وتزامن هذا التصعيد مع تحذيرات روسية بأن الانخراط البريطانى قد يؤدى إلى تداعيات «يصعب احتواؤها»، وسط تصاعد التحذيرات المتبادلة والخشية من انزلاق الوضع إلى مواجهة أوسع.
