على طريقة مشيناها خُطىً كُتِبَت علَينا ومَن كُتِبَت علَيهِ خُطىً مشاها.. لم يمش نجم خطاه كخلق الله، كان تقريبًا يقفز عاليًا متخطيًا كل العكوسات التى تقف فى طريقه، لم تكن الرحلة سهلة ميسورة، ولا الدابة مسيرة مأمورة، كانت رحلة شاقة فى طريق وعرة، أدمت قدمى «نجم»، وأنهكته الخطوب، ولكنها لم تنل من روحه الوثابة، ظل حتى رحيله يخمش فى وجه الحياة.
كانت ولادته صعبة، كما كان مهده شائكًا، وطفولته معذبة، كذا شبابه لم يكن مرفهًا، عمل نجم فى معسكرات الإنجليز متنقلاً بين مهن كثيرة، وفى «فايد» وهى إحدى مدن القنال التى كان يحتلها الإنجليز التقى بعمال المطابع الشيوعيين وكان فى ذلك الحين قد علم نفسه القراءة والكتابة، واشترك مع الآلاف فى المظاهرات التى اجتاحت مصر سنة 1946 وتشكلت أثناءها اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال.
خرج الشاعر مع 90 ألف عامل مصرى من المعسكرات الإنجليزية بعد أن قاطعوا العمل فيها على إثر إلغاء معاهدة 1936، وكان يعمل بائعًا حينئذ فعرض عليه قائد المعسكر أن يبقى وإلا فلن يحصل على بضائعه، ولكنه تركها وذهب.
عمل فى وزارة الشؤون الاجتماعية طوافًا يوزع البريد على العزب والكفور والقرى وكان يعيد فى هذه المرحلة اكتشاف الواقع بعد أن تعمقت رؤيته وتجربته. شعر حينئذ رغم أنه فلاح وعمل بالفأس لمدة 8 سنوات وأن حجم القهر الواقع على الفلاحين هائل وغير محتمل. كان يجد فى الواقع المصرى مرادفات حرفية لما تعلمه نظريًا، كان التناقض الطبقى بشعًا.
فى سنة 1959 شهد الصدام الضارى بين السلطة واليسار، وانتقل من البريد إلى النقل الميكانيكى فى العباسية أحد الأحياء القديمة فى القاهرة، يقول «فى يوم لا يغيب عن ذاكرتى أخذونى مع أربعة آخرين من العمال المتهمين بالتحريض والمشاغبة إلى قسم البوليس».
عمل فى ورش السكك الحديدية، واتُهم فى عملية نقل معدات من الورش شهدت عمليات نهب واسعة، بالتزوير، وسُجن لمدة 3 سنوات بتهمة التزوير فى أوراق رسمية، ولكن للمفارقة اكتشف قدرته على الكتابة فى السجن حين شارك فى مسابقة نظمها المجلس الأعلى للفنون والآداب، وفاز بالجائزة الأولى وصدر له ديوانه الأول «صور من الحياة والسجن»، الذى كتبت له المقدمة د. سهير القلماوى، ليشتهر وهو فى السجن.
يقول نجم: «كانت أهم قراءاتى فى ذلك التاريخ هى رواية «الأم» لمكسيم غوركي، وهى مرتبطة فى ذهنى ببداية وعيى الحقيقى والعلمى بحقائق هذا العالم، والأسباب الموضوعية لقسوته ومرارته. ولم أكن قد كتبت شعرًا حقيقيًا حتى ذلك الحين وإنما كانت أغانى عاطفية تدور فى إطار الهجر والبعد ومشكلات الحب التى لم تنته حتى الآن وكنت فى ذلك الحين أحب ابنة عمتى وأتمناها، لكن الوضع الطبقى حال دون إتمام الزواج لأنهم أغنياء».
بعد خروجه من السجن تم تعيينه موظفًا بمنظمة تضامن الشعوب الآسيوية الإفريقية وأصبح أحد شعراء الإذاعة المصرية وأقام فى غرفة على سطح أحد البيوت فى حى بولاق الدكرور.
***
كانت رحلة نجم تنتظر فنانًا بوزن وقيمة «الشيخ إمام» حتى تخرج أشعاره كنموذج فريد يعبر عن الفقراء الذين أخلص لهم، وهو ما وضعه فى طريقه القدر، حيث تعرَّف على الشيخ إمام فى حارة «حوش قدم» ليقرر أن يسكن معه ويرتبط به حتى أصبحا ثنائيًا معروفًا وأصبحت الحارة ملتقى المثقفين.
يروى نجم مع بدايات عام 1968 بدأت الدائرة تتسع حولنا كل ليلة فى حوش قدم أفواج من الناس تتقاطر على المنزل رقم (2) بعطفة «سعد العرسة» كل ليلة نشوف وجوه جديدة وكل ليلة المرحوم الشيخ إمام يتوهج ويُبدع وأجهزة التسجيل شغاله على ودنه، والمدهش أننا لم نشعر بأى وجود أمنى ربما لأننا كنا نعيش حالة من النشوة لمجرد تعارف المريدين على بعض كل ليلة.
كل ليلة أعرف ناس جداد واجعهم جرح الوطن العزيز، وكان أول خروج لنا من حوش قدم على يد الفنان «عدلى رزق الله» الذى كان يقضى معنا أكثر أوقاته».
أصبح الثنائى من أهم ظواهر تظاهرات الطلبة فى الجامعات المصرية مطلع السبعينيات، حيث انتشرت أغانيهما فى الوسط الطلابى وكان لها دور كبير فى انتفاضة الخبز 19 يناير 1979 التى أطلق عليها الرئيس السادات اسم «انتفاضة الحرامية». واتسع نطاق شهرتهما فى العالم العربى، بينما تعرف العالم إليهما بعد أن غنى الشيخ إمام قصيدة «جيفارا مات».
يقول نجم عن رفيق حياته إنه «أول موسيقى تم حبسه فى المعتقلات من أجل موسيقاه وإذا كان الشعر يمكن فهم معناه فهل اكتشف هؤلاء أن موسيقى إمام تسبهم وتفضحهم»..! لكن يشاء القدر مرة أخرى أن ينفصل الثنائى الرائع بعد فترة، حتى إن الشيخ إمام اتهم «نجم» بأنه كان يُحب الزعامة وفرض الرأى وأنه حصد الشهرة بفضله ولولاه ما كان نجم.
***
مع نكسة 1967، تغيرت لغة «الفاجومى» لتصبح سوطًا ساخرًا، كانت أغنية «بقرة حاحا» التى كُتبت فى 8 يونيو 1967، كما يقول الكاتب صلاح عيسى، أول بيانات الرد على الهزيمة، لم تنجح محاولات احتواء «نجم»، بخاصة فى عهد الرئيس الراحل أنورالسادات، والذى كتب فيه نجم العديد من قصائد الهجاء والانتقاد من أهمها قصيدة «بيان هام».
رفض كل محاولات المنظمات الشيوعية لضمه لعضويتها، ليكون صوتها، حرصًا على استقلاله كشاعر شعبى، لكنه انضم إلى حزب الوفد منتصف يونيو عام 2010 بعد فوز الدكتور «السيد البدوى» بانتخابات رئاسة الحزب، ثم أعلن استقالته فى نفس العام جراء الأزمة التى تسبب بها البدوى عندما أقال «إبراهيم عيسى» من رئاسة تحرير «الدستور»، وبعد ثورة 25 يناير كان أحد مؤسسى حزب «المصريين الأحرار».
***
لم تسع الفرحة شاعرنا الذى طالما نادى الشعب ليصحو من غفوته، عندما شاهد جموع المصريين فى ميادين الحرية، تمنى لو كان معه رفيق الكفاح الشيخ إمام، لكن خاب أمل «نجم» مثلما حدث لملايين المصريين بوصول «رئيس الإخوان» إلى الحكم، وتوقع نهاية الإخوان سريعًا.
وقعت الواقعة كما توقع «نجم» وثار المصريون على مندوب الإخوان فى القصر الرئاسى، كان لديه يقين كامل بأن الإخوان لن يكملوا عامًا فى الحكم.
فرح «نجم» بثورة المصريين وأعلن عن تقديره واحترامه للفريق أول «عبدالفتاح السيسى» وزير الدفاع، قائلاً: «شعرت منذ أول خطاب له بأنه مثل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وعليه أن يترشح لرئاسة الجمهورية».
لم يكتف «نجم» بإعلان التأييد بل انضم إلى قائمة المؤيدين لترشح الفريق عن طريق توقيعه استمارة حملة «كمل جميلك»، لترشيح السيسى رئيسًا لمصر.
***
ظل نجم يناضل إلى جانب الطبقة الكادحة، كان يقول «الفقر من اختيارى، كل عائلتى فقراء، فلم إذن يجب أن أكون مختلفًا عنهم؟!».
وعندما نشر سيرته الذاتية بعنوان «الفاجومى»، أهدى الكتاب لبناته الثلاث «عفاف ونوارة وزينب» قائلاً: «يمكن ما تلاقوش فى حياة أبوكو شىء تتعاجبوا بيه لكن أكيد مش حاتلاقوا فى حياة أبوكو شىء تخجلوا منه، هو دا اعتقادى إللى دافعت عنه، ودفعت ثمنه بمنتهى الرضا».