رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

إصلاح المنظومة الضريبية (٣) تسوية الأوضاع أم إعادة تعريف العلاقة؟


15-5-2025 | 20:04

.

طباعة
بقلم: د. محمد فؤاد

حين بدأنا هذه السلسلة بتحليل مفهوم «المساهمة الموحدة» كأداة تبسيط ضريبى تعيد ضبط العلاقة المعقدة بين الدولة والممول، كنا نرصد ملامح خلل مزمن فى فلسفة السياسة المالية المصرية: مناخ طارد، جهاز إدارى مثقل، منظومة تستند إلى الشك لا إلى الثقة. وفى الجزء الثاني، تعمقنا فى أزمة التعدد والتجزئة داخل الهيكل الضريبي، التى قادت إلى تضخم العبء وعدم عدالة التوزيع.

اليوم، مع صدور القانونين 5 و6 لسنة 2025، ينتقل الإصلاح من ساحة الأفكار إلى حيز التشريع. لكن السؤال الجوهرى يظل قائمًا: هل هذه مجرد تسويات ضريبية، أم بداية إعادة تعريف للعقد الضريبى نفسه؟

القانون رقم «5» لسنة 2025 لم يأتِ ليجمع المتأخرات فقط، بل قدّم عرضًا تصالحيًا متكاملًا: «إعفاء من الغرامات والفوائد، تسهيلات تقسيط، وقف القضايا، قبول إقرارات معدّلة دون عقوبات»، لغة القانون تنبض بالتفاهم، لا بالتخويف، لكنها تُخفى خلفها اعترافًا ضمنيًا بأن العلاقة بين الممول والإدارة الضريبية كانت – وربما ما زالت– علاقة مختلة، تُهيمن عليها تقديرات غير واقعية، وملاحقات ممتدة، وثغرات إجرائية لا تُحتمل.

التسوية هنا ليست فقط لتخفيف العبء القضائى أو لزيادة الحصيلة، بل لفتح صفحة جديدة، الدولة لا تُخفى أنها تحتاج أموالًا، لكنها هذه المرة تحاول أن تحصّلها دون أن تُهدر الثقة.

أما القانون رقم «6» فقد جاء بمقاربة أكثر استراتيجية: تحفيز الاقتصاد مقابل التزام واضح. لم يُمنح الإعفاء لمجرد النية، بل رُبط بنسبة التشغيل ومكون الإنتاج المحلي، مدد الإقرار والسداد ليست مجانية، بل لمَن يخلق تدفقات حقيقية فى السوق، وهذه خطوة مهمة فى تغيير فلسفة الحوافز من «تشجيع بلا تقييم» إلى «مكافأة مبنية على أداء».

مثل هذه الأدوات ليست غريبة على الاقتصادات الناجحة، فالعديد من الدول التى خاضت تجارب إصلاح ضريبى كبرى لجأت إلى حوافز مشروطة.

فنجد إندونيسيا قدمت عفوًا ضريبيًّا مشروطًا بإعادة رؤوس الأموال المهرّبة، ما أسفر عن تعبئة أكثر من 330 مليار دولار، أما المكسيك فاستخدمت حوافز ضريبية مرحلية لدمج الاقتصاد غير الرسمي، مع الحفاظ على قدرة الدولة على التتبع والمراجعة، بينما قدمت تركيا برامج تسوية كل ثلاث سنوات، ربطت بين إسقاط الغرامات والتصالح فى الملفات المفتوحة.

الجامع بين هذه النماذج أنها لم تُضَحِّ بالعدالة المالية، بل وظّفتها كوسيلة لدمج الاقتصاد وتحسين الامتثال الطوعى.

رغم فلسفة القانون التقدمية، اصطدم التطبيق بثغرة مؤلمة: مؤسسات لديها دفاتر وحسابات منتظمة وجدت نفسها خارج نطاق التسوية، لأن مصلحة الضرائب فسّرت «الفحص التقديري» بشكل ضيّق يستبعد مَن فُحصت حساباته تفصيلًا.

النتيجة مكافأة غير مباشرة لمَن لا يُمسك دفاتر، وإقصاء لمَن التزم محاسبيًا، وهو ما ينسف جوهر «العدالة الضريبية». إذا لم تُصدر المصلحة تعليمات تفسيرية تعالج هذه الثغرة، فسيُصبح القانون أداة للتمييز لا للمصالحة.

ما نحتاجه الآن ليس فقط إنفاذ القوانين الجديدة، بل تطوير بنيتها الفكرية، تسوية النزاعات وحوافز التشغيل ليست نهاية الطريق، بل بدايته ولا بدّ من منظومة متكاملة تشمل «تبسيط الإجراءات الضريبية، أتمتة وشفافية الفحص والمراجعة، استهداف منظم للاقتصاد غير الرسمي، تعزيز الثقة عبر حوكمة مهنية وفصل واضح بين التقدير والتحصيل».

إن النجاح فى إصلاح المنظومة الضريبية لا يُقاس بعدد القوانين الصادرة، بل بقدرتها على تغيير سلوك الدولة والممول معًا، فالضريبة ليست مجرد أداة مالية، بل عقد اجتماعى يُعبر عن التوازن بين الحقوق والواجبات.

القانونان «5» و«6» لسنة 2025 يشكّلان لحظة نادرة من الاعتراف بأن العلاقة الضريبية فى مصر تحتاج إلى إعادة صياغة، لا مجرد إصلاح جزئى، فهما خطوة فى طريق طويل يتطلب أكثر من تسويات أو حوافز، بل يتطلب بنية مؤسسية جديدة، وعقلا إداريا مختلفا، وثقافة ضريبية لا تزال فى طور التكوين.

لكن هذا الطريق لا يقف عند تسوية نزاع أو منح إعفاء، بل يبدأ من هنا، من مراجعة حقيقية لهيكل الضرائب، ومن إيمان بأن كل إجراء مالى هو جزء من منظومة أوسع من العدالة الاقتصادية، والنمو الشامل، والحوكمة الرشيدة.

فى الأجزاء القادمة، سنواصل هذه الرحلة فى عمق المنظومة: من آليات التقدير والرقابة، إلى البنية التشريعية والفجوة الرقمية، مرورًا بدور الضرائب فى توزيع الفقر والثروة، وسؤال المستقبل: أى منظومة ضريبية تحتاجها مصر لتصمد وتزدهر فى عالم متحوّل؟

الحديث لم ينتهِ.. بل بدأ للتو.

 
 
 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة