رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

إبداع الألفية الثالثة


17-10-2025 | 12:14

.

طباعة
بقلـم: د. مصطفى الضبع

شهدت الألفية الثالثة تطورا كبيرا فى وسائل التواصل، مما انعكس على وعى الإنسان باتساع أفقه وقدرة حواسه على تجاوز قدراتها العادية (المحدودة مهما كانت قوية)، فالتكنولوجيا الحديثة جعلت حواس الإنسان تتفوق على نفسها، حيث تجاوز البصر حدوده المعروفة، وتمنحه التكنولوجيا ووسائلها القدرة على رؤية ما هو كائن على بعد آلاف الكيلومترات، والتكنولوجيا نفسها منحت الإنسان القدرة على متابعة الأحداث لحظة بلحظة سماعا وإبصارا، مما كان له أثره فى تطور وعى الإنسان واتساع دائرة إدراكه، وهو ما انعكس على اتساع عدة مفاهيم أساسية.

 

والبداية مع الإبداع: فلم يعد الإبداع حكرا على الكتابة وإنما كان للتكنولوجيا نصيبها، ولكل نشاطات الإنسان كذلك، ففى مجال الصناعة على سبيل المثال لم يعد الإنسان يخترع بقدر ما أصبح يبدع (لم تعد المصانع تخترع السيارات الآن وإنما تبدع أشكالا منها، ولم يعد هناك من يخترع الموبايل ولكن هناك من يبدع فى صناعته، ولم يعد هناك من يخترع الطائرة ولكن هناك تطويرا وإبداعا دائمين فى صناعة الطائرات، وهو ما ينطبق على كل مجالات الصناعة بلا استثناء).

النص: خرج النص من دائرته الضيقة، فلم يعد النص هو المكتوب والمعد للتلقى بالقراءة، وإنما أصبح النص مسموعا ومبصرا، مقروءا ومرئيا (النكتة نص، والأغنية نص، والفيديو نص، والفيلم نص، والمسرحية، والصورة، واللوحة التشكيلية، ومشاهد الحياة اليومية، والطبيعة بكل تفاصيلها، والسماء بكل ما يتحرك فيها، والليل والنهار، والصحراء والرمال، والصخور، وابتسامة الطفل الصغير، ونبرة الحزن فى صوت عجوز، وأصوات الطيور، وحتى صوت الصمت نفسه)، كلها نصوص قابلة للتلقى والاستكشاف والتحليل والتفسير والتأويل، جنبا إلى جنب مثلها مثل النصوص المكتوبة والوثائق التقليدية، فكل ما فى الكون له دلالته وهى واحدة من السمات الأصيلة للنصوص، أن تكون دالة.

النقد: وقد تجاوز فكرة الاحتكار القائمة فى العلاقة بين النص والنقد، وكون النقد كتابة على كتابة، أو هو كشف للمحاسن والمساوئ، أو هو تقييم لنص، وإنما خرج النقد لعالم أوسع بات فيه وعيا إنسانيا يرى العالم نصا، ويرى كل أشكال الحياة وأنشطة الإنسان مساحة للوعي، ومدارا للتنوير والأهم من كل ذلك دعوة للتطوير، وأصبح على المراجعة النقدية أن تستهدف التطوير بالأساس، فكل عمل يمكن تطويره، ولكنها عملية تقوم على الوعى الذى تكشفه المراجعة النقدية، فلا تطوير دون وعى من النقد، ولا تقدم دون وعى بالنقد، ومع اتساع مفهوم النص أصبح على النقد أن يمتلك من الأدوات والأفكار ما يجعل أفقه متسعا وقادرا على استيعاب العالم بكل تفاصيله والنصوص بكل أشكالها والكون بكل معانيه ودلالاته.

البلاغة: وقد تجاوزت مفهومها القديم المنحصر فى بلاغة الكلمة حصريا (ضيّق بعضهم مفهومها حتى جعلها لا تخرج عن نطاق النص القرآني، وبعضهم امتد بها للشعر، وبالجملة حصرها البلاغيون فى النص القديم دون غيره أو منحصرة فى اللغة فى استعمالها القديم)، فالبلاغة مفهوم يتحقق فى كل أنماط النشاط الإنساني، فللسلوك الإنسانى بلاغته، وكذلك العادات والتقاليد، والصورة، والنص المرئي، واللوحة التشكيلية، والسينما، والمسرح، والنكتة، والإيموجي، لكل هذه جميعا بلاغتها، وكل منها يختص بمساحات من البلاغة تتطلب وعيا جديدا متطورا لاكتشافها، فأنت بليغ حين تنطق وحين تكتب وحين تختار ملابسك وفق ذوقك العالي، وحين تسلك سلوكا بليغا لائقا فى كل مواقفك، وحين تحسن إدارة علاقاتك بالآخرين، وتجيد إدارة عملك، وتحقق أهدافك.

من هذه الرباعية تنطلق هذه السلسلة من المقالات استكشافا لمساحات الإبداع الإنساني، مقاربة لأشكاله المختلفة، ومراجعة لفنونه المتنوعة، ووقوفا على بلاغته العميقة، فى محاولة لتشكيل ذائقة تليق بالألفية الثالثة أولا، وتجتهد فى مواجهة القبح ثانيا، ذلك القبح الذى أزاح كثيرا من مظاهر الجمال فى حياة الإنسان، مما جعل من الفيديو القصير السطحى حد التفاهة تريندا ومادة لها من الجمهور ومن التلقى نصيب الأسد كما يقولون، وهو ما يجعلنا جادين أو يجب أن نكون كذلك ونحن نقف إزاء كثير من ظواهر العصر، فلم يحقق كثير من السطحيين وصناع المحتوى التافه شهرتهم إلا بفعل غياب الذائقة، وافتقاد دور النقد ووعيه، وغياب الجمال وذوقه، والإحساس الجمالى وروعته.

ستتعامل هذه السلسلة من المقالات مع كل مظاهر الإبداع الإنسانى بوصفه نصا، من منطلق قناعة خاصة أن كثيرا من الفنون التى لم نتعامل معها بوصفها نصا فقد نقدها الكثير من مقومات دوره، خذ مثالا السينما فقد انشغل كثير من نقادها فى أحاديث جانبية عن الفيلم دون محاولة مكاشفة جوانب الإبداع فيه، ببساطة دون التعامل معه بوصفه نصا، وليس بوصفه حكاية أو حديثا جانبيا عن الممثل وأجره وظروف اشتغاله، إنما المطلوب هو الاشتغال على نصية الفيلم وإبداع تفاصيله، فالفيلم رواية مبصرة كما أن الرواية فيلم مقروء، لقد تطورت السينما على مستوى الإنتاج الفنى والتشكيل الجمالى، فصارت نصا ثريا له مستويات تلقيه، فى الوقت الذى ظل النقد السينمائى فى منطقة الوقوف خارج النص بعيدا عن مستوياته.

وفى الاتجاه نفسه هبطت الأغنية لأسباب مشابهة، وهو ما كان له تأثيره على الذائقة العامة للتلقى.

وإذا كان الإبداع أوسع مما أن يحاط به، فالرؤية النقدية يجب أن تكون أوسع من أن تضيق فيضيق معها أفق المتلقى ومن قبله أفق الناقد.

إنها دعوة لإمعان النظر ومراجعة الوعى وتفعيل دور الذائقة وتنقيتها مما علق بها من شوائب وما أحاط بها من عوامل القبح.

دعوة لإعادة اكتشاف الجمال، وترميم الذائقة، وتنمية الوعى النقدي، واستشراف مظاهر الجمال الكائنة، ورفع غشاوة السطحية القائمة.

 
 
 
 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة