ساعات قليلة كانت تفصل شمس الإثنين السابع من يوليو الجارى عن الغروب، قبل أن تحجبها سحابة دخان كثيفة شقت طريقها إلى سماء القاهرة، وتحديدًا فى شارع رمسيس، ليتضح فى غضون ثوان قليلة أن مصدر الدخان الكثيف هو أحد أدوار مبنى سنترال رمسيس العتيق، وتحديدًا الطابق السابع.
دقائق عدة مرت، وسحابة الدخان لا تزال حاضرة فى سماء العاصمة، بل تمددت مساحتها وطغى اللون الأسود على الأجواء فى المنطقة المحيطة بـ«سنترال رمسيس» الذى يقترب من إتمامه «قرن فى الخدمة»، فقد افتتحه الملك فؤاد الأول فى عشرينيات القرن الماضى، وتحديدًا فى العام 1927 تحت اسم «دار التليفونات الجديدة».
بدأ الحريق فى المكاتب الادارية بالطابق السابع من سنترال رمسيس نتيجة ماس كهربائى والذى امتد إلى عدد من الطوابق حسبما أظهرت المعاينة المبدئية، ودفعت إدارة الحماية المدنية بوزارة الداخلية بـ 12 سيارة إطفاء و2 سلم هيدروليكى إلى مكان حريق سنترال رمسيس، فيما قامت الأجهزة المعنية بفصل التيار الكهربائى والغاز منعا من حدوث كارثة وامتداد ألسنة اللهب إلى المبانى المجاورة.
حريق سنترال رمسيس لم يكن مجرد حادث عرضى، بل لحظة تضع البنية التحتية الرقمية المصرية أمام اختبار قاسٍ، ويعيد إلى الأذهان حوادث مشابهة هزت عواصم العالم الكبرى فى أمريكا وأوروبا، لا سيما وأن خدمات الاتصالات والإنترنت كانت صاحبة النصيب الأكبر من تأثيرات الحريق، فشهدت عدة مناطق فى القاهرة والجيزة انقطاعًا أو ضعفًا ملحوظًا فى خدمات الإنترنت الأرضى وخطوط الهاتف، وتأثرت بعض خدمات المحمول، وسط شكاوى متزايدة من المستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعى.
بدورها، أكدت شركات الاتصالات أن حجم التأثير لا يزال قيد التقييم، وأن فرق الدعم الفنى تعمل ميدانيًا لإعادة الخدمة تدريجيًا، لكن خدمات الاتصالات والإنترنت لم يكن الضرر الوحيد بل امتد إلى المحافظ الإلكترونية.
الحادث ليس اختبارا قاسيا فحسب ولكنه جرس إنذار بأن بناء بنية تحتية قوية وآمنة للاتصالات لم يعد رفاهية، بل ضرورة وطنية لضمان استمرارية الخدمات وحماية الاقتصاد والمجتمع فى مواجهة الأزمات، فقطاع الاتصالات ركيزة أساسية للتنمية والأمن القومى فى العصر الرقمى، وحسبما قال الدكتور هيثم طارق، خبير الذكاء الاصطناعى، إن «مراكز الاتصالات كسنترال رمسيس، هى شرايين الحياة الرقمية لأى مدينة حديثة، فهى تضم معدات أساسية تربط ملايين المستخدمين بشبكات الإنترنت والهاتف، وأى خلل فى هذه المراكز ينعكس فورًا على حياة المواطنين».
وتابع خبير الذكاء الاصطناعى: فى ظل التوسع الهائل فى خدمات الاتصالات والاعتماد المتزايد على البنية التحتية الرقمية، تبرز قضية حماية مراكز الاتصالات من الحرائق كواحدة من أهم أولويات الدولة المصرية، فقد شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا من الجهات المعنية، وعلى رأسها وزارة الاتصالات والشركة المصرية للاتصالات، بتطبيق إجراءات صارمة للوقاية والتعامل السريع مع الأزمات، بما يضمن استمرار الخدمة وحماية الاقتصاد الرقمى.
«د. هيثم»، أكد أن «الوقاية تبدأ من الأساس فى وضع أهمية كبرى لمعايير التصميم الهندسى الذكى عند إنشاء أو تطوير مراكز الاتصالات، على أن يتم توزيع الأجهزة الكهربائية والمعدات داخل هذه المراكز بشكل يضمن تهوية جيدة ويقلل من تراكم الحرارة، بينما تُستخدم مواد بناء مقاومة للحريق لضمان أعلى درجات الأمان، وتُخصص مساحات كافية لممرات الإخلاء ومخارج الطوارئ، ما يسهل عملية الإخلاء فى الحالات الطارئة ويقلل من المخاطر على الأرواح والممتلكات».
وأضاف: التصميم الهندسى الذكى يلزم أن يتبعه الصيانة الدورية للتمديدات الكهربائية أحد الأعمدة الأساسية فى استراتيجية الوقاية من الحرائق، على أن تلتزم فرق الصيانة بإجراء فحوصات منتظمة لجميع الأسلاك والمعدات الكهربائية، مع استبدال أى أجزاء تظهر عليها علامات التلف أو التآكل، وتزويد المراكز بقواطع أوتوماتيكية تفصل التيار الكهربائى فور اكتشاف أى خلل، ما يقلل بشكل كبير من احتمالية حدوث ماس كهربائى قد يؤدى إلى كارثة».
كما أشار إلى أن استثمار الدولة فى تزويد مراكز الاتصالات بأنظمة إنذار مبكر متطورة، تشمل أجهزة كشف دخان عالية الحساسية موزعة فى جميع غرف الأجهزة، خاصة تلك التى تضم معدات إلكترونية دقيقة. بالإضافة إلى ذلك، تم تركيب أنظمة رشاشات مياه أو غاز قادرة على إطفاء الحريق تلقائيًا عند رصد أى خطر، مع مراعاة ألا تتسبب هذه الأنظمة فى تلف المعدات الحيوية أثناء عملية الإطفاء.
خبير الذكاء الاصطناعى، شدد كذلك على أهمية عدم إغفال العنصر البشرى فى قلب المنظومة الرقمية فهو خط الدفاع الأول فى مواجهة الكوارث، لذلك تُنظم تدريبات دورية للموظفين حول كيفية التصرف فى الحالات الطارئة، بدءًا من الإخلاء السريع وصولًا إلى استخدام طفايات الحريق بكفاءة. هذه التدريبات تضمن أن يكون جميع العاملين على دراية بخطط الإخلاء وتقلل من فرص وقوع إصابات أو خسائر بشرية أثناء الحوادث.
كما طالب بضرورة تطبيق معايير صارمة فى التعامل مع المواد القابلة للاشتعال داخل مراكز الاتصالات، على أن تُخزن هذه المواد فى أماكن مخصصة بعيدة عن مصادر الحرارة أو الكهرباء، مع التأكد من وجود تهوية جيدة حولها، ومراجعة المخزونات بشكل دورى للتخلص من أى مواد غير ضرورية قد تشكل خطرًا إضافيًا، لافتًا إلى أهمية التأكد من أن جميع مخارج الطوارئ فى مراكز الاتصالات واضحة وسهلة الوصول، مع تخطيط ممرات إخلاء واسعة وخالية من العوائق. وتُوضع علامات إرشادية مضيئة تسهل عملية الإخلاء فى حالات انقطاع الكهرباء أو انتشار الدخان، ما يسهم فى حماية الأرواح عند وقوع أى طارئ.
ونبه خبير الذكاء الاصطناعى إلى أهمية سرعة التعافى فى استعادة الخدمة بعد الأزمات قائلاً: «رغم كل الاحتياطات، قد تقع الأزمة، ويصبح التحدى الأكبر هو سرعة استعادة خدمات الاتصالات، وهنا تتجلى أهمية خطط الطوارئ واستراتيجيات التعافى التى وضعتها الدولة المصرية بالتعاون مع الشركات العاملة فى القطاع»، مطالبًا بوجود فرق للدعم الفنى للتدخل الفورى فى حال وقوع أى طارئ، مع توفير قطع غيار وأجهزة بديلة جاهزة للاستخدام، هذا الاستعداد يضمن إصلاح الأعطال فى أسرع وقت ممكن ويقلل من فترة توقف الخدمة، كما حدث فى حريق سنترال رمسيس، حيث سارعت الفرق الفنية للسيطرة على الحريق وبدء أعمال الصيانة فورًا.
وعن استراتيجيات عودة الخدمة لطبيعتها قال «د. هيثم»: يجب أن تعمل مراكز الاتصالات على توزيع الأحمال وتحويل حركة البيانات إلى مراكز بديلة أو شبكات احتياطية عند تعطل المركز الرئيسى، فهذه الخطوة تضمن استمرار الخدمة للمستخدمين حتى أثناء عمليات الإصلاح والصيانة، وتمنع حدوث انقطاع شامل يؤثر على قطاعات واسعة من المجتمع.
«تنفيذ خطط ما بعد الأزمة هى المرحلة الأهم» أو كما قال «د. هيثم»: يجب أن تلتزم شركات الاتصالات فى مصر، بدعم من الجهات الحكومية، بالشفافية فى التعامل مع العملاء عند حدوث أى انقطاع أو عطل، على أن يتم إبلاغ المستخدمين فورًا بأسباب المشكلة وتقديم تعويضات أو خدمات بديلة إذا لزم الأمر، ما يعزز ثقة العملاء ويقلل من حجم الشكاوى.
كما لفت إلى أهمية أن تُراجع فرق الطوارئ أسباب الحادث وتُحلل أداء الاستجابة، وبناءً على الدروس المستفادة، يتم تحديث خطط الطوارئ وتطويرها باستمرار لضمان الاستعداد الأمثل لأى حوادث مستقبلية، فى إطار حرص الدولة على استدامة الخدمات الرقمية وحماية الاقتصاد الرقمى، مؤكدًا أن الدولة المصرية تواصل تعزيز حماية مراكز الاتصالات وضمان سرعة التعافى عند وقوع الأزمات، وهى خطوة تعكس إدراكها لأهمية الاتصالات كركيزة أساسية للتنمية والأمن القومى فى العصر الرقمى.
وأضاف: ما حدث فى سنترال رمسيس يعيد إلى الأذهان حوادث ضخمة شهدتها مراكز الاتصالات حول العالم، ففى الولايات المتحدة، تسببت حرائق الغابات المتكررة فى كاليفورنيا فى تدمير مراكز بيانات وشبكات اتصالات، ما أدى إلى انقطاع واسع للخدمة عن ملايين المستخدمين، وتأخير عمليات الطوارئ والإغاثة، وفى أوروبا، شهدت بعض المدن حرائق فى مراكز بيانات رئيسية، ما أدى إلى توقف منصات إلكترونية كبرى وخسائر اقتصادية ضخمة، وهذه الحوادث كشفت عن هشاشة البنية التحتية الرقمية فى أوروبا وأمريكا أمام الكوارث الطبيعية، وأكدت أن التخطيط المسبق وسرعة الاستجابة هما العاملان الحاسمان لتقليل الخسائر.
«د. هيثم» اختتم حديثه محذرًا من أن «حريق سنترال رمسيس ليس مجرد حادث عرضى، بل جرس إنذار يدعو جميع الجهات المعنية إلى مراجعة إجراءات السلامة، وتحديث خطط الطوارئ، والاستثمار فى أنظمة الحماية الذكية، فالعالم الرقمى الذى نعتمد عليه يوميًا هش أمام الكوارث إذا لم نكن مستعدين جيدًا، فبناء بنية تحتية قوية وآمنة للاتصالات لم يعد رفاهية، بل ضرورة وطنية لضمان استمرارية الخدمات وحماية الاقتصاد والمجتمع فى مواجهة الأزمات».