تحول جذرى شهدته السنوات الأخيرة؛ إذ بدأت فرنسا تفقد نفوذها فى إفريقيا، بعد أن ارتبطت باريس والقارة السمراء بتاريخ طويل من الاستعمار وما بعده، حتى ظن الطرفان أن مصيرهما مشترك. لكن هذه العلاقة مرت، ولا تزال تمر، بتقلبات حادة؛ فخروج القوات الفرنسية من إفريقيا يعكس تلبيةً لرغبة شعبية إفريقية واضحة. وفى أعقاب هذا الانسحاب تُثار تساؤلات جوهرية حول مستقبل الأمن والحوكمة والنفوذ الخارجى فى إفريقيا: من سيملأ هذا الفراغ؟
أصبحت ساحل العاج سادس دولة إفريقية تطرد الجنود الفرنسيين مؤخرًا، بعد بوركينا فاسو ومالى وتشاد والسنغال والنيجر، التى أسقطت الفرنسية من قائمة لغاتها الرسمية لتصبح لغة عمل فقط، فيما حددت لغة الهوسا كلغة وطنية. يُعد هذا القرار محاولةً للتحرر من القيود الاستعمارية، وتشترك النيجر فيه مع كل من مالى وبوركينا فاسو فى إطار اتحاد دول الساحل، الذى يناضل من أجل سيادة المنطقة الساحلية خصوصًا، ومن أجل سيادة الأفارقة عمومًا.
الوجود العسكرى الفرنسى فى إفريقيا الناطقة بالفرنسية متجذر بعمق فى التاريخ الاستعماري، وكانت قواتها تعمل كضامن فعلى للاستقرار فى مستعمراتها السابقة. ومن خلال عمليات مثل «سيرفال» و«سانغاريس» و«برخان»، بررت فرنسا تدخلاتها بأنها ضرورية لمكافحة الإرهاب، لا سيما فى منطقة الساحل. فقد أُطلقت عملية «سيرفال» عام 2013 فى مالى لوقف تقدم الجماعات المسلحة التى سيطرت على المناطق الشمالية، مهددةً باجتياح العاصمة باماكو. وعندما تولى الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون الحكم فى 2017، حدد ملامح الاستراتيجية الجديدة لفرنسا فى القارة، حيث خفض الوجود العسكرى إلى أدنى مستوى (3000 جندى بدلًا من 5500)، ما يعنى أن هناك توجهًا فرنسيًا لتقليص الوجود العسكرى حتى قبل تولى المجلس العسكرى فى النيجر السلطة فى أغسطس 2023.
وفى إطار تنفيذ هذه الاستراتيجية، قررت فرنسا - وبعد 6 أشهر من انتهاء عملية برخان فى نوفمبر 2022 - تقليص عدد قواتها فى عدد من قواعدها العسكرية الكبرى فى ساحل العاج (حيث العدد الإجمالى 950 جنديًا)، ثم السنغال فالغابون، إذ يضم كل منهما 350 جنديًا. فى المقابل، لم يتأثر وجودها فى قاعدة جيبوتي، التى تضم 1500 جندي. ولا يزال هناك نحو 5 آلاف جندى من عماد عملية برخان فى المنطقة، من بينهم 1000 فى تشاد و1500 فى النيجر.
أدى انسحاب القوات الفرنسية من الدول الإفريقية إلى تحديات أمنية جسيمة، لا سيما فى بوركينا فاسو، حيث تصاعد العنف فى عام 2023، وشهدت الدولة زيادة حادة فى أعمال العنف المميتة، إذ سُجلت أكثر من 8 آلاف حالة وفاة، مما يُشير إلى صراع أقرب إلى الحرب الأهلية. ورغم جهود الجيش، بما فى ذلك الهجمات البرية المدعومة بالطائرات المسيرة والمروحيات، واصل المسلحون توسيع نطاق نفوذهم، مما أدى إلى انتكاسات كبيرة للجيش. وأدى تصاعد الصراع إلى أزمة إنسانية خانقة، ونزح أكثر من 2.1 مليون شخص بسبب العنف الذى مارسه المتطرفون الإسلاميون والمقاتلون الموالون للحكومة. ويُشكل عدم الاستقرار فى بوركينا فاسو خطرًا كبيرًا على منطقة الساحل الأوسع، إذ أصبحت البلاد ملاذًا للجماعات الجهادية، مما يُسهل انتشار العنف إلى الدول المجاورة. ويُبرز احتمال زعزعة الاستقرار الإقليمى الحاجة المُلِحة إلى استجابات منسقة وفعالة للتمرد.. كما كان لانسحاب القوات الفرنسية من مالى تأثير بعيد المدى، أدى إلى تجدد القتال بين الجماعات الجهادية وتدهور الأمن.
فى حديثه لـ«المصور»، أوضح الدكتور أشرف سنجر، خبير السياسات الدولية بقطاع أخبار الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، أن تعدد الإدارات فى الإليزيه وتغير مواقفها، إضافة إلى العوامل الداخلية فى كل من فرنسا والدول الإفريقية، أدى إلى تراجع النفوذ الفرنسى فى القارة وأضاف أن هناك عوامل خارجية، أبرزها قرار الولايات المتحدة بالتواجد فى إفريقيا، فى تغيير واضح فى استراتيجيتها تجاه القارة، خاصة بعدما أصبحت الصين حاضرة فى إفريقيا بشكل غير مسبوق.
الولايات المتحدة باتت تسير خلف الصين أينما ذهبت، فى أمريكا الجنوبية وفى إفريقيا. وأصبحت الصين تمثل تهديدًا جديًا للنفوذ الأمريكي.
أما الأمر الثاني، فهو اختلاف السياسات الفرنسية والأمريكية؛ ففرنسا الآن فى موقف مختلف مع الولايات المتحدة فى قضية غزة، وكذلك فى الحرب الروسية الأوكرانية. كما أن باريس تختلف مع واشنطن فى السياسات الأمنية فى أوروبا، ويمكن وصفها بأنها «الطفل المشاغب» فى منظومة الهيمنة الأمريكية.
الأمر الثالث، أن الولايات المتحدة كانت تساعد فرنسا فى الماضى بإرسال طائرات الشحن التى لا تمتلكها باريس، لنقل الجنود والأسلحة إلى غرب إفريقيا، مما كان يعزز الدور الفرنسي. لكن يبدو أن واشنطن سحبت يدها، خاصة مع وصول الرئيس دونالد ترامب عام 2016، حيث اتبع نهجًا مختلفًا فى السياسة الخارجية. ومنذ ذلك الحين، ازداد اهتمام واشنطن بإفريقيا، على حساب الدور الفرنسي أما العامل الرابع، فهو حالة الاستياء المتزايدة لدى الأفارقة من الوجود الفرنسي فرنسا لم تأخذ فى الحسبان تصاعد هذا الغضب، وركزت فقط على الاستفادة من الموارد الطبيعية. كما أن ما قدمته للدول الإفريقية لم يكن كافيًا، فظهرت حركات انقلابية متعددة. وساعد تراجع النفوذ الفرنسى الدول الإفريقية فى التوجه نحو دعم من الولايات المتحدة أو الصين أو روسيا.
وأكد الدكتور “سنجر” أن روسيا قررت دخول هذه الساحة عبر وجودها العسكرى فى القارة، وأن إفريقيا باتت محورًا رئيسيًا فى صراع القوى الكبرى. ويرى أن المواقف الداخلية فى فرنسا، لا سيما حالة الانقسام بشأن كيفية التعامل مع الإرث الاستعمارى والحركات الاستقلالية، أدت إلى تآكل حضورها، فى ظل تجاهل متكرر لنزعة الرفض المتنامية للوجود الفرنسي، مقابل هبات ومشروعات مغرية قدمتها كل من الصين وروسيا. واختتم الدكتور “سنجر” بالقول: «حينما تتواجد الفيلة، تنسحب الفهود أو النمور». فى هذا الصراع الدولى على إفريقيا، تتراجع فرنسا، بينما يتصاعد التنافس الأمريكى الصيني. أما روسيا، فرغم محدودية قوتها مقارنة بأمريكا أو الصين، إلا أن حضورها جزء من هذا التحول الكبير فى ميزان القوى داخل النظام السياسى الدولى.
