وفى الحقيقة، فإن إصدار القانونين 5 و6 لسنة 2025 قد شكّل فرصة مهمة لإعادة تموضع هذه العلاقة، فالقانون الأول قدّم عرضًا تصالحيًا غير مسبوق، أُعفيت بموجبه الغرامات والفوائد، وسمح بقبول الإقرارات المعدّلة دون فرض عقوبات، أما الثاني، فقد ذهب أبعد من ذلك حين ربط الإعفاءات الضريبية بسلوك اقتصادى فعلي، كالتشغيل المحلى ورفع نسبة المكوّن الإنتاجي، وهو توجه يُفترض أن يعزز العلاقة بين السياسة الضريبية والتنمية الاقتصادية.
لكن رغم نوايا الإصلاح التى اتضحت فى مضمون القانونين، إلا أن التطبيق اصطدم بتأويلات إدارية تهدد بتحويل هذه التشريعات من آليات إنصاف إلى أدوات تمييز، بما قوّض الهدف الأساسى منهما، خاصة مع تأثير ذلك السلبى على علاقة الثقة المنشودة فى المنظومة، فتحولت من غاية إلى مخاطرة.
وهنا تبرز التساؤلات الأهم: ما الذى ينقص هذا المشهد كى يتحول إلى إصلاح حقيقي؟ وكيف انتقلت دول أخرى من تحسين الحصيلة إلى ترسيخ الثقة؟ ومتى يتجاوز الإصلاح الضريبى كونه لحظة استثنائية، ليغدو مسارًا مؤسسيًا طويل الأمد له صفة الاستدامة؟.. وللإجابة عنها لا بد أولا من الاعتبار إلى إشكاليات وتحديات المنظومة الحالية.
يبرز بين مؤشرات كفاءة المنظومة الضريبية فى أى دولة، عامل الزمن المستغرق لمراجعة الإقرارات وإتمام الفحص الضريبي، وفى حين لا تنشر مصلحة الضرائب المصرية بيانات رسمية معلنة بهذا الخصوص، تتيح تقارير المقارنة الدولية تقدير موقع مصر ضمن هذا السياق، فوفقًا لتقرير البنك الدولى ضمن تقرير «Doing Business – Paying Taxes» (الإصدار الأخير قبل توقف السلسلة)، فإن الإجراءات الضريبية فى مصر، بما يشمل التقديم والمراجعة والفحص، تستغرق فى المتوسط نحو 370 ساعة سنويًا، وهو من أعلى المعدلات بين الدول الناشئة.
للمقارنة، لا تتجاوز هذه المدة 193 ساعة فى المغرب، و166 ساعة فى تركيا، بينما تنخفض إلى 121 ساعة فقط فى الإمارات، وهذا الرقم لا يعبّر فقط عن وقت ملء الإقرار، بل يشمل أيضًا ما يُهدر من وقت وجهد فى التفاعل مع النظام الضريبي، سواء عبر الفحص، أو الردود على الاعتراضات، أو تبادل المستندات، خاصة أن التأخير فى إصدار نماذج كالنموذج 19 أو 34، إلى جانب كثرة تأجيلات اللجان، يكشف عن بيئة إدارية بطيئة ومتشعبة، تؤثر بشكل مباشر على ثقة الممول واستعداده للامتثال الطوعي.
رغم التقدم الملحوظ فى تطبيق مشروعات مثل الفاتورة الإلكترونية والإقرار المميكن، لا تزال العلاقة اليومية بين الممول والمأمور الضريبى محكومة بقدر كبير من الغموض والاحتكاك الشخصي، وهو ما يفتح الباب أمام اجتهادات فردية، تضعف من إمكانية التنبؤ بالعبء الضريبى وتزيد من حالة عدم اليقين لدى المكلفين.
فالتحول الرقمي، رغم ضرورته، لا يكفى بمفرده لتحقيق نقلة نوعية فى كفاءة النظام الضريبي؛ إذ إن ما تحتاجه المنظومة اليوم يتجاوز رقمنة الإجراءات، ليشمل إرساء معايير واضحة وشفافة للفحص، وتحديد قواعد موضوعية تطبَّق على الجميع دون استثناء، إلى جانب منظومة اعتراضات تضمن العدالة وسرعة البت، وتحول دون أن تتحول الرقابة الضريبية إلى مصدر للقلق أو تركيزها على فكرة الجباية فقط.
يُقدّر حجم الاقتصاد غير الرسمى فى مصر بما يتراوح ما بين 38 فى المائة و44 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالي، وهى نسبة ضخمة تعكس فجوة طويلة الأمد بين السياسات الاقتصادية والواقع الميداني، ورغم تعدد المحاولات الرسمية لدمج هذا القطاع، إلا أن أغلبها فشل فى تحقيق اختراق فعلي، إما بسبب غياب الحوافز، أو بسبب متطلبات إدارية معقدة تُثنى أصحاب الأعمال الصغيرة عن اتخاذ خطوة الانضمام للنظام الرسمي.
فى المقابل، تُظهر تجارب دولية كيفية توظيف الحوافز الذكية لإحداث تحوّل جذري، ففى المكسيك على سبيل المثال، تم إطلاق نظام مبسط للمشروعات الصغيرة يُعرف باسم «RIF»، تمكن خلال ثلاث سنوات فقط من دمج أكثر من 4 ملايين منشأة غير رسمية فى الاقتصاد الرسمي، والمفارقة هنا أن هذا الدمج لم يتم على حساب العدالة الضريبية، بل من خلال إعادة تعريفها كأداة للتحفيز لا للعقاب.
كذلك تتعدد النماذج التى تعزز هذا النهج، ففى إندونيسيا، جرى ربط العفو الضريبى بإعادة رءوس الأموال المُهرّبة إلى الداخل، وهو ما ساهم فى عودة أكثر من 330 مليار دولار إلى الاقتصاد الوطني، وفى تركيا أيضا، اعتمدت الدولة برامج تسوية ضريبية دورية تُجدَّد كل ثلاث سنوات، حيث يُربط الإعفاء الضريبى بإغلاق الملفات المفتوحة، ما أدى إلى رفع معدل الامتثال من 66 فى المائة إلى 78 فى المائة خلال فترة وجيزة.
يؤكد ذلك أن الدمج الفعّال للاقتصاد غير الرسمى لا يتحقق عبر الإلزام فقط، بل من خلال بيئة تنظيمية عادلة وبسيطة، وتقدم للممولين ما يكفى من الثقة والأمان للانتقال الطوعى إلى داخل المنظومة.
ختاما، فلا يمكن إنكار أن الإصلاح الضريبى فى مصر قد انطلق بالفعل، بداية من إصدار قوانين جديدة، إلى برامج التسوية، وصولًا إلى جهود الرقمنة، فهناك خطوات ملموسة تم اتخاذها، لكن هذه البداية رغم أهميتها، لا تزال محفوفة بتحفّظات مشروعة، خاصة وأن التطبيق يعتريه الكثير من التفسيرات الإدارية المتباينة، كما أن الثقة ما زالت هشة، والشعور بالعدالة يغيب فى محطات كثيرة.
فالنجاح لا يُقاس بعدد الملفات التى تم تسويتها، بل بعدد الممولين الذين عادوا طوعًا إلى المنظومة، وبمدى اقتناعهم بأن الضريبة ليست عبئًا أو عقوبة، بل مساهمة عادلة فى بناء وطن يستحق.. وما نحتاج إليه الآن ليس فقط استمرار مسار الإصلاح، بل حمايته من التفريغ والعراقيل، بربطه برؤية مؤسسية متماسكة تقوم على استقرار القواعد، وشفافية فى التقدير، واستقلالية فى المراجعة، وآليات إدارية جديدة تُعلى من قيمة الخدمة لا السيطرة، وهو ما سوف يعزز الثقة المطلوبة للنجاح.. فالقانون يفتح الباب، لكن الثقافة هى التى تُبقيه مفتوحًا.
لاحقا فى المقال الخامس، نفتح واحدًا من أكثر الملفات حساسية فى منظومة الضريبة: منْ يُقدّر الضريبة؟ وعلى أى أساس؟ وهل آن الأوان لتوحيد معايير الفحص وربطها برقابة مستقلة؟ نواصل الرحلة.