على مدار خمسةٍ وعشرين عامًا، سافرتُ إلى أكثر من خمسٍ وثلاثين دولة في العالم، سواءً بغرض العمل أو السياحة أو إقامة المعارض الفنية. وفي كل مرة أرى فيها قطعًا أثرية مصرية معروضة في ميادين ومتاحف تلك البلدان، يراودني سؤال واحد كثيرًا ما أتناقش حوله مع أصدقائي ومعارفي وحتى رجال الأعمال هناك: هل من الأفضل استعادة هذه القطع إلى موطنها الأصلي مصر، أم من الأفضل لها أن تبقى في أماكنها الحالية لتحظى بالرعاية الكافية والمحافظة عليها؟
منذ شهور قليلة، كنتُ في مدينة فرانكفورت، ثم طرتُ إلى برلين. وكالعادة، لم تفُتني زيارة متاحفها. وفي أروقة متحف "نيو"، وقفتُ طويلًا أمام "رأس نفرتيتي"، ذلك الوجه المثالي الذي صمد آلاف السنين، ينظر إليَّ بابتسامته الغامضة من خلف زجاجٍ سميك، مع قواعد صارمة تمنع الاقتراب لأقل من أربعة أمتار. في قاعةٍ أخرى قريبة، كان هناك رأس رجلٍ من البازلت الداكن، لا أتذكر تفاصيله التاريخية تمامًا، لكنني أتذكر ذلك الإتقان الفائق في الصنع، وكأن ملائكةً هي من نحتته وليس فنانًا عبقريًا، من حيث دقة التفاصيل ونعومة الملمس والتعبير الناطق عن الحياة.
كان شعورًا غريبًا، يجمع بين الفخر والانكسار. فخرٌ بقوة حضارتي التي تبهر العالم كله، وانكسارٌ لأنني أرى شواهد هذه العظمة معروضة بعيدًا عن مكانها الطبيعي: أرض مصر. كانت زياراتي المتكررة لمتاحف العالم أشبه بجولةٍ في معرضٍ للصور المسروقة، كل قطعةٍ فيها تهمس في أذني: "عد بي إلى النيل".
في متحف اللوفر بباريس، أحاطت بي تماثيل الكاتب المصري الجالس وأبو الهول الصغير ولوحة "زودياك دندرة" الضخمة. وفي المتحف البريطاني بلندن، شاهدتُ "حجر رشيد" محاطًا بحشودٍ من السياح يلتقطون الصور بدهشة. زرتُ أيضًا متاحف في روما وفيينا ومدريد ونيويورك، وفي كل مكان، كنتُ أقابل أجدادي، فأشعر بأنني في موطني، لكنه موطن منقوص.
من هذه التجربة الشخصية المتكررة، تولَّدت قناعتي الراسخة بهذه القضية. قضية استعادة الآثار المصرية ليست نقاشًا قانونيًا أو سياسيًا فحسب، بل هي فوق ذلك كله قضية وجدان. إنها تساؤل جوهري عن العدالة الثقافية: هل من حق متحفٍ أوروبي أن يحتفظ بكنزٍ مصريٍّ مسروق، لمجرد أنه استطاع أن يقتنيه في حقبة الاستعمار حيث كانت فيها موازين القوى مائلةً لغير صالح أصحاب الأرض الأصليين؟
لطالما كان تاريخ خروج الآثار المصرية من أراضيها تاريخًا ملتبسًا، يختلط فيه الحق بالباطل. ولعل قصة "حجر رشيد" هي النموذج الأوضح على حالة النهب الصريح. هذا الحجر الذي فك رموز لغتنا الهيروغليفية وأضاء تاريخنا القديم، لم يخرج من مصر بطريقةٍ ودِّيَّة. لقد استولى عليه الجيش البريطاني كـ"غنيمة حرب" بعد هزيمتهم للجيش الفرنسي عام 1801. وجوده في لندن حتى اليوم هو تذكير دائم بحقبة الاستعمار والاستيلاء على تراث الشعوب بقوة السلاح.
أما قصة "رأس نفرتيتي" في برلين، فهي تمثل المنطقة الرمادية التي يكثر حولها الجدل. رسميًا، خرج الرأس بموجب اتفاقية تقسيم آثار بين عالم الآثار الألماني لودفيغ بورشارت والسلطات المصرية عام 1913. لكن الرواية المصرية والكثير من الوثائق والشهادات تشير إلى أن بورشارت تعمّد إخفاء القيمة الحقيقية للتمثال، ووصفه في التقارير الرسمية بأنه قطعة من الجبس لا قيمة تُذكر لها، ليتمكن من تهريبه خارج مصر بسهولة. من وجهة النظر المصرية والعالمية المنصفة، هذه ليست "هبة" أو "اكتشافًا علميًا مشتركًا"، بل هي عملية احتيال متقنة تجعل من وجود القطعة في برلين مشوبًا بشبهة الجرم الأخلاقي، حتى لو تمسك الجانب الألماني بالشرعية الشكلية لاتفاقية التقسيم.
في المقابل، لا يمكننا التعميم أو إطلاق الأحكام على كل القطع خارج مصر. فهناك قطع أثرية خرجت من مصر بشكلٍ قانوني واضح، وأصبحت بمثابة نوافذ مضيئة على حضارتنا في عواصم العالم. خذ مثلًا "معبد دندور" الذي يقبع الآن في متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك. هذا المعبد لم يُسرق أو يُنهب، بل كان هبةً مشروعة من الحكومة المصرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية في ستينيات القرن الماضي، تقديرًا للمساعدة الأمريكية في إنقاذ معابد النوبة من الغرق خلف السد العالي. وجود المعبد هناك هو شهادة على التعاون الدولي، وهو يعرّف ملايين الزوار سنويًا على عظمة العمارة المصرية، مما يُغريهم بزيارة مصر لرؤية المزيد.
هذه القطع التي خرجت بموافقة رسمية وضمن اتفاقيات دولية واضحة، هي سفراؤنا الثقافيون في الخارج. استعادتها في هذه الحالات قد لا تكون ضرورة وطنية مُلحَّة أو خطوة دبلوماسية حكيمة، طالما أن هذه المتاحف تقوم بدورها في الحفظ والعرض باحترام، وتذكر بوضوح أصل القطعة وسبب وجودها لديها.
قد يسأل سائل: وما الفائدة المرجوة من استعادة قطعة حجرية قديمة؟ أليست في أمانٍ وحفظٍ صحيح في متاحف باريس ولندن وبرلين؟ والجواب أن استعادة الآثار المسروقة ليست مجرد استعادة لمادة، بل هي استعادة للكرامة، وللتاريخ، وللهوية. عندما تستعيد مصر تمثالًا مسروقًا، فهي لا تضعه في مخزنٍ مظلم، بل تعرضه في متحفها الوطني، ليصبح جزءًا من روايةٍ مصرية خالصة عن تاريخها، يراها أبناؤها أولًا ثم الزوار من كل أنحاء العالم. إنه إصلاح للذاكرة الجماعية، ورد اعتبار للأجيال القادمة.
وفوق ذلك، فإن افتتاح المتحف المصري الكبير والمتحف القومي للحضارة المصرية يرسل رسالة قوية وحاسمة للعالم: لم تعد مصر ذلك البلد العاجز عن حفظ تراثه. أصبح لدينا الآن صروحٌ عالمية المستوى قادرة على منافسة أعظم متاحف العالم من حيث التصميم والتقنيات والأمن، مما يُسقط الحجة الرئيسية التي تطلقها المتاحف الأوروبية منذ عقود لرفض إعادة الآثار، وهي عدم قدرة البلدان الأصلية على الحفاظ على تراثها.
وبينما نواصل معركتنا الدبلوماسية والقانونية والإعلامية من أجل استعادة روح مصر المسروقة، يبرز سؤال عملي كبير: وماذا بعد العودة؟ إن استعادة عدد كبير من القطع الأثرية، خاصة ذات الحجم الكبير أو الأهمية الاستثنائية، ليست حدثًا رمزيًا نرفع فيه العلم فقط. إنها تحدٍّ لوجستي وتخطيطي ضخم. لا يمكن بأي حال أن تتحول هذه الكنوز العائدة إلى مجرد مخزونٍ في مستودعاتٍ مكتظة. لذلك، يجب أن تكون هناك استراتيجية وطنية شاملة ومفصلة لاستقبالها.
أولًا، التخطيط لـ"متحف الاسترداد": لمَ لا نفكر في تخصيص قاعةٍ دائمة أو حتى جناحٍ كامل داخل المتحف المصري الكبير تحت اسم "قاعة الاسترداد" أو "جناح العائدين إلى الوطن"؟ سيكون هذا القسم سردًا حيًا وتفاعليًا لقصص الكفاح من أجل استعادة هذه القطع، وسيخلق تجربة زيارة فريدة تروي قصة كل قطعة من لحظة اكتشافها إلى سرقتها وحتى عودتها المنتصرة إلى أحضان الوطن.
ثانيًا، إحياء المتاحف الإقليمية: لماذا لا يتم توزيع بعض القطع العائدة على المتاحف في محافظاتها الأصلية؟ إعادة تمثالٍ لمعبدٍ في الأقصر إلى متحف المدينة، أو قطعةٍ من الإسكندرية إلى متاحفها، يجعل الزيارة أكثر معنى وعمقًا، وينشر ثراء الآثار خارج العاصمة، ويحفز السياحة الداخلية، ويجعل كل إقليمٍ من أقاليم مصر فخورًا بتراثه المحلي.
ثالثًا، المنظومة اللوجستية والأمنية: يجب تطوير منظومة نقلٍ وتخزينٍ وتأمين على أعلى مستوى عالمي، مجهزة بشكلٍ استثنائي لاستقبال هذه "الكنوز العائدة". ويتضمن ذلك تدريب كوادر متخصصة في التعامل مع مثل هذه الاستعدادات الفريدة، من مرحلة التفكيك والشحن إلى الترميم والعرض.
استعادة الآثار هي نصف المعركة فقط. النصف الآخر، والأهم، هو منحها منزلًا يليق بقيمتها التاريخية والفنية، ويحكي قصتها كاملة بكل أبعادها، ويجعل من عودتها نصرًا ملموسًا وفرحةً حقيقية لكل مصري. حينها فقط، عندما أزور متحفي في القاهرة وأرى "نفرتيتي" و"حجر رشيد" ومعبودات أجدادي في مكانها الحقيقي، سأشعر أن رحلتي الطويلة والشاقة بين متاحف العالم قد انتهت أخيرًا، وأن أجدادي العظام قد عادوا إلى بيتهم.. إلى مصر.