لقد وجدت من قراءاتى أن سادتنا من مشايخ الصوفية الكبار عبر التاريخ كانوا يجبرون خواطر الناس خاصة الضعفاء منهم، وكانوا يسترون كل ضعف، ويدعمون الناس بتقوية إراداتهم، بعكس عصرنا الراهن الذى يتلاعب به محترفون عالميون فى استغلال نقاط الضعف البشرى، وتعريتها، وفضحها، واللعب عليها، ثم تقديم سبل وآليات الغواية كطوق نجاة، بخلق رغبات مزيفة وغير حقيقية، ووجدت أن شبابنا فى خطر، وبناتنا فى خطر، فعكفت على وضع استراتيجية للنجاة مما أطلقت عليه «التسويق الأسود».
«التسويق الأسود» هو أحد أكثر الأساليب الخادعة والاستغلالية فى صناعة التسويق الإعلانى والتجارى والسياسى، حيث يتم توظيف علم النفس والتحليل الاجتماعى للتلاعب بالمستهلكين، وجعلهم يعتقدون أن قراراتهم (حرة)، بينما هى موجهة، حيث يستغل مروجو التسويق الأسود فكرة تزييف الرغبات عبر خمس آليات.
الآلية الأولى: هى استغلال التحيزات المعرفية، وتأثير الإطار لتقديم المنتج على أنه ضرورة مع أنه رفاهية، كأن يخاطب الإعلان النساء بأن غالبية النساء تستخدم نوعا معينا من الكريمات، وأن عدم شرائه يعتبر فشلا وقبحا، مما يعزز مبدأ نفور الخسارة، وجعل العميلة هنا تشعر بأنها سوف تخسر كثيرا إن لم تشترِ المنتج، والآن، لأن الرسالة تؤكد أن (العرض) سوف ينتهى بعد ساعتين مثلا، رغم أنه متجدد دائما.
الآلية الثانية:التلاعب بالعواطف، باستغلال رغبات الخوف والقلق، مثل إعلانات المكملات الغذائية، واعتبارك ضعيفا إن لم تستخدم نوعيات بعينها، وكذلك خلق احتياجات وهمية، وعلى سبيل المثال الادعاء بأنه لن يحترمك أحد ما لم تركب سيارة فاخرة، أو تسكن فى منطقة معينة، أو تلبس ماركة معينة.
الآلية الثالثة: التلاعب بالوعى، والإيحاء الخفى، واستخدام ألوان ورموز تثير الرغبة دون وعى المستهلك، مثل اللون الأحمر فى غالبية فروع مطاعم الوجبات السريعة، لأنه يحفز الجوع، وكذلك استخدام التكرار القهرى، بعرض المنتج مرارا حتى يألفه المستهلك، ويصبح شراؤه حرا وبإرادته.
الآلية الرابعة: التلاعب بالهوية، بربط المنتج بالهوية الشخصية، كالقول بأن الأذكياء فقط هم مَن يشترون المنتج، أو يسكنون فى مكان ما، أو يدخلون جامعة بعينها، وكذلك استغلال الرغبة فى الانتماء، وتحريض المستهلك على أن يكون جزءا من النخبة، وهنا يشترى المستهلكون منتجات باهظة الثمن ولا يحتاجون إليها، فقط لتأكيد مكانتهم الجديدة.
والآلية الخامسة: التضليل الإحصائى، باستخدام بيانات مزيفة أو مبالغ فيها، كالقول بأن 9 من بين كل 10 أطباء يستخدمون هذا الدواء، وهناك أمثلة كثيرة من حولنا على استخدام التسويق الأسود لاستغلال البشر، بالخداع البصرى مثلا، بإنتاج عبوة ذات حجم أكبر مع ثبات الكمية، فيعتقد المشترى أنه حصل على صفقة أفضل، وعمل مراجعات مزيفة، بشراء آراء إيجابية على «جوجل» و«أمازون» لخداع المستهلك بأن المنتج موثوق به، وكذلك الإعلانات المستهدفة، بتتبع بياناتك لترويج منتجات بناء على مخاوفك وغرائزك، باستغلال نقاط ضعفك البشرية والنفسية، وأخيرا التلاعب بالسعر، بحيث يزعم أن السعر كان ألف دولار وهبط إلى 500 دولار مثلا، مع أنه لم يُبَع قط بألف دولار.
وهنا أريد أن أشير إلى أننا لا بد أن يسأل كل منا نفسه عدة أسئلة قبل الإقدام على شراء أى منتج أو اقتناء أى عقار أو سيارة: مثلا هل أنا حقا بحاجة إليه، وهل السعر المعروض حقيقى أم تخيلى؟.. ثم تحقق من الأمر بعمل مراجعات خارج الموقع الرسمى، وقارن بين الأسعار، وثالثا، تجاهل التكتيكات العاطفية، فلا تنخدع بعبارات مثل (عرض لفترة محدودة) أو (الكمية محدودة)، ورابعا استخدم أدوات حظر التتبع، مثل أدوات منع الإعلانات لتقليل تعرضك للاستهداف.
أخيراً.. من الواجب التوضح أنه هناك علاقة وثيقة بين كل ما سبق والتصوف، لأن التسويق الأسود هو «المسيح الدجال» أو صورة مصغرة منه؛ لأنه غواية العصر، فالشيطان اليوم يسمى (خبير تسويق)، وأدواته البيانات الكبيرة والإعلانات المستهدفة، وهذا يتفق مع أساليب التحليل النفسى باستغلال الوعى، والفلسفة النقدية بصناعة ثقافة استهلاكية، ومع التحذيرات الدينية من اتباع الهوى، فالتسويق الأسود وغواية المسيح الدجال يتشاركان فى آليات التزييف والتلاعب بالرغبات، لتضليل الناس بالتكنولوجيا وعلم النفس، وبخداع الحواس والوعى، وتقديم منتجات ضارة على أنها صحية، مثل مشروبات الطاقة المدمرة للصحة، وتزيين الباطل على أنه حق بالزعم بأن المنتج طبيعى وآمن، والتركيز على الضعف البشرى، واستغلال المحرومين واليائسين، وهذا يتفق مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الدجال: (يأتى الدجال معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار)، (وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور)، أى أنه ناقص رغم أنه يدعى الكمال.
وفى النهاية الهدف هو خلق البشر كمجموعات من العبيد والأتباع طواعية بالترغيب والترهيب، والعصمة بعدم الانجراف وراء القطيع، والثبات على الحق، والوعى النقدى، وكما قال الإمام على: (الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا)، فاحذر أن تكون من الغافلين فى سوق العصر.