ما نحب تأكيده أولا؛ أن عنصر المكان يلعب أهمية أساسية في تحديد أبعاد العمل الروائي، إذا استطاع الكاتب أن يوجد توحدا واتصالا وثيقا بينه وبين باقي عناصر العمل كلها، خاصة عنصر الشخصية في الدرجة الأولى، حيث إن الحيز المكاني الذي تتحرك فيه الشخوص والأحداث هو بمثابة العامل المهم في بلورة معالم تلك الأحداث والشخوص بما تضفيه على عنصر الشخصية، خاصة من سمات تتعلق بالرقعة المكانية ذاتها، ومن هنا فإن الشخصية، تبدو أكثر منطقية وقبولا من حيث ارتباطها أو انفصالها عن المكان، باعتباره أحد العوامل التي يرتكز الكاتب عليها لتحديد هوية أحداثه وفكرته.
لذا فإن حديثنا عن البيئة المكانية الشعبية، سوف يتم من خلال رصد العلاقة بين معالمها الأساسية وبين طبيعة الصراع().
وما نحب تأكيده ثانيا؛ أن ليس كل مكان في روايات الكاتب يعتبر ذا صفة تراثية شعبية، ولكن الذي يعتبر بهذه الصفة، هي تلك الأماكن التي اشتهرت بهذا سلفا خارج نطاق الرواية، نتيجة لتاريخها العريق الضارب بجذوره في تربة الماضي .
وهذه الأماكن لا تتعدى ذلك الإطار الذي يمثله حي سيدنا الحسين أو على وجه التحديد تلك المنطقة التي تقع في ظلال سيدنا الحسين، داخل متاهات الأزقة مثل: خان الخليلي وزقاق المدق، وما يتفجر منها أحيانا من شوارع الحي الرئيسية مثل: السكة الجديدة والصنادقية والأزهر وجوهر القائد والخرنفش وأمير الجيوش، فضلا عن بين القصرين وقصر الشوق والسكرية.
ولقد جعل نجيب محفوظ من بعض هذه الأماكن-فضلا عن تصويرها-عناوين خمس روايات هي: خان الخليلي-زقاق المدق-بين القصرين-قصر الشوق-السكرية، ربما زيادة في حرصه على تأكيد نسبة عمله إليها.
هذا فضلا عن تصويره لبعض الأماكن الأخرى، ذوات الصفة التراثية الشعبية، مثل: باب النصر - الجمالية - درب قرمز - بيت القاضي - حارة الوطاويط، والتي انتشرت في عدد من رواياته الأخرى بطريقة ثانوية، مثل: بداية ونهاية والمرايا وحكايات حارتنا .
وسوف تتتبع تلك المعالم الأساسية للبيئة المكانية الشعبية في متن الصفحات التالية:
ينقسم المكان الشعبي بوصفه طبيعة جغرافية، كما تبدو في روايات الكاتب، إلى عدة معالم أساسية، يمكن رؤيتها جيدا عبر المناظير التالية: الحدود -البيوت - الطرق - أماكن الترفيه - أماكن العبادات.
وهذه الأماكن لا شك أنها ليست جزرا مكانية منعزلة عن بعضها، لكنها متداخلة معا في بناء عضوى واحد، رغم تقسيماتها المختلفة، مثل أجزاء الجسم الإنساني، عبر تقسيماتها المختلفة واتصالها الواحد.
ولقد اختط نجيب محفوظ من حيز فضاء المكان الشعبي حدودا واضحة المعالم، بنفس وصفها الطبيعي، تنوعت بين الشارع والحي والحارة والدرب والزقاق والعطفة. والأمثلة في ذلك كثيرة، نذكر من مثل الشوارع: بين القصرين، وقصر الشوق والسكرية، ومن مثل الأحياء: خان الخليلي والأزهر والحسين، ومن مثل الحارات: حارة الوطاويط، ومن مثل الدروب: درب قرمز، ومن مثل الأزقة: زقاق المدق، ومن مثل العطوف: عطفة الصنادقية .
ولقد اشتملت تلك الحدود المكانية على بقية ما اشتهرت به البيئة الشعبية من معالم مثل: البيوت والطرق وأماكن الترفيه وأماكن العبادات، والأمثلة في ذلك كثيرة أيضا، فمن مثل البيوت: بيت السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية بمشربياته التراثية، ومن مثل الطرق: طريق الصنادقية، وطريق خان جعفر، ومن مثل أماكن الترفيه: القهوة: قهوة المعلم كرشة في زقاق المدق، وقهوة أحمد عبده في الثلاثية، وقهوة الزهرة في خان الخليلي، ومن مثل أماكن العبادات المساجد والتكايا، ومن مثل المساجد:
الحسين وقلاوون وبرقوق، ومن مثل التكايا: تكية ممر قبو قرمز.
وسوف أذكر عدة أمثلة تصور طبيعة تلك المعالم في روايات الكاتب .
يبدأ نجيب محفوظ في تحديده لحيز فضاء زقاق المدق باستهلال هكذا :
"كان من تحف العهود الغابرة. تألق يوما في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدرى، أي قاهرة أعنى؟ الفاطمية؟ المماليك والسلاطين؟ علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار، ولكنه على أية حال أثر، وأثر نفيس، كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصنادقية، تلك المطلقة التاريخية".
ثم يتعمق في تركيز تحديده أكثر، هكذا :
"إنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة، له باب على الصنادقية، ثم يصعد صعودا في غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن وتحف بالجانب الآخر دكان ووكالة، ثم ينتهى سريعا-كما انتهى مجده الغابر-ببيتين متلاصقين، يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة".
وفي وصفه لحيز فضاء خان الخليلي، يبدو من منظور أرضى هكذا :
"انتهى إلى ميدان الأزهر، واتجه إلى خان الخليلي يتسمت هدفه الجديد، فعبر عطفة ضيفة إلى الحى المنشود، حيث رأى عن كثب العمارات الجديدة، تمتد ذات اليمين وذات الشمال، تفصل بينهما طرقات وممرات لا تحصى، فكأنها ثكنات هائلة، يضل فيها البصر، وشاهد فيما حوله (مقاهي) عامرة ودكاكين متباينة-ما بين دكان طعمية ودكان تحف وجواهر-ورأى تيارات من الخلق لا تنقطع".
ومن منظور علوى، يبدو هكذا :
"استطاع أن يتبين معالم الحي من عل، فرأى أن العمارات شيدت على أضلاع مربع كبير المساحة، وأقيمت في مساحة المربع التي تحيط بها العمارات مربعات صغيرة من الحوانيت، تلتف بها الممرات الضيقة، فكانت نوافذ العمارات وشرفاتها الأمامية تطل على أسطح الحوانيت فكان الناظر من إحدى النوافذ الأمامية يرى مربعا كبيرا من العمارات، ينظر هو من نقطة في أحد أضلاعه ويرى في أسفله مربعات كثيرة من أسطح الحوانيت، تخترقها شبكة معقدة من الممرات والطرقات ورأى فيها وراء ذلك مئذنة الحسين في علوها السابق تبارك ما حولها".
وزيادة في تبصير زاوية الرؤية، يصف لنا الكاتب قهوة المعلم كرشة هكذا :
"هي حجرة مربعة الشكل، في حكم البالية، ولكنها على عفائها تزدان جدرانها بالأرابيسك، فليس لها من مطارح المجد إلا تاريخها وعدة أرتك تحيط به".
وفي الزيارة المختلسة للسيدة أمينة إلى الحسين، هي وابنها الصغير كمال، تبدو كثير من المعالم الأساسية المشكلة لحيز فضاء البيئة الشعبية، هكذا:
"ولاقت وهي تعبر عتبة الباب الخارجي إلى الطريق. وهي تتعرض لأعين الناس الذين عرفتهم من عهد بعيد من وراء خصاص المشربية، عم حسنين الحلاق ودرويش بائع الفول والفولي اللبان وبيومى الشربتلي وأبو سريع صاحب المقلى. عبرا الطريق إلى درب قرمز لأنه وإن يكن أقصر الطرق إلى جامع الحسين إلا أنه كان لا يمر-كطريق النحاسين-بدكان السيد، فضلا عن خلوه من الدكاكين. التفتت صوب المشربية فرأت شبحي ابنتيها وراء ضلفة منها بينما رفعت ضلفة أخرى عن وجهي ياسين وفهمي الباسمين. جدت في السير. يقطعان الدرب المقفر. نحو الدنيا التي يتراءى لها درب من دروبها وميدان من ميادينها وغرائب من مبانيها. تسأل كمال عما يصادفها في طريقها من مشاهد وأبنية وأماكن، والغلام يحدثها. فهذا قبو قرمز المشهور الذي يجب قبل الدخول فيه-تلاوة الفاتحة؛ وقاية من العفاريت التي تسكنه، وهذا ميدان بيت القاضي بأشجاره الباسقة وكان يسميه ميدان ذقن الباشا مطلقا عليه اسم الزهر الذي يعلو أشجاره أو يسميه أحيانا أخرى ميدان سنجرى ساحبا عليه اسم بائع الشيكولاتة التركي، أما هذا البناء الكبير فهو قسم الجمالية، ومع أن الغلام لم يجد به ما يستحق اهتمامه سوى السيف المدلى من وسط الديدبان إلا أن الأم ألقت عليه نظرة. حتى بلغا مدرسة خان جعفر الأولية، التي قضى بها عاما قبل التحاقه بمدرسة خليل أغا الابتدائية، فأشار إلى شرفتها الأثرية. ثم أومأ إلى دكان تحت الشرفة مباشرة. انعطفا بعد ذلك إلى طريق خان جعفر فلاح لهما عن بعد جانب من المنظر الخارجي الجامع الحسين، يتوسطه شباك عظيم الرقعة محلى بالزخارف العربية، وتعلوه فوق سور السطح شرفات متراصة كأسنة الرماح. مضت تقارن بين المنظر الذي تقترب منه وبين الصورة التي خلفها خيالها له مستعينا في خلقه بنماذج من الجوامع التي في متناول بصرها كجامع قلاوون وبرقوق. دارا حول الجامع حتى الباب الأخضر. راحت تلتهم بأعين شبقة مستطلعة، جدرانه وسقفه وعمده وأبسطته ونجفه ومنبره ومحاريبه.
ولما وجدت نفسها مرغمة على مغادرة المسجد، انتزعت نفسها منه انتزاعا. ودعاها كمال إلى مشاهدة مدرسته فمضيا إليها في نهاية شارع الحسين ووقفا عندها مليا، فاقترح عليها أن يسيرا في السكة الجديدة حتى الغورية".
وفي حكايات حارتنا يبدو عالم التكية بغموضه الأسر، هكذا :
"يروق لي اللعب في الساحة بين القبور والتكية، ومثل جميع الأطفال أرنو إلى أشجار التوت بحديقة التكية؛ أوراقها الخضر في ينابيع الخضرة الوحيدة في حارتنا، وثمارها السود مثار الأشواق في قلوبنا الغضة، وها هي التكية مثل قلعة صغيرة تحدق بها الحديقة، بوابتها مغلقة عابسة، دائما مغلقة والنوافذ مغلقة فالمبنى كله غارق في البعد والانطواء والعزلة، تمتد أيدينا إلى السور كما تمتد إلى القمر" .
ويتضح من خلال الأوصاف السابقة، للطبيعة الجغرافية للبيئة الشعبية؛ جملة حقائق شكلت حيز فضاء البيئة الشعبية بين الرواية والواقع .
1- تدهور الحال الحاضر بعد تألق عابر.
2- محاولة غزوه بالمدنية الحديثة.
3- طرقه كثيرة ومتشابكة وربما تكون صاعدة أو هابطة لكنها مبلطة بصفائح الحجارة.
4- وجوده منحصر بين جدران مغلقة ربما تكون ثلاثة أو ربما تكون أربعة.
5- به دكاكين متباينة وأفران ووكالات وربما عمائر مستحدثة.
6- بيوته متلاصقة ومكونة من عدة طوابق، ربما تكون ثلاثة.
7- به أماكن للعبادات تبارك ما حولها.
وبناء على ما سبق فإن المؤكد هو اعتماد الكاتب في رسمه للمكان الروائي على تتبع مفردات المكان الحقيقي-ذاتا وصفات-ولا غرابة في ذلك ، فتلك عادة الكتابة الواقعية؛ التي ألزم الكاتب بها نفسه في تلك المرحلة من الإبداع، والتي تعتمد على التزام الدقة والتفصيل في وصف المكان الحقيقي .
وإذا كان نجيب محفوظ، قد صور معالم تلك الأماكن الشعبية في الروايات التي ذكرناها آنفا، بذاتها وصفاتها-تاريخا زمنيا واسما مكاني-فهو في روايتي: أولاد حارتنا وملحمة الحرافيش قد صورها بصفاتها فقط، والتي تعتمد على تحديد الملامح العامة لزمكانية البيئة الشعبية من مثل: طريقة تسمية الأماكن والعمران وتصويرها دون تحديد لزمكانية صارمة .
والحق أن الحدود المكانية في روايتي أولاد حارتنا وملحمة الحرافيش قد تغيمت إلى حد كبير، كذلك الحدود الزمنية، إذ يصعب نسبتهما إلى واقع أو زمان خارجيين، يضع الرواية في الواقع والسنين.
فإذا كان ثمة وجود في الروايتين لأماكن مثل الحسين والدراسة والجمالية والغورية والقلعة والدرب الأحمر وكفر الزغاري والعطوف والمبيضة وحارة الوطاويط وصحراء المقطم وصحراء المماليك ودوامة الشيخ،إلخ، فإن هذا الوجود لم يشكل الصورة الأساسية للمكان مثلما كانت الحال في روايات الكاتب الواقعية، بقدر ما شكل الإطار، الذي يحفظ للصورة الأساسية تماسكها.
والذي شكل الصورة الأساسية-في نظرنا-أماكن مثل: البيت الكبير-الخلاء الحارة-التكية -القبو-الممر-الزاوية-السبيل-الجبل-السور العتيق-الفناء-الحوض-الكتاب-الميدان-الساحة - القبور .
ولنتتبع توضيح ذلك في إحدى الروايتين وليكن في أولاد حارتنا، إذ سرعان ما نرى أن المعالم الأساسية لحدود المكان قد استقطبت في صورة حارة غارقة في الصحراء يحيط بها الخلاء من كل جانب يتوسطها البيت الكبير الذي يقبع وراء الأسوار، غارقا في الصمت، وعلى يمين البيت الكبير نجد بيت الناظر، وعلى اليسار نجد بيت الفتوة، وتترامي أمام البيت الكبير، بيوت الوقف في صفين يشكلان أحياء ثلاثة، هي ترتيبا: جبل ورفاعة وقاسم.
لكننا لا نعدم إطارا يحدد تخوم هذه الصورة، ويعمل بشكل ثانوى، تمثله أسماء الأماكن التالية: الجمالية، الدراسة، كفر الزغاري، المبيضة، حارة الوطاويط، إلخ.
ويستمر الكاتب طيلة الرواية مركزا أحداثها وشخوصها في حيز مكاني ضيق ثابت، تشكله الصورة الأساسية للمكان الروائي بإطارها المحدود، وكأن حيز زقاق المدق أو خان الخليلي أو بين القصرين أو قصر الشوق أو السكرية ما زال جاثما .
وتخلصا من بعدى الضيق والثبات للمكان الروائي-الذي يعتبر سوق المقطم على قربه منهم منفى لكثير من الشخصيات-حاول الكاتب بطريقة الوصف أن يوهم باتساع المكان وتنوعه ولنضرب لذلك مثلا بالبيت الكبير ومثلا بالحارة .
فلقد أخبرنا الكاتب في الافتتاحية، أن البيت الكبير يقع على رأس الحارة من ناحيتها المتصلة بالصحراء، وأن البيت الكبير له باب ضخم به تمساح محنط مركب في أعلاه، وأن صحراء المقطم تحيط بسوره الكبير، وأن رءوس أشجار التوت والجميز والنخيل تكتنفه، وأن نوافذ البيت مغلقة لا تتم عن أي أثر للحياة .
وكان يمكن أن يستمر الكاتب في وصفه للبيت الكبير وأن يأتى عليه دفعة واحدة في الافتتاحية، لكنه قدم لنا بقية الصفات تقطيرا في كل فصل تال؛ ففى فصل أدهم نرى أن البيت الكبير نصفه الغربي حديقة، ونصفه الشرقي مكون من أدوار ثلاثة، وبهو تحتاني متصل بسلاملك الحديقة، وأن البهو توارت جدرانه العالية وراء ستائر وطنافس، وأن على أرضه بساطا فارسيا، وأن هنالك منظرة واقعة إلى يمين باب البيت الكبير، بها مقعد ناظر الوقف، وأن هنالك خلوة متصلة بمخدع الجبلاوى، بها الحجة في مجلد ضخم، وأن باب الخلوة الصغيرة في نهاية الجدار الأيسر، وأنه باب مغلق دائما، لكن مفتاحه مودع في صندوق فضى صغير في درج الحوامة القريب من الفراش، أما المجلد الضخم فعلى ترابيزة في الخلوة الضيقة، وأن البيت الكبير به ممشى به عريشة ياسمين متجهة إلى السلاملك، وفى فصل عرفه نرى أن بيت الناظر يشبه بيت الجبلاوى، وأنه أقيم في مكان. حجرة الوقف القديمة.
وربما تكون هذه الطريقة في الوصف مستقاة من طريقة القرآن الكريم في الوصف، حيث لم يقدم القرآن الكريم وصفه للشيء دفعة واحدة، بل استمر ذلك على امتداد السور جميعها، من ذلك مثلا وصفه للجنة، ووصفه النار.
ولقد أخبرنا الكاتب، في الافتتاحية، أيضا، أن الحارة تعرف باسم الجبلاوي، وأنها أصل مصر أم الدنيا وأن ما قبلها كان خلاء خربا، ثم يعود في فصل أدهم ويخبرنا أنها امتداد لصحراء المقطم، الذي يريض في الأفق، وأن بها مكانا يسمى الجمالية ، بدأت زفة أدهم من أقصاه، وأن بها أماكن أخرى سارت بها زفة أدهم أيضا، هي العطوف وكفر الزغاري والمبيضة، وفي فصل جبل نرى أن بيوت الوقف تقع في خطين متقابلين، يصنعان الحارة، يبدأ الخطان من خط يقع أمام البيت الكبير، ويمتدان طولا في اتجاه الجمالية، ونرى أيضا أن هذه الحارة هي أطول حارة في المنطقة، وأن أكثر بيوتها ربوع، كما في حي آل حمدان، وأن الأكواخ كثيرة في منتصفها حتى الجمالية، وأن بيت الناظر على رأس الصف الأيمن من المساكن، وبيت الفتوة على رأس الصف الأيسر قبالته، وأن البقعة التي بنى فيها أدهم كوخه تقع في قمة الحارة، وأن قهوة حمدان تتوسط حي حمدان بين الربوع، وفي فصل عرفة نرى أن حديقة بيت الفتوة لها باب مفتوح على الخلاء، وفي فصل قاسم ترى أن الحارة تتكون من أحياء ثلاثة متتابعة كالآتي: جبل-رفاعة-قاسم.
ولقد اقتربت هذه الأماكن بتكثيفها وتثبيتها-بدرجة كبيرة-من التجريد، الذي ابتعد بها عن المعاني المحددة سلفا-تحديد الأماكن الشعبية في الروايات الواقعية؛ لتقترب في دلالتها السطحية والعميقة معا مما رمى إليه الكاتب من ترميز في الروايتين، سواء أكان ذلك بشكله الميتافيزيقى الدينى فى أولاد حارتنا أم بشكله الميتافيزيقي الشعبي في ملحمة الحرافيش.
والحق أن الكاتب قد أفاد، إفادة جمة، من تثبيته للمكان في أولاد حارتنا على النحو التالي:
1 - في تثبيت المكان، تثبيت للبيئة، تثبيت للظروف، ومن ثم تغيب الاحتكاكات والمؤثرات الخارجية، وبذا يتبدى الفارق في طريقة ردود الأفعال إن اعتبرنا أن في التثبيت فعل، وردود الأفعال تمثلت فيما فعله كل من جبل ورفاعة وقاسم وعرفة؛ فبرغم عدم اختلاف الفعل بصفة عامة في كل حالة منهم والمتمثل في ظلم الفتوات، رأينا أن ردود الأفعال لم تكن واحدة، في طريقة الرد ومحتواه، وبذلك استطاع الكاتب أن يظهر أنواعا مختلفة في معالجة الفعل تنوعت في بعدها التراثي بين شدة جبل وسماحة رفاعة ووسطية قاسم وفى بعدها المعاصر في دعاء عرفة.
2- في تثبيت المكان، تحقيق للموازاة التراثية في جزئية منها؛ هي جزئية الاستقطاب المكاني، فبرغم تعدد رقعة الأرض في التراث الديني بين الأديان الثلاثة، إلا أنها-في مجملها-لا يمكن إخراجها من التحديد والثبات؛ فالجزيرة العربية بجوار فلسطين بجوار مصر، رغم أنها-في تفصيلها-لا تحقق الموازاة التراثية، فالبيت الكبير لا علاقة له-مكانيا- بالسماء أو بالعرش، والحارة لا علاقة لها-مكانيا بالعالم الكبير، وحارة الجرابيع لا علاقة لها-مكانيا-مع مكة ، كما حاول كثير من النقاد التشفير بذلك.
3- في تثبيت المكان ما يركز الذهن والتصور على عناصر أخرى، قصد الكاتب إبراز حركتها مثل الأحداث والشخوص والصراع، والتي شكلت-في نظرنا-أهمية الرواية .
وتتسحب أهمية تثبيت المكان أيضا على الروايات الواقعية، فضلا عن ملحمة الحرافيش التي تسير في نفس اتجاه سير أولاد حارتنا .
ففي زقاق المدق، استغل الكاتب الطبيعة المكانية الثابتة والمحدودة في إقامة الصراع الروائي على أساسها، سواء أتم ذلك بالتفصيل المكاني؛ حيث وضعت المباني في مقابلة أسهمت في مقابلات الرواية؛ فنافذة حميدة في مقابلة عباس الحلو ثم بعد ذلك في مقابلة رضوان الحسيني ثم بعد ذلك في مقابلة إبراهيم فرحات؛ أم سواء أتم ذلك بالإجمال المكاني، حيث وضع الزقاق في مقابلة العالم وحربه الثانية، التي استطاعت أن تنال من زقاق، لم يستطع توالى العقود أن ينال منه .
وفي خان الخليلي، تم وضع الخان أيضا-في مجمله-في مقابلة مع الحرب العالمية الثانية -وفي تفصيله-شكلت المباني طبيعة الصراع؛ شباك أحمد عاكف في مواجهة شباك نوال، ثم بعد ذلك شباك رشدى عاكف في مواجهة شباك نوال .
وفي الثلاثية، نجد أن هيمنة المكان بثباته ومحدوديته، لا خلاف عليها في تشكيل حركة الرواية، بل إن الانتقال في المكان وإن تم من بين القصرين إلى قصر الشوق ثم إلى السكرية، مربوط بالتثبيت في حد ذاته، حيث إن في تثبيت المكان تأثير في أخلاق وعادات الشخصيات التي تتحرك على أرضه ومستوى المواقف التي تحدث في إطاره واتجاه الصراع الذي يدور داخله، وهو ما تبدى في الروايات الثلاثة .
وفي ملحمة الحرافيش، شكلت ثيمة الحارات بوضعها المكاني، لب الصراع الذي انبنت عليه ثيمة أخرى، هي ثيمة الفتونة، وبذلك استطاع الكاتب أن يحرك أحفاد عاشور الناجي؛ جيلا وراء جيل، في مقابلة معا، تتسم بالأفقية، وإن كانوا في الأصل يتتابعون-دواليك- تتابعا رأسيا .
والحق أن الكاتب قد أفاد من توظيفه لزمكانية البيئة الشعبية في أعماله بطريقتين؛ الأولى: تسجيلية، حيث استطاع الكاتب أن ينتج عن طريقها خمس روايات هي: زقاق المدق، خان الخليلي، الثلاثية .
الثانية: ترميزية، حيث استطاع الكاتب أن ينتج عن طريقها روايتين هما: أولاد حارتنا، وملحمة الحرافيش .