القصة الأولى تبدأ من مبنى وزارة قطاع الأعمال العام، حيث يجلس جهاز إدارى ضخم على إرث من 118 شركة قابضة وتابعة، تمتد أنشطتها من الغزل والنسيج إلى الكيماويات والسياحة والتعدين، بإجمالى أصول دفترية تقدَّر بأكثر من 400 مليار جنيه.
كثير من هذه الأصول ذات تاريخ طويل، بعضها يئن تحت أعباء المديونية، وبعضها الآخر يعيش على أرباح محدودة، فيما تعانى الغالبية من أنماط إدارية وتشغيلية تقليدية تحد من إنتاجيتها وقدرتها التنافسية، بينما تظل قلة منها فقط قادرة على تحقيق معدلات ربحية تتناسب مع حجمها وإمكاناتها.
أما القصة الثانية فتدور فى مقر الصندوق السيادى المصرى (TSFE)، الكيان الأحدث عمرًا لكنه الذى يملك تفويضًا استراتيجيًا مختلفًا، إذ يختص بإدارة الأصول القابلة لإعادة التطوير أو تلك التى تحمل فرصا استثمارية كامنة، سواء عبر الشراكة مع مستثمرين محليين أو دوليين، أو من خلال هيكل تمويلى مبتكر.
قيمة الأصول تحت إدارة الصندوق تتجاوز 40 مليار جنيه، لكن القيمة الفعلية التى يستهدفها تكمن فى جذب تمويلات واستثمارات مشتركة قد تضاعف هذا الرقم فى غضون سنوات محدودة وتحقق المأمول منه.
ورغم أن كلاً من الوزارة والصندوق يتحدث عن «تعظيم العائد على الأصول» و«جذب الاستثمار»، إلا أن المسارين لا يلتقيان إلا نادرًا، إذ إن بعض الشركات تُنقل من الوزارة إلى الصندوق، لكن كثيرًا منها يظل عالقًا بين تقييمات متباعدة، أو اختلاف فى أولويات البيع والتطوير، ما يجعل عملية تدوير الأصول أشبه بانتقال الكرة بين لاعبى فريق واحد دون تسجيل أهداف.
عندما أُعلن عن برنامج الطروحات الحكومية فى 2018، بدا وكأنه نقطة التحول الكبرى، حيث توجد 23 شركة سيتم طرح حصص منها عبر البورصة أو بيعها لمستثمرين استراتيجيين، بحصيلة مستهدفة تصل إلى 80 مليار جنيه خلال ثلاث سنوات.
لكن الحصيلة الفعلية بين 2019 و2021 لم تتجاوز 10فى المائة من المستهدف، إذ اصطدمت الخطة بواقع السوق، بين تقلبات فى البورصة، وضعف الجاهزية المالية لبعض الشركات، وتأجيلات متكررة لأسباب كثيرة بينها عدم الحسم فى فكرة الطرح من عدمه.
وبين 2022 و2023، تحرك البرنامج مجددًا مع صفقات بيع مباشرة لصناديق خليجية مثل «ADQ» الإماراتية والصندوق السيادى السعودى، وهو ما أدخل سيولة دولارية مهمة، لكنه لم يحقق الهدف الموازى المعلن وهو تنشيط البورصة المصرية وتعميق قاعدة المستثمرين المحليين.
ثم جاءت 2024 و2025 لتشهد شبه جمود، وسط غياب إعلانات كبرى وتراجع متوسط التداول اليومى فى البورصة من 1.5 مليار جنيه فى 2019 إلى نحو 0.9 مليار جنيه فى منتصف 2025، حتى إن تصريحات الحكومة ذاتها أصبحت تتجاهل الحديث فى هذا الأمر.
هناك أسباب موضوعية لمسألة التوقف، أبرزها أن الأصول الحكومية اليوم لا يديرها كيان واحد يملك صلاحيات شاملة، خاصة أن الوزارة تركز على إعادة الهيكلة، أما الصندوق فمعنى أكثر بالتطوير وجذب المستثمرين، وبين الاثنين تضيع أشهر فى المفاوضات والتقييمات.
يضاف إلى ذلك فجوة فى تقدير القيمة العادلة، فالدولة من ناحية تريد أعلى سعر ممكن، بينما المستثمر على جانب آخر يضع خصمًا كبيرًا لتغطية مخاطر التشغيل وسعر الصرف، ما يجعل الفارق أحيانًا يصل إلى 40 فى المائة، وهو ما يصعب عملية الإتمام.
العامل الآخر هو توقيت السوق؛ فأسعار الفائدة المحلية التى تجاوزت 25 فى المائة تجعل الاستثمار فى الأسهم أقل جاذبية، بينما ضعف السيولة فى البورصة يحد من قدرة السوق على استيعاب طروحات كبيرة.
كما أنه لا يمكن إغفال أن عددًا من الشركات المستهدفة لا يفى بمتطلبات الإفصاح المحاسبى أو الحوكمة التى تضعها صناديق الاستثمار الدولية، وهو ما عطل صفقات كثيرة كانت فى طور الاتفاق الفعلى.
النظر إلى التجارب الدولية يكشف أن النجاح فى إدارة الأصول العامة يحتاج إلى كيان موحد برؤية استثمارية، مثلا سنغافورة أنشأت «Temasek Holdings» فى السبعينيات، وجمعت تحت مظلته كل الأصول التجارية المملوكة للدولة، وأدارها بأسلوب القطاع الخاص، محققًا عائدًا سنويًا متوسطه 10فى المائة لعقود.
الإمارات كذلك جمعت بين مبادلة وأبوظبى للاستثمار لخلق أذرع متخصصة، لكن تحت تنسيق مركزى قوى، وفى أوروبا الشرقية، استخدمت التشيك وبولندا الطروحات العامة فى البورصة كأداة لتطوير الأسواق المالية، مع طرح تدريجى على مدى سنوات.
هل يمكن دمج الصندوق السيادى وقطاع الأعمال؟ تساؤل هام فالدمج لا يعنى بالضرورة حل أحد الكيانين، بل توحيد ولاية الاستثمار والبيع وإعادة الهيكلة فى جهة واحدة، ربما تحت مسمى «الهيئة الوطنية لإدارة أصول الدولة»، بحيث يتعامل مع المحفظة الحكومية كوحدة واحدة، يقرر أى الشركات تغلق أو تدمج، وأيها يُطرح فى البورصة أو يُباع لمستثمر استراتيجي، وأى الأصول يعاد تطويرها قبل البيع.
ويحقق ذلك بالطبع تسريع وتيرة الطروحات، إذ تصبح جهة التفاوض واحدة، ورفع القيمة الإجمالية من خلال إعادة هيكلة أصول متشابهة النشاط، كما أنه يساعد فى تحسين صورة مصر أمام المستثمر الأجنبى، الذى يفضل التعامل مع نافذة واحدة واضحة الصلاحيات.
إعادة الزخم لبرنامج الطروحات فى تقديرى تتطلب مسارين متوازيين، أولهما سريع لبيع حصص أقلية فى شركات جاهزة، خاصة فى القطاعات الجاذبة مثل البنوك والأسمدة والاتصالات، سواء عبر صفقات خاصة أو اكتتابات سريعة.
والثانى مسار مؤسسى لإعداد شركات أخرى للطرح العام، يشمل تحسين الحوكمة، تقليل المديونية، وضبط التكاليف التشغيلية، كما تحتاج البورصة إلى دعم مباشر يساعد فى تحقيق المأمول من حوافز ضريبية للطرح، وتوفير صندوق لدعم السيولة، وآليات تحوط للعملة لحماية المستثمر الأجنبى من تقلبات الجنيه.
ما بين وزارة قطاع الأعمال والصندوق السيادى، تتحرك أصول مصر فى مساحة رمادية لا تساعد على تحقيق أقصى قيمة منها، فى حين تثبت التجارب الدولية أن التوحيد المؤسسى هو الخطوة الأولى نحو تحويل هذه الأصول من عبء مالى إلى مصدر للنمو والاستثمار، خاصة أن الأمر ليس مجرد بيع أصول، بل إعادة صياغة العلاقة بين الدولة ورأس المال، على نحو يضمن الشفافية، والكفاءة، وجاذبية الاستثمار.
ختاما، فما يحتاجه السوق ليس وعودًا جديدة بطرح شركات، بل إرادة سياسية لتوحيد الجهة المالكة والمسوّقة والمطورة للأصول، بحيث تتحدث الدولة بصوت واحد إلى المستثمرين، وتعود عجلة الطروحات إلى الدوران من جديد.. هذه المرة بثبات، ووفق جدول زمنى لا يتوقف.