منذ أن تأسست جماعة حسن البنا فى نهاية عشرينيات القرن الماضي، استفادت من المشروع الصهيونى فى فلسطين، كانت الاستفادة بالمزايدة على الجميع وابتزاز الجميع باسم مواجهة ذلك المشروع حينًا، والدفاع عن القدس حينًا آخر.
تم اللقاء بينهما فى لحظات ومواقف عديدة، بحكم أن العدو لديهما واحد، وهو الدولة القومية والوطنية فى المنطقة العربية، مصر تحديدًا، ومرة بحكم تشابه الأيديولوجيا لدى كل منهما فى العديد من الأمور، وأحيانًا بالعمالة المباشرة.
ولأننا فى مصر وفى العالم العربى لم نهتم بدراسة الداخل الإسرائيلى، ومن ثمّ دراسة أحوال عرب إسرائيل، لم نعرف ما يجرى هناك من الإسلاميين، هؤلاء بحكم الانتماء الأيديولوجى أعضاء فى التنظيم الدولى للإخوان، وهم فى نفس الوقت يحملون الجنسية الإسرائيلية.
ومعروف أن أفراد الحركة الإسلامية فى شمال إسرائيل يتطوعون فى جهاز الشرطة (الأمن) الإسرائيلى، هم مواطنون فى الدولة العبرية، لديهم جواز السفر الإسرائيلى، وهذا ما يسّر لهم حرية النشاط فى أوروبا، ويلتقون بأعضاء الجماعة هنا، وعادة الجلباب واللحية تخفيان جواز السفر والهوية الملتبسة، إنهم يحملون الجنسية منذ تأسيس الدولة العبرية، ويخدمون فى الشرطة والجيش منذ الخمسينيات، ولهم أسماء عربية إسلامية، يطلقون اللحى ويرتدون الجلباب القصير، وأيضًا يتبنون أفكار حسن البنا وسيد قطب.
والمؤكد أن إسرائيل فى مواقف كثيرة استخدمتهم، وقامت بتوظيفهم فى صراعها مع المشروع الفلسطينى والعربى.
السؤال الكبير الذى يبدو هنا: لماذا قررت الجماعة فى تل أبيب، وكذلك الحكومة الإسرائيلية، إسقاط «ورقة التوت» عن هذه العلاقة؟ ولماذا اختار الطرفان معًا، الصهيوإسلامى والصهيويهودى، أن تكون نقطة الكشف مقر السفارة المصرية فى تل أبيب، وليس أى مكان غيرها؟ لماذا الآن؟!
هناك نوع ومستوى من العلاقات يحرص أطرافها على أن تظل غير معلنة، لأن من مصلحة طرفيها، أو كل أطرافها، أن تظل سرية ومخفية، ذلك أنه فى العلن يمكن أن تكون العلاقة عدائية أو تبدو كذلك، ويستفيد كل طرف من ذلك المظهر العدائى.
من ذلك، الدول والأجهزة التى تعاملت سرًّا مع هتلر، رغم العداء المعلن مع النازية والنازى.
فضلًا عن بعض منظمات وهيئات المجتمع المدنى فى كثير من البلدان، تقوم بأدوار خفية مخابراتية وسياسية، لكنها فى العلن لابدّ أن تبدو بعيدة عمّا هو سياسى وما هو رسمى، وأن تبقى محايدة.
علاقة جماعة حسن البنا بالمخابرات البريطانية بدأت منذ لحظة التأسيس، حتى إن هناك من ينسب تأسيسها إلى المخابرات البريطانية ذاتها، ويرون أن حسن البنا فى بداياته كان ضعيفًا لا حول له، وأن الجماعة جُهزت وسُلّمت له ومع ذلك، ظلت هذه العلاقة سرية حتى سنة 1977، حين أعلنت الوثائق البريطانية التى مضى عليها نصف قرن، فتكشفت الأمور، ونطقت الوثائق بما كان شكوكًا وهواجس لدى البعض.
الآن، لماذا كشفت إسرائيل علاقتها بالجماعة؟ ولماذا أعلنت الجماعة بلا مواربة تلك العلاقة؟، واختارت مدينة تل أبيب لتكون مكان الإعلان؟!
منذ أن تأسست الجماعة، كان دورها فى الدوائر الغربية، بما فيها الدائرة الصهيونية والإسرائيلية، هو أن تكون بمثابة مصدر قلق وتهديد فقط للدول الوطنية والاتجاهات القومية والوطنية، تحدّ من قوتها وتهزّ صورتها، وتضايق الحكومات، ويمكن أن تزيح مسئولًا أزعج الدوائر الاستعمارية والصهيونية.
حين تنزعج بريطانيا من شعبية حزب الوفد وزعامته، يُطلقون عليه حسن أفندى البنا، مدرس الخط العربى، يهتف لصدقى باشا ضد النحاس.
ولما عُرف ذلك عن حسن البنا وجماعته، راح كل طرف يحاول استخدامه ويدفعون له، وكان هو يدرك ما يقوم به، فاستمرأ تلك اللعبة وذلك الدور، يهتف لهذا اليوم ولخصمه فى الغد.
فى سنة 1945، أغضب رئيس وزراء مصر أحمد ماهر باشا المنظمات الصهيونية، حين رفض تسليم قتلة لورد موين إلى لندن، وأصرّ على محاكمتهم وتنفيذ حكم الإعدام فى مصر، باعتبار أن الجريمة وقعت فى القاهرة.
كان «لورد موين» وزيرًا مفوضًا، أرسلته بريطانيا إلى فلسطين لتقصى الحقائق حول العنف بين المنظمات الصهيونية وأهل فلسطين، وبدا أن الرجل يتجه إلى الإنصاف، ويقر أن العنف مصدره المستوطنون الصهاينة، وأن العرب مجرد رد فعل.
اعتبرته قيادة المنظمات معاديًا للسامية ومنحازًا للفلسطينيين، وقرروا تصفيته، خارج فلسطين، فى حى الزمالك بالقاهرة!
ونجح البوليس المصرى فى الإمساك بالقتلة، وتمت محاكمتهم، وحُكم عليهم بالإعدام.
كان القتلة ينتمون إلى إحدى المنظمات المسلحة الصهيونية، بريطانيا كانت تود أن تتسلمهم، لكن أحمد ماهر اعتبرها مسألة تتصل بالسيادة المصرية.
ولما فشلت محاولات إقناعه والضغط عليه لتسليمهم، قررت المنظمة الصهيونية الانتقام منه، ومعاقبته، وهكذا أمر حسن البنا المحاسب الشاب محمود العيسوى باغتياله.
كان «العيسوى» عضوًا فى التنظيم المسلح للجماعة، لكن البنا زرعه فى صفوف الحزب الوطنى الجديد، بزعم أن ماهر كان سببًا فى سقوط البنا فى انتخابات سنة 1942 بالإسماعيلية، وهكذا تكررت عمليات الاغتيال.
اغتيال «النقراشى» سنة 1948، لأنه أعلن الحرب على إسرائيل، وأدار ظهره نهائيًّا لبريطانيا العظمى، ثم محاولة اغتيال عبدالناصر سنة 1954.
إلى هنا كان دور الجماعة هو إضعاف الحركة الوطنية، ومناوشة الحكومات، وتهديد المسئولين، ارتضت الجماعة ذلك الدور، وقبلت القيام بتلك المهام «القذرة»، واستفادت دوائر الغرب منها، تحارب الأنشطة الوطنية بما يحدّ من جموحها فى التعامل مع الغرب الاستعمارى، وتحارب الاتحاد السوفييتى تحت مسمى مقاومة الإلحاد والشيوعية.
بعد قيام الثورة الإيرانية، راحت الدوائر الغربية تعيد النظر إلى الجماعة، وإلى كل منظمات الإسلام السياسى فى المنطقة.
وبدلًا من أن يتوقف دورها على أن تناوش الأنظمة القومية والدولة الوطنية فى كل بلاد المنطقة، وتهاجم بضراوة الحكومات، وتعمل على إضعافها، تحوّل الدور إلى إسقاط الحكومات والأنظمة، وتحل هى محلها.
ترسخ ذلك الفهم أكثر بعد 11 سبتمبر 2001، ثم مهاجمة العراق سنة 2003.
ومع الاحتلال الأمريكى للعراق، ظهرت فكرة الشرق الأوسط الجديد.
الفكرة تهدف إلى إدماج إسرائيل فى المنطقة، وهذا يتطلب إسقاط وإزاحة الدول ذات الطابع القومى والوطنى، وإضعاف الاتجاهات الوطنية، لتحل محلها كوادر الجماعات المتأسلمة، وكلها خرجت من عباءة جماعة حسن البنا.
وهكذا، حين شكّل الحاكم الأمريكى للعراق «بول بريمر» الحكومة فى العراق عقب إسقاط صدام، كان فيها أربعة وزراء من حزب الدعوة (جماعة الإخوان).
ثم جاء باراك أوباما بعد بوش الابن، طوّر المشروع.
فكرة أوباما: أن تُسلَّم الدول بالكامل للجماعة، وليس فقط أن يكونوا جزءًا فاعلًا فى الحكم كما كان يريد بوش الابن.
وهذا أدخلنا إلى مرحلة ما يسمى «الربيع العربى»، ولم يكن الشارع العربى مخطئًا حين أطلق عليه «الربيع العبرى».
أول ما فعله «الربيع العبرى» أنه أسدل ستار النسيان تمامًا على القضية الفلسطينية، وراح يفتح قنوات تواصل مع إسرائيل، علاقة محمد مرسى وخيرت الشاطر مع شيمون بيريز نموذجًا.
لكن مشروع أو خطوة أوباما فشلت فشلًا ذريعًا.
وتبيّن أن الجماعة بلا كفاءة إدارية، فضلًا عن تعطش للتسلط والاستبداد، أما الفساد المالى فهو جزء أصيل فى تكوينهم.
وتبيّن أن الرأى العام فى مصر تحديدًا، كما فى معظم الدول العربية، يقبل أن يتم انتقاد زعيم وطنى، وإبداء ملاحظات على تجربة بعينها، لكن لا يمكن أن يقبل بخيانة الوطن، والتفريط فى مقدراته وحدوده.
وهو ما بدا واضحًا من سلوك هؤلاء فى الحكم، بعد أن دفعهم «الربيع العبرى» أو «ربيع أوباما» إلى سدة السلطة.
وهكذا، فشلوا فى مصر، ثم فى تونس، وفى ليبيا، والمغرب، والأردن، وغيرها وغيرها، وبدا أن دوائر الغرب تنفض يدها من هذا التيار كله.
لكن كان هناك شيء يُدبَّر فى الخفاء وتحت الأرض فى سوريا الشقيقة، يوم 8 ديسمبر 2024، حيث أُزيح نظام بشار الأسد، وسقطت دولة البعث بالكامل، لتُقام دولة جديدة، يترأسها قيادى سابق فى «تنظيم القاعدة»، ثم «داعش»، ثم ذهب إلى «إدلب»، محافظة فى شمال سوريا، واستقر بها، واستقل بها أيضًا سنة 2016 عن دولة بشار الأسد.
التجربة السورية لها ملابساتها شديدة الخصوصية، لكن الواضح أن التغيير فيها جرى بترتيب وتفاهم كامل بين الحكام الجدد وإسرائيل.
مفاده: أنه لا عداء مع إسرائيل، ولا مشاكل معها، بل سعى إلى علاقات ثنائية — هذا التعامل وتلك العلاقات بعيدًا عن المطالبة بتحرير الجولان.
لا مطالبة بالجولان، والتفاوض على المناطق التى تواجدت فيها القوات الإسرائيلية بعد 8 ديسمبر خارج الجولان.
والسيطرة الأمنية فى الجنوب السورى تكون لإسرائيل، وفتح باب التواصل بين دروز سوريا ودروز إسرائيل، وهو ما كان متوقفًا منذ سنة 1967.
لنتذكر حين كانت مصر تتفاوض لتحرير سيناء واستعادتها كاملة، تم اتهام السادات، كفّرته جماعة البنا وأهدرت دمه، واعتبرته خائنًا، وصاحوا «خيبر خيبر يا يهود».
والآن، تتفاوض سوريا مع إسرائيل، ليس من أجل استعادة الأرض المحتلة ولا استرداد الجولان، بل التفاوض للتنسيق الأمنى بين الجانبين، ووضع النقاط على الحروف فيما يخص أماكن تواجد الأمن السورى فى منطقة السويداء.
ومع هذا، تدافع الجماعة عن المفاوض السورى وعن موقف حكام سوريا، بمقولة إنهم يبنون دولتهم الجديدة، لا تثريب عليهم...
بالطبع، نتمنى الخير لسوريا الشقيقة، لكن رصد المواقف والتناقض مهم للغاية الآن.
الجماعة هى هى نفسها، لكن الموقف الآن، بتعبير عادل إمام: «كل شيء انكشف وبان».
باختصار، بات واضحًا لدى هذه الجماعات، أن شرط الوصول للحكم، ونيل رضا الغرب الكامل، والحصول على المشروعية منه، مرتبط بالتفاهم المعلن مع إسرائيل، وتقديم كافة التنازلات لها، بما فيها ترك مخازن سلاح الجيش السورى بالكامل، وضرب وحدته، دون حتى أن يصدر بيان احتجاج — لن نقول ردًّا، أو محاولة تجنب الضربة.
هنا هرولت جماعة حسن البنا سعيًا نحو تل أبيب، لينكشف المستور وتعلن عن نفسها بوضوح، أن الملاذ لهم إسرائيل وحكومة نتنياهو، وأن العدو هو مصر، القاهرة، فتظاهروا داخل تل أبيب ضد القاهرة.
لنحاول الآن بأثر رجعى تذكر المظاهرات التى أقامتها هذه الجماعات فى عدد من الدول العربية، ضد مصر، بدعوى معبر رفح.
هذه المظاهرات كلها كانت من خلفها الأصابع الإسرائيلية — حتى بعض قادة حماس الآن يرددون هذا الكلام.
لاحظ أن هؤلاء بالذات أفلتتهم إسرائيل وتركتهم عمدًا، سواء منهم من كان يعيش فى بيروت، واغتيل كل من حوله واستُثنى هو، أو ذلك الذى كان يتردد بين طهران والدوحة والقاهرة، ثم إنه يتحرك بحرية لأنه يتحرك على النغم الإسرائيلى.
هذا كله يثير الكثير من الشكوك.
قديمًا قال العرب: «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها»، لكن من ليست حرة، ولا تريد أن تكون حرة، وارتضت أن تكون جارية أو غانية فى سوق السياسة، فتأكل بكل شيء، حتى لو كان «رقصة استربتيز» فى تل أبيب.

