رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الإعلامية الفلسطينية منى عوكل: لحظة خروجى من غزة لا تفارقنى


31-7-2025 | 19:51

.

طباعة
حوار: دعاء رفعت

وسط أهوال القصف الإسرائيلي الوحشي على منطقة موراج جنوب قطاع غزة، كانت الإعلامية الفلسطينية منى عوكل تحمل ابنتيها تهرب بهما من الموت، في واحدة من أشد لحظات الحرب ضراوة، بعد أيام فقط من اندلاع حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على القطاع.

من بين جدران بيت يضم نحو 60 فلسطينيًا، كانت «عوكل» تخرج صباحًا إلى الميدان كمراسلة لقناة «القاهرة الإخبارية»، دون أن تدري إن كانت ستعود حيّة، وحين تعود - وقد كتب الله لها النجاة - كانت تحمل همًا آخر: كيف تطعم أطفالًا جائعين، وتقف إلى جانب ثماني عائلات نازحة جمعتها ظروف الحرب تحت سقف واحد.

لكن نجاتها من الموت لم تكن نهاية القصة. فمن قلب المعاناة، اختارت منى أن تواصل مهمتها، لا كأم فقط، بل كصوت لشعب، وراوية لوجع غزة. وبعد أكثر من عام على وصولها إلى القاهرة، لا تزال «عوكل» تؤمن بأن المرأة الفلسطينية قادرة على حمل الحقيقة، تمامًا كما تحمل أبناءها، وتقاوم بها.

 

في حديثها لـ«المصور»، أخبرتنا منى، أنها مراسلة قناة القاهرة الإخبارية من شمال قطاع غزة، وأنها عاصرت ما يقرب من ثلاثة أشهر من الحرب داخل غزة - تحديدًا قبل اقتحام إسرائيل لمنطقة رفح –ولكن بعد اندلاع الحرب اضطرت إلى النزوح والعيش في منطقة موراج. وبهذه الفترة كانت ترتحل من رفح إلى منطقة خان يونس يوميًا لمواصلة عملها، وعاشت كباقي الشعب الفلسطيني أوقات القصف والخوف والنزوح، وتعرضت أكثر من مرة لخطر الإصابة أو الاستشهاد، وفقدت العديد من أصدقائها قبل الخروج من القطاع إلى مصر. «أنا متزوجة وعندي توأم - فتاتان - ونزحت مع عائلتي إلى منطقة موراج مع حوالي 8 عائلات آخرين - أي ما يتراوح ما بين 60 إلى 70 شخصًا - يعيشون تحت سقف واحد وعشنا ظروفا صعبة، ففي الوقت الذي أخرج من البيت صباحًا وأنا لا أعرف ما سأواجهه اليوم، لم أكن أستطيع العودة إلى المنزل وأنا أحمل الخبز لعائلتي فقط، فلم أتحمل فكرة أن أطعم فتياتي وباقي الأطفال جوعى - فما أوفره لعائلتي كنت أوفره لكافة ساكني المنزل».

هل راودتك فكرة الاستشهاد وقت خروجك للعمل، وبأنكِ قد لا تعودين لأطفالك مرة أخرى؟ وكيف كان وقع تلك الفكرة عليك؟!

دوما ما كان يراودنى الشعور بالخوف عليهما أكثر من الخوف على نفسي، لأن الأماكن بعيدة عن بعضها البعض، ومع استمرار القصف وصعوبة الوصول إليهما كنت دائمًا أعيش مع لحظات الخوف، ولا يمكننى تحمل فكرة أننى بعيدة عنهما فى مثل هذه الأوقات. فى الوقت نفسه، أعلم أن عائلتى كانت تفكر فيما يمكن أن يحدث لى –فكان الجميع يجلس أمام الشاشة لأجل مشاهدتى والاطمئنان بأننى بخير ولم يصبنى مكروه: “بناتى طول النهار كانوا بيقرأوا القرآن الكريم ويدعوا بإنه أرجع”.

فى الحقيقة كان الأمر صعبا بالنسبة لي، وإذا حدث قصف لأى منطقة أو وصل أى شهداء إلى مشفى كنت أهرول للتأكد إذا كان من بين هؤلاء الشهداء أحد من عائلتى أو بناتي، وهو شعور مرعب للغاية، ولكن بالنهاية لم يكن هناك خيار، فهذا واجبى كأم وامرأة فلسطينية عليها توصيل الرسائل الإعلامية للعالم ونقل الصورة الحقيقية، وكان الأصعب هو شعورى بالتقصير حيال هذه المهمة الوطنية تجاه بلدى وشعبي.

هل شعرت فى أى وقت برغبة التوقف عن العمل والبقاء مع بناتك؟

أكيد لأ.. لم أفكر أبدًا فى التوقف عن العمل. كما أنه بالرغم من كل الخوف والقلق الذى عاشته عائلتى كان الجميع متقبلا فكرة أننى أؤدى رسالة مهمة لفلسطين، ودائمًا ما كنت أحصل على دعم كبير منهم. صحيح شعرت بالضعف فى أوقات معينة كأم وإنسانة، لكن لم أفكر بترك عملي. ومن أكثر اللحظات التى لا تفارق ذاكرتى هى لحظة من الضعف شعرت خلالها بالعجز، وكان يبدو عليَّ الإرهاق الشديد والألم، فجاءت ابنتى “صوفيا” وحدثتني: “ماما إنتى لازم تكونى أقوى من هذا” وحين جاوبتها بأن كل إنسان يأتى عليه الوقت ليشعر بالضعف، ردت: “بس إنتى لأ - لا يجب أن تكونى ضعيفة، لأن كلنا بناخد قوتنا منك”. ولهذا، كنت مجبرة أن أكون قوية ومتواجدة وأقوم بتأدية واجبى فى العمل والأهم ممارسة التفريغ النفسى لأطفالى وسط حالة الرعب التى يعيشونها جراء القصف المتواصل والخوف على الأهل والأصدقاء خاصة مع صعوبة التواصل وقطع الاتصالات أغلب ساعات اليوم.

أخبرينا عن ظروف خروجك من القطاع ووصولك إلى مصر؟

أنا خرجت مع عائلتى من القطاع - برفقة بناتى وزوجى ووالدتى ووالدي، وهو رجل سبعينى مريض بالقلب ويحتاج الرعاية الطبية المستمرة، ولكن مع بدء شح الموارد كان الحصول على الدواء مهمة صعبة خاصة وسط تلقى إنذارات الإخلاء والنزوح من المنطقة، وكان خيارى الوحيد آنذاك هو الانتقال من المنزل الذى كنت أمكث به مع العائلات الأخرى والذهاب إلى الخيام. فى ذلك الوقت كان الوضع يزداد خطورة، مع الاستهداف لخيام النازحين والقصف المتعمد لها، وهنا كنت مضطرة لاتخاذ قرار الخروج بعائلتى إلى مصر - وهو قرار صعب عليَّ - رغم أن أهل مصر رائعون، ورغم أننى حصلت على فرصة لاستكمال مهمتى الإعلامية، وحصلت على فرصة للخروج عبر شاشة القاهرة الإخبارية لأواصل نقل معاناة شعبي، إلا أن شعور أننى تركت بلدى -وخاصة فى وقت الحرب - شعور صعب ومؤلم.

وبالطبع التغطية بالميدان مختلفة عن الوجود خلف الشاشة، ولكن مصدر قوتى هى معرفة الأوضاع كونى عشتها بالفعل، كما أننى أعلم ما يدور بالداخل وعلى تواصل مستمر مع أهلى وأصدقائي، وهو ما يجعل التغطية الخاصة بى “مختلفة”. وأنا أعتبر هذا مصدر قوتى كإعلامية. وحقًا أنا كنت محظوظة حينما أعطتنى القاهرة الإخبارية الفرصة كمذيعة إيمانًا بقدرتى على إيصال هذه الرسالة بصوت الفلسطينيين وشعورهم.

برأيك هل ستُنجح سياسة التجويع غير الإنسانية مخطط التهجير للفلسطينيين من غزة؟

برأيى كسياسة تهجير لن تنجح، فحتى فى أحلك الظروف التى عاشها أهل القطاع - وأنا تحدثت إلى الكثيرين منهم - كانوا يخبروننى «لن نخرج من غزة مهما فعلت إسرائيل»، ومع ذلك لا يمكننا القول إن الأوضاع معقولة، فحينما تتحدثين إلى رجل ويبكى من شدة القهر لأنه لا يمكنه إطعام أطفاله فإن الوضع الآن هو “هروب من الموت” وبالتالي، حتى وإن فكر الناس بالخروج فهذا سبيل للحياة وليس للهجرة أو ترك الوطن. وأنا من البداية تحدثت عن استخدام إسرائيل لسياسة التجويع ضد الفلسطينيين لإجبارهم على الخروج لأى مكان لحماية حياة أطفالهم، فهى لن تستخدم القوة لإجبارهم على الخروج ولكنها ستدفعهم نحو البحث عن الحياة.

هل تختلف رسالتك كأمّ فلسطينية تعمل بمجال الإعلام؟ وما هى أصعب اللحظات التى مرت عليك حتى الآن؟

تختلف رسالتى كأم لأنه بالوقت الذى تحاول إسرائيل محو وجود الشعب الفلسطينى فإن رسالتى متعددة، ما بين إيصال رسالة فلسطين إلى العالم والحفاظ كأم على هوية أطفالى داخل وخارج الوطن، فأنا كأم فلسطينية أحمل رسالة سامية يجب توصيلها بكل اللغات، وأهم اللغات هى لغتى كأم إلى أطفالى.

من أصعب اللحظات التى عشتها هى تلقى أوامر إخلاء من منزلى -وكنت أنا على الهواء- ولا أعرف كيف أتصرف وإلى أين سأذهب بعائلتي، وحين تركت منزلى كان شعور - بأننى لن أعود - قاسيا للغاية، كما أن لحظة خروجى من غزة لا تفارقنى وتؤلمنى كثيرًا. ومن أكثر اللحظات التى أشعرتنى بالعجز وقت انقطاع الموارد والمساعدات والاتصالات، فكنت أشعر بأنه لا يمكننى فعل شيء، لا يمكننى التواصل وطلب الإغاثة، كما لم أكن أستطيع التواصل مع القناة “كل شيء توقف حتى رسالتى الإعلامية”، وكانت من أكثر اللحظات المؤلمة التى مرت عليَّ داخل غزة.

الاكثر قراءة