رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

حصريا .. حوار نادر للزعيم الراحل جمال عبد الناصر مع الكاتب الكبير فكرى أباظة رئيس تحرير مجلة المصور عام 1957


23-7-2025 | 20:44

فكرى أباظة يستمع للرئيس عبدالناصر

طباعة
بقلـم: فكرى أباظة

وليس عجيبا أن يكون هذا الرجل لغزا، ألم يعمل عدة سنوات فى صفوف الجيش منقِبا، باحثا، دارسا، فى صمت وصبر عنيف، وسيكون عجيبا كما يفعل الباحثون عن الآثار حتى إذا استوى بحثه ونضج رفع الحجاب عن الثورة الخطيرة وأعلنها وفاجأ بها الناس فى العالم طرا؟!

يحتاج الباحث وراء هذا اللغز إلى بعض هذا الوقت الطويل لترجمة هذا الطلسم ومعرفته على حقيقته..

هو نفسه يعترف بأنه «لغز» !

إلا أننى استطعت بعد سنوات ثلاث أن أحل هذا اللغز، وأن اكشف رموزه وطلاسمه، بعد اتصال وحديث متواصل من يوم أن قامت الثورة إلى اليوم...

ضرائب على طبائع الحكام

إن الرجل الذى تدرب على ذلك الأسلوب فى ذلك الزمان الطويل لم يتكلف ولم يتصنع وإنما تطبع! وهو يضيف إلى ذلك قوله: «إن فى سليقته وغريزته نزعة إلى البعد عن الناس وإلى تفادى الاختلاط نفسه وعلى واجبه الفادح ليؤديه أكمل الأداء»...

وله دفاعه، أوله اعترافه، ولكن المقدرين لكفايته وأهليته طالما أسمعوه بأن الشرق موطن المجاملات والزيارات والاتصالات وأن مصر قلب الشرق وزعيمة هذا «التقليد العاطفي» فى كل الظروف وخصوصا إذا قضت «رياسة دولة وأمة» أن يكون الحاكم قريبا إلى كل راغب فى القرب منه، متلهف عليه فى مناحى الشكوى أو الرجاء أو المصلحة العامة أو النفاق!.

هكذا تفرض «مصلحة الضرائب العامة» ضرائبها على طبائع «الحكام» وغرائزهم وفلسفتهم رضوا أو لم يرضوا! هكذا تفرض «مصلحة الضرائب العامة» ضريبتها على «الحكام» وتقتضيهم أن يمثلوا على مسرح أو على شاشة بيضاء فيبتسمون فى غير ما داع إلى الابتسام! ويقبلون فى غير ما داع إلى القبلات! ويزارون ويزورون فى غير ما داع إلى تبادل الزيارات! ويحملون أعباء هذه المجاملات ولو ضحوا فى سبيلها أكداس أقدس الواجبات!.

الحائل.. بيننا وبينه

يشترى الحكام فى الشرق محبة الطوائف والجماهير بالثمن الفادح ولو كان ذلك الثمن على حساب المصلحة العامة!.

ومع ذلك، فإن المصلحة العامة تقول فى نهاية الامر: «لابد مما ليس منه بد! «وما باليد حيلة « لا يكفى – أبدا فى الشرق- أن تكون حاكما مثاليا وبينك وبين دلال الناس حائل!.

والواقع أن هذا المنطق على غرابته صحيح لقد قال لى كثيرون من المقدرين لهذا الرجل إننا نحبه ونحب أن نراه، ولكن : الحائل ! الحائل ! ما هو ذلك الحائل؟ هذا هو الذى حارت البرية فيه؟!.

نعم ...

أنا نفسى كنت أحس أن هذا «الحائل» يتراءى لى فى كل مقابلة عابرة وكنت أسائل نفسى: أهى خشية؟ أم عدم طمأنينة؟ أم وهم؟ أم لجرح شخصى أصابنى فلون شعورى بلون غير لون الرجل؟ قد يكون بعض هذا أو كله صحيح ومن منا لم تصبه الثورة فى شخصه، أو فى أقاربه، أو فى ماله، أو فى حزبه أو فى رتبته... أو فى مكانته؟.

من منا ؟! السياسيون الحزبيون؟ أصحاب الطين؟ أصحاب المؤسسات والشركات؟ أرباب الرتب؟ الموظفون؟ من منا؟!

ولكن ...

أيها الإنصاف تكلم! انطق! اذا اجتاحت ضرورات الثورة هذا كله، أو بعض هذا، عادلة أو نصف عادلة، أو على أسوأ تقدير ظالمة بحسن نية فهل يجب أن تسمو المصلحة العامة على كل هذه الاعتبارات فترتفع إلى القمة؟ أم تتدحرج إلى سفح الجبل؟

هذا هو الحائل قد يكون منه، وقد يكون منا، وقد يكون من كلينا فما الذى يزيله ويطارده ويطرده؟

الاتصال – المناجاة- الإفضاء- التفاهم- المعرفة الحقة لا معرفة الأشباح والخيالات والأوهام فإذا قال الحاكم: «لا أجيد هذه المهنة ولا أحذقها» قال المحكوم: «وأين لنا منك؟ وأنى؟ ومتى؟» هذه هى المشكلة.

عرفته بعد 3أعوام!

أول مقابلاتى له كانت فى مؤتمرات صحفية محدودة دهشت! كانت أحاديثه صريحة، وكان ناعما متواضعا، يقبل النقد عن سعة صدر، ويسلم به أن كان صادقا وبريئا.

وفى صيف العام الماضى بعد عودتى من أوروبا دعيت لتناول الشاى فى مسكنه المتواضع، ومعى خمسة من كبار الساسة، وحضر الاجتماع زملاؤه، وكان الموضوع بحث «العرض الإنجليزي» إذ ذاك دهشت! كان يثير مسائل فى غاية الدقة ولا يتدخل إلا عندما تتهيأ له الفرصة فى الأخذ بتلابيبنا واقتناص الخطأ فيما نبديه من الآراء بكل رقة وبكل أدب جم!

أهذا هو الرجل المخيف؟ الرهيب؟ اللغز! لا والله.

إلى أن استأنست إليه، وطاردت وطردت أشباحى وأوهامى وهواجسي، وفى جلستين طويلتين فى عزلة تامة، عرفت أن أعدى أعداء هذا الرجل هو أنه لم يعرف كيف يعرفه الناس فلم يعرفهم ولم يتعرف إليهم!

قلت له: «كن على ثقة بأن أعنف خصومكم لا يرضى عن حكمكم بديلا، لسبب واحد- على أسوأ تقدير- وهو أنه لا بديل! ولانكم هكذا هدمتم؟ وأزلتم الأنقاض؟ وشيدتم؟ وحللتم أفدح القضايا السياسية الكبرى؟ فطوقت المسئولية الفادحة أعناقكم ومن –غيركم- يرضى أن يقع فى الفخ ويتورط؟.

فى هاتين الجلستين الطويلتين عرفت الرجل على حقيقته بعد ثلاثة أعوام! وحللت «اللغز»!

الاتصال بالناس

شجعنى ظرفه على أن أطالبه بأن يتصل بالناس، وقلت له فى صراحة: «أخذتم من «الإقطاعيين» أطيانهم للمصلحة العامة فماذا فعلوا؟ لم يفعلوا شيئاً! سلكوا سلوك المواطن فلم يعكروا صفو الثورة ولم يضعوا فى سبيلها العراقيل.

وأطحتم بالسياسيين وبالحزبيين المسئولين فى سبيل المصلحة العامة، فرضوا بحكمكم أو بحكم القدر ولم يفعلوا شيئاً...

وطهرتم الوظائف ممن وقع عليهم حكم القانون فلم يفعلوا شيئاً.

وهكذا وهكذا.

هؤلاء وأولئك تقتضى وظيفة «الحاكم» أن يضمد جروحهم ولو بكلمة. ولو بمقابلة. ولو بالاستماع إلى ما فى نفوسهم: تظلما؟ أو استدراكا؟ أو إيضاحا- أو مساهمة فى الواجب العام.

وغير أولئك وهؤلاء آخرون لم تمسهم الثورة ولكنها أقصتهم وتجاهلتهم وكأنهم ليسوا من أبناء البلد وليسوا من ذوى المصلحة المعنوية أو المادية فيها .

خطوة – لفتة – مقابلة... تحدث أثرها فى النفوس وتجذب إليكم الأنصار من كل ميدان وقد ألجأكم الإصلاح إلى العراك فى كل ميدان.

استمع الرجل إلى كلامى وأستطيع أن أحكم بأنه لم يجاملنى بالسكوت، وبالتفكير، بل ربما تسلل الرأى إلى حكمته فطوته على أن تبسطه و«تفرج عنه» يوما من الأيام.

الديكتاتور!

قال سيادته وكأنه يغمزنى بالذات: «الديكتاتور الصالح أصلح رجال الحكم. قرأنا هذا فى كتب الفقه اليس كذلك؟».

قلت: «نعم».

قال: «وقرأت لك بالذات دعوة حارة منذ سنين إلى «الديكتاتورية الصالحة»، أليس كذلك؟

قلت:«نعم».

قال: «ما رأيك فى انى لا أصلح ديكتاتورا! لا أصلح مطلقا أولا: لأننى ديمقراطى بطبعى- وثانيا: لأن الثورة ثورة ديمقراطية، ولو انحرفت عن هذا الهدف لكتب الله لها الفشل! وثالثا: لأننا جربنا الديكتاتورية الفردية والديكتاتورية البرلمانية، فكانت الكوارث وكان الفساد»!.

قلت هاتفا: «يا للبشرى! وإذن متى تتم رسالتك»؟.

قال: «هذا هو ما أبحثه بإمعان ولكنكم لا تكتبون ولا تعاونون ولا تقترحون كأن البلد ليس بلدكم!».

فهمست فى أذنه بردى وأخذ يسألنى ويستجوبنى عن بعض الأوضاع الدستورية والحزبية التى يجوز لكل مخلص شجاع أن يقوم بها دعائم السلطات الثلاث بحيث لا تطغى إحداها على الأخرى وبحيث لا تتجمع السلطة فى يد واحدة وراء «برفان كاذب» من الديمقراطية التى هى على آخر طراز وكلها مغالطات!

وربما حان حين نشر هذه الآراء إن لم ير أن ينشرها هو قبل أن ننشرها نحن.

الشدة واللين

وأخذنا نحلل نفسية «الشعب» المترنحة بين السخط على الجرائم وبين الأسف على العقاب فكان الحديث طريفا لأن الشعب المصرى العاطفى تتأثر حواسه كل ساعة، وهو أميل بطيبة قلبه إلى الحنان مهما ارتطم مع المصلحة العامة!

والعجيب فى أمر الرجل الذى صوروه بالجبروت والقسوة لأنهم لم يعرفوه. العجيب فى أمره أنه – هو أيضاً- كان كالشعب فى سخطه على الجريمة وأسفه على العقاب!

وكأن «حزم الحاكم» كان يتعارك مع «حنان الحاكم» فى داخلية نفسه فتؤرقه المعركة كما أرقت غيره من غير المسئولين...

وجرنا الحديث إلى «الشدة» و «اللين» فقال «أخشى ما أخشاه أننا إذا اتجهنا إلى الشدة استدعت الشدة شدة وليس لها آخر! وإذا انحرفنا إلى اللين استبيح «الاستليان» وهو شبيه الضعف!

وإذا توسطنا بين الشدة واللين كنا مترنحين ومترددين.

قلت: «وما العمل ؟».

قال: «لا تتعجل دع ذلك للظروف».

الجيش والسياسة

وأنا من أحباب الجيش، بل ربما كانت هذه المجلة من زمن طويل لسان حاله! وقد ساورنى خيال فأقلقنى هذا الخيال هو أن رجال الثورة أو أقطاب الجيش قد انغمروا فى لجج السياسة، وأمواج الإصلاح والتعمير، وتيارات الحكم فخشيت أن يكونوا قد خلفوا وراءهم «فراغا» فى الجيش!

وعبرت عن هواجسى فقال: «التهم من الاطمئنان كل ما تستطيع أن تلتهم! الجيش يظفر بأكثر العناية وأبلغ الثقة وقد شهدت المناورات الأخيرة وعرفت أن كل همنا منصرف إلى الجيش، ولست صحفيا مثلك فأبالغ وأقول إنه قد طفر طفرة قد تكون معجزة».

الإخوان والأصدقاء

واستغرق الحديث ساعات ثلاث برز فيها حديث هؤلاء الإخوان والأصدقاء جنوبا وشرقا وغربا وشمالا، فأفرغت كل هواجسى ومعلوماتى وكأننى قد طرقت ناحية من نواحى الأسى والألم فى قلبه فأخذ يتسدرجنى إلى ما اعتبرته «متاعب» من هؤلاء الإخوان والأصدقاء فى الجنوب والشمال والشرق والغرب، وإلى ما اعتبرته تارة تجنيا، وتارة جحودا، وتارة دلالا، وحينا عدم تعاون، وأحيانا خذلانا...

ولا أدرى أصدق كل ما قلته أو بعضه؟، أم لم يصدق ولكنى لمحت رتلا من «الكآبات» قد ارتسمت على ملامحه ولم يفه بشىء، وعاودته غريزة الحذر والكتمان فخرجت من الموضوع وقد وجب على أن أترجم على حسابى وعلى مسئوليتى.

ذو الأعصاب الحديدية

هل يستطيع كاتب أن يحصى واجبات هذا المسئول الأول عن الحكم فى تلك المرحلة المليئة بأفدح الأعباء؟

محال.

العجيب أننى عرفت أنه يقرأ كل ما كتبناه ونكتبه ويقتطع السلخ ويدون عليها الملاحظات، وأنه يقرأ كل تحقيقات المحاكمات الجارية، وكل تقارير لجان الدستور، وكل التقارير الواردة من الخارج، وكل ما لا يتخيله المتخيل.

وهكذا لم تترك واجباته العامة لحظة لواجباته الخاصة حتى فى نهاره وليله وأوقات راحته وقد حذرته وأنذرته ولكن الرجل «ذا الأعصاب الحديدية» لا يأبه للتحذير والإنذار فقد وهب كيانه كله لمهمته ورسالته وقد اكتفيت منه بهذا القدر ولم ألمح مرة واحدة أنه تجنب المصارحة والإفضاء، ومواجهة الحقائق بمرها وحلوها إلى أن وجب أن تحين ساعة الانصراف.

فخرجت وأنا أقول: يا للظلم! لقد عرفت الرجل وحللت «اللغز»!.

 

نشر فى أول أغسطس 1957

    كلمات البحث
  • صفوف
  • الجيش
  • رفع
  • الحجاب
  • الثورة

أخبار الساعة

الاكثر قراءة