الفضاء الإلكترونى الواسع الذى نعيش زمنه حاليا جعل الكثيرين لا يحسنون استخدام مساحة الحرية اللانهائية التى توفرها لهم مواقع التواصل الاجتماعى دون حسيب أو رقيب، حتى بات كل شيء مستباحًا، لا سيما فيما يتعلق بحياة المشاهير، دون أدنى حد من مراعاة مشاعر هؤلاء، وأية خصوصية لهم، وكأن هؤلاء المتربصين قد نصبوا أنفسهم أوصياء على الناس يحاسبونهم، ويتنمرون عليهم، ويبحثون فى نفوسهم غير السوية عن تفسيرات وتأويلات، ترضى دواخلهم الفارغة.
قبل سنوات كان مصورو الباباراتزى يقتحمون حياة المشاهير ويستبيحون خصوصياتهم، ورغم أننا لا أخلاقيا ولا مهنيا كنا نستسيغ ما يفعله هؤلاء، لكنها كانت فى النهاية مهنة عدد محدود من المصورين يعانون كثيرا فى التقاط صورة أو الحصول على سبق، أما اليوم فقد أصبح الباباراتزى بالملايين بالكلمة والصورة عبر لوحات المفاتيح، وما أكثرها!، بات ذاك أمرا سهلا لا يحتاج إلى مشقة أو عناء، تحول هؤلاء إلى متلصصين ورقباء لا يكتفون أحيانا بتسجيل الحدث، وإنما يسمحون لأنفسهم بالتعقيب الجارح والمؤلم، كما لو كانوا يتلذذون بالإساءة إلى المشاهير، فى ظاهرة مرضية تحتاج من المتخصصين إلى دراسات نفسية واجتماعية مستفيضة ومتأنية.
وما حدث مؤخرا لأسرة الفنان الكبير عادل إمام هو أكبر دليل على هذا الانهيار الأخلاقى الذى يشهده مجتمع «فيسبوك» و«إنستجرام» وما هو على شاكلتهما، هل أجرم الشقيقان رامى ومحمد عادل إمام حينما فعلا مثل الملايين غيرهما وقاما بنشر صورة عائلية على الفيسبوك ضمت الزعيم مع العروسين وأسرتيهما فى حفل عقد قران حفيده الأكبر عادل إمام الصغير؟ أليس هذا حقا طبيعيا لهذه الأسرة التى كانت تعبر عن فرحتها فى تلك الليلة؟ لماذا يعطى الآخرون لأنفسهم حقوقا ويضنون بها على غيرهم؟ هل ذنب عادل إمام أنه مشهور فوق العادة؟ هل يستكثرون عليه وحدته وهدوء حياته بعد أن أمتعهم بفنه قرابة الخمسة والستين عاما؟ لماذا لا يقبلون اختياره ويحترمون قراره؟ لماذا كل هذا التربص برجل لم يبخل على جمهوره بالضحكة الراقية والمتعة النبيلة؟ لماذا كل هذا التشفى فى نجم اختار وهو فى الخامسة والثمانين البحث عن الدعة والهدوء وسط أهله وأسرته الذين حُرموا منه وحُرم منهم طوال سنين طويلة بفعل انشغاله بأعماله الفنية؟ لماذا كل هذا الخيال المريض الذى وصل إلى حد العبث بالسخف حين شطح خيالهم إلى أنها صورة بالذكاء الاصطناعى، وأن زوجة الزعيم قد أغلقت عليه غرفته ووضعت أمامه شاشة كبيرة يشاهد من خلالها حفل زفاف حفيده حتى تحجبه عن الناس؟ بل وصل بأحدهم إلى التخريف بأن عادل إمام قد مات منذ خمس أو ست سنوات، وأن مَن ظهر فى مسلسله التليفزيونى الأخير «فالنتينو» عام 2020 ما هو إلا خداع الذكاء الاصطناعى، إنه الغباء الطبيعى بعينه وسوء النوايا والرغبة الجامحة والمريضة فى ركوب التريند -لعنه الله.
ورغم ما ساء عادل إمام وأحزن أسرته، فإنك لا تجد أحدًا منهم قد علّق على كل ما يحدث، والذى علمته أن عادل إمام نفسه هو الذى طلب من أسرته عدم الرد أو التعقيب على كل تلك التجاوزات والسخافات، مؤكدا أنه اعتاد على عدم الرد على كل الشائعات التى أماتته عشرات المرات فى السنوات الأخيرة، فمن باب أولى الصمت حيال هذا العبث الذى يشهده الفضاء الإلكترونى منذ نشر صورة عقد القران، وهذا الموقف ذكّرنى بحوار دار بينى بين عادل إمام وقت أن كنت رئيسًا لتحرير مجلة الكواكب قبل سنوات حين أجابنى عن كثير من القضايا العامة التى كانت مثارة فى حينها، لكنه سكت عن الكلام المباح حين أتى الحديث على الشائعات الخاصة فى حياته، فلما سألته: لماذا؟، قال إنه شخصية عامة له رأى وموقف فى كل قضايا وطنه ومواطنى بلده، ويحب بل ويجب أن يعبر عنه، أما عادل إمام الإنسان فهو ملك له وحده ولأسرته، وكفى أنه يحب تلك الأسرة ويقدس خصوصياتها، ولذلك فهو لا يرد على أى شائعة ويترك نيرانها تخمد من تلقاء نفسها تاركا مَن أطلقها فى حسرة، فهو لا يعنيه إلا مَن يتوجه لهم بفنه ويرسم البسمة على وجوههم.
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الكبير: ما الفارق إذن بين مَن أسعدهم ظهور عادل إمام فى صورة بعد غياب طويل، وبين مَن أضناهم أن يفرح الرجل مع أسرته فى حفل عقد قران حفيده؟ الفارق فى رأيى هو الفارق بين مَن هم يتمتعون بنقاء السريرة وبين مَن أصاب قلوبهم مرض، بين بشر أسوياء يحبون الخير لغيرهم، وبين آخرين يرون أنفسهم فوق الجميع ولهم الحق فى الرقابة والمحاسبة والحكم بل والجلد أيضا، هو الفارق بين مَن أفسحوا فى قلوبهم مجرى لنهر من الحب، وبين مَن سدوا فى نفوسهم كل مسام الحق والخير والجمال، هو فارق بين مَن يبحثون عن الاستمتاع بالحياة رغم كل مصاعبها، وبين مَن يستكثرون على غيرهم أى متعة أو لحظة سعادة، وهؤلاء تنطبق عليهم النكتة المريرة التى تقول إن رجلين تاها فى الصحراء وانقطعت أمامهما كل سبل العودة، وبينما هما على شفير الموت ظهر لهما حارس مصباح علاء الدين، وطلب أن يتمنى عليه كل منهما أمنية يحققها له فى الحال، فطلب الأول أن يعود إلى أهله فورا، فحقق له الحارس أمنيته، فلما جاء الدور على الثانى طلب من حارس المصباح أن يعيد إليه صديقه بدلا من أن يرجع هو أيضا إلى أسرته، الأول أراد الحياة، والآخر لم يرِد لا لنفسه ولا لصديقه تلك الحياة.. هؤلاء بالفعل هم مرضى القلوب مَن قال الله تعالى فيهم: «فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا»، صدق الله العظيم.