«محمد كمال إسماعيل، وعبدالرحمن مخلوف، وسيد كريم، وسعيد بركات»، هؤلاء من المهندسين المعماريين المصريين وغيرهم الكثير، كان لهم شرف التخطيط والإشراف على توسعة الحرمين الشريفين فى العصر الحديث، خصوصا التوسعة الكبرى التى جرت فى عهد الملك فهد بن عبدالعزيز، أول من تخلى عن لقب «صاحب الجلالة»، وتلقب بـ«خادم الحرمين»، هؤلاء المعماريون ربما لا يعرفهم بعض المصريين للأسف الشديد، ولكنهم على الصعيد العالمى معروفون بالاسم والتاريخ والخبرة والمهنية، وكان الاستثناء الوحيد الذى نجا من الإهمال والنسيان هو المعمارى الكبير حسن فتحى الذى نال شهرة دولية ومحلية فى آن واحد. وفى هذا نتوقف عند اسمين كبيرين طواهما النسيان رغم جهودهما الجبارة، وتاريخهما المشرف عربيا ودوليا .
ونبدأ هنا مع شيخ المعماريين المصريين المهندس محمد كمال إسماعيل، والذى رحل وهو يقترب من عمر المائة سنة، أحد الذين شاركوا فى بناء أغلب مساجد مصر، كما شارك فى بناء دار القضاء العالي، وكذلك مجمع التحرير، وكان ذلك عندما طلب منه عثمان محرم باشا بناء مبنى واحد يجمع كل المكاتب الحكومية معا، وقد صمم المبنى وبناه على شكل قوس مفتوح فحدد الشكل الدائرى لميدان التحرير.
وعندما طلبه الملك فهد بن عبدالعزيز، واختاره لتوسعة الحرمين قام بإعجاز هندسى غير مسبوق، وطبعت تجربته تلك فى مجلدين فاخرين تناولا الإعجاز الهندسى لتوسعة الحرمين، وطبعا وبيعا فى بريطانيا بمبلغ 12 ألف جنيه استرليني، المعضلة الهندسية التى واجهته هى كيف يقيم مبنى مغلقا تماما من أجل تكييف هواء الحرمين، ثم يكون هذا المبنى مفتوحا للهواء والضوء، وخروج ودخول مليون مصل يوميا خمس مرات فى الحرم الواحد، المكى والنبوي، فضلا عن رغبة هؤلاء المصلين فى رؤية السماء وهم يدعون ربهم فى صلواتهم وطوافهم حول الكعبة؟!
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل سرعان ما ظهرت معضلة ثانية، وهى كيف تتم عمليات الهدم والبناء وتوصيل الخدمات كلها من ماء وكهرباء وصرف صحى وتكييف وصوت، كيف يتم هذا كله مع حفر الأنفاق، ووجود مئات الأوناش وآلاف العمال، وفى نفس الوقت تتم تأدية الصلوات الخمس على مدار اليوم، ولم يتوقف الطواف حول الكعبة يوما؟، من هنا ابتكر المهندس محمد إسماعيل فكرة «القباب» التى تفتح وتغلق أوتوماتيكيا، وزن القبة الواحدة 80 طنا، ولها جهاز كمبيوتر يتحكم فيها، ويمكن أن تفتح يدويا فى ساعة كاملة، على أن يقوم بهذه العملية عشرة رجال أشداء، وابتكر بهذه الفكرة المظلات التى تفتح وتغلق، وصممها، ونفذتها ألمانيا، وهى تربط صحن المسجد بالتوسعة القديمة والجديدة .
كما استخدم «إسماعيل» نوعا نادرا من الرخام لم يعد له وجود فى العالم، واسمه «تاسوس»، وله خاصية الاحتفاظ بالبرودة ليلا، وإشعاعها نهارا، وهذا هو الرخام البارد الذى يشعر به الزوار من حجاج ومعتمرين رغم أن حرارة الجو قد تكون فوق الأربعين درجة مئوية، وتحت الحرم النبوى أربعة طوابق يصل عمقها إلى أربعين مترا، وهى تحتوى على مواقف لعدد ثلاثة آلاف سيارة، وبها ثلاثة آلاف دورة مياه، وبها أنابيب التكييف، وحجم الأنبوب الواحد يسع سيارة نقل ضخمة بمقطورة لتسير فيها، وبتلك الطوابق 2500 شخص يعملون تحت الأرض ويقومون بخدمة المصلين، فضلا عن غرف التحكم والمراقبة والسيطرة، وشاركت أكثر من أربعين دولة فى تصنيع كل ما يلزم لعمارة الحرمين الشريفين، بدءا من أمريكا والدول الأوروبية حتى الدول العربية والإسلامية.
يذكر أن الملك فهد بن عبدالعزيز اختار المهندس محمد إسماعيل بعد أن اطلع على موسوعة مجلدات مساجد مصر، وهى الموسوعة التى طبعت فى أوروبا فى الأربعينيات، وهى الموسوعة التى شهدت وجوها من الإعجاز، وقد شهد الحرم النبوى الشريف إضافة 95 ألف متر كتوسعة بحيث أصبحت مساحة الحرم تعادل مساحة المدينة المنورة قديما، وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفى القول إن جهاز التكييف فى الحرم النبوى بقوة 55 ألف طن، مع أن أكبر جهاز تكييف فى العالم كان يوجد فى برجى التجارة فى نيويورك قبل انهيارهما، وكانت قوته 25 ألف طن فقط .
وحين سئل «إسماعيل» عن أمنيته الأخيرة بعد أن أنجز عمله التاريخي، قال : إنه يتمنى أن يعيش خادما فى المسجد النبوى لينظفه ويعتنى به ويخدم زوار النبى صلى الله عليه وسلم. ورحل الرجل سنة 2008.
مخلوف.. خبير التخطيط
أما د. عبد الرحمن مخلوف، نجل مفتى مصر الأسبق حسنين مخلوف، وحفيد أول عضو لهيئة كبار العلماء الشيخ محمد حسنين مخلوف، ففى سنة 1959م طلبت السعودية من الأمم المتحدة تزويدها بخبير تخطيط مدن بشرط أن يكون مسلما، وذلك لتخطيط بعض مدنها، فتم تكليف «د. مخلوف» بهذه المهمة، وبقى فى السعودية حتى سنة 1963م فقام بإنشاء جهاز تخطيط المدن، وأنجز مشروعات التخطيط العمرانى فى كل من مكة والمدينة وجدة وينبع وجيزان، وكان محل تكريم من ملوك وأمراء السعودية، وذلك قبل أن يعود أستاذا فى جامعة القاهرة سنة 1964م، وقدم مخططا للقاهرة الكبرى، وعين أستاذا لتخطيط المدن سنة 1965م، وأعد المخططات العمرانية للقاهرة، والعبور والعريش وغيرها .
بعد ذلك، نُدب «مخلوف» من هيئة الأمم المتحدة للعمل كخبير فى الإمارات عام 1968م، بطلب رسمى من الراحل الشيخ زايد بن سلطان حاكم أبو ظبى آنذاك، وبعد انتهاء مهمته عينه الشيخ زايد مديرا لتخطيط المدن فى أبو ظبي، فخطط «أبو ظبى» و»العين»، فى مهمة استمرت لسبع سنوات، وأسس المكتب العربى للتخطيط والعمارة سنة 1976م، وكرمته «أبو ظبى» بمنحه تكريما مستحقا، سنة 2010م، وحين رحل عن عمر 97 سنة تقدم لنعيه كبار مسئولى الإمارات وغيرها لنبوغه وإخلاصه.
كريم.. معمارى فنان
والمعمارى الثالث المتميز هو المهندس سيد كريم، عمدة حى المعادي، كما كان يعرفه أصحابه، وكانت أم كلثوم وغيرها من جلساء صالونه العامر بالأدب والعلم والفن، ولد سيد كريم فى المنوفية سنة 1911م، وهو من حفدة البطل المجاهد حاكم الإسكندرية محمد كريم، والذى أعدمه نابليون لقيادته المقاومة الشعبية ضد الحملة الفرنسية، تخرج سيد كريم فى مدرسة الهندسة الملكية سنة 1932م، ويترقى فى المناصب، ويتولى رئاسة تحرير مجلة العمارة والفنون بين أعوام 1939م و1960م، وساهم فى تخطيط مدينة دمشق الجديدة نهاية الأربعينيات، ومشروع تخطيط مدينة الرياض سنة 1950م، ومشروعات أخرى للتخطيط فى كل من مكة والمدينة المنورة وعمان فى الخمسينيات، فضلا عن دوره البارز فى تخطيط وإعادة تعمير بورسعيد عقب العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956م، ويرحل «كريم» سنة 2005م، ويواصل ابنه مسيرته الناجحة .
