تزامنًا مع تحذيرات الأمم المتحدة بتفاقم الأزمة الإنسانية بشكل غير مسبوق فى قطاع غزة فى ظل القصف المتواصل ومنع دخول المساعدات، ازداد الضغط الشعبى على حكومات دول القارة العجوز لتبنى موقف أكثر حزمًا تجاه ما ترتكبه إسرائيل من «إبادة جماعية»، ما دفع زعماء المملكة المتحدة وفرنسا وكندا إلى التعهد فى بيان مشترك باتخاذ «إجراءات ملموسة» إذا لم توقف إسرائيل الهجوم العسكرى المتجدد وترفع قيودها على المساعدات الإنسانية بشكل كبير. هذا التغير فى اللهجة الأوروبية يعكس أنه لم يعد بإمكان الغرب الصمت على استمرار التصعيد العسكرى فى قطاع غزة وغضّ الطرف عن الانتهاك الواضح للقانون الدولى الإنساني.
وفى خطوة دبلوماسية مهمة، استدعت الحكومة البريطانية السفيرة الإسرائيلية تسيبى حوتوفلى على خلفية توسع العمليات العسكرية فى قطاع غزة. وأعلنت تعليق المفاوضات الجارية بشأن اتفاقية تجارة حرة جديدة مع إسرائيل، وفرض عقوبات جديدة على مستوطنين فى الضفة الغربية.
كذلك تعهدت بريطانيا بتقديم 4 ملايين جنيه إسترلينى (5.37 مليون دولار) مساعدات إنسانية لغزة، بالتزامن مع زيارة وزيرة التنمية جينى تشابمان لإسرائيل والأراضى الفلسطينية المحتلة. وخلال اتصال هاتفى بين الرئيس عبد الفتاح السيسى ورئيس الوزراء البريطانى كير ستارمر، ثمَّن الرئيس السيسى الموقف البريطانى الإيجابى تجاه تطورات القضية الفلسطينية.
وعن أسباب تحول الموقف البريطانى، قال الدكتور عادل درويش، صحفى معتمد فى مجلس العموم البريطانى، فى تصريحات لـ«المصور»، إن السياسة البريطانية تتميز عن السياسة الأمريكية وغيرها من السياسات الأوروبية بأنها سياسة هادئة. فى العلن، تتبنى موقف حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها؛ لكن وراء الأبواب المغلقة، تُمارس ضغوطا على الجانب الإسرائيلي. وهذا هو تاريخ العلاقة بين الجانبين. ويكمن التوتر الأخير فى العلاقة فى تحول السياسة البريطانية الدبلوماسية لتصبح علنية، وهو ما سبب إزعاجًا كبيرًا جدًا للإسرائيليين. فضلًا عن أن الاتجاه الليبرالى العام، والغالبية العظمى من اليهود البريطانيين أنفسهم ضد نتنياهو، وهو ما شجع الحكومة البريطانية على اتخاذ موقف علني.
وفيما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية، أوضح «درويش» أن العقوبات البريطانية المفروضة الآن تستهدف 18 فردًا وكيانًا، من ضمنهم رئيسة حركة المستوطنات دانييلا فايس، والشركات التى تتعامل مع المستوطنات. كما أكد على مدى خطورة العقوبات المفروضة عليهم، حيث تجعلهم غير قادرين على الاستيراد والتصدير، وفتح حسابات فى البنوك، مما يترك ضررًا اقتصاديًا كبيرًا داخل إسرائيل. كذلك سيكون للعقوبات الاقتصادية صدى كبير فى توجيه الرأى العام ضد نتنياهو، لأن المجتمع دائمًا ينظر إلى المصلحة الاقتصادية. كما أشار إلى أن ما يُطرح الآن على الساحة هو فرض عقوبات على وزراء فى حكومة نتنياهو تشمل حظر السفر، وقيودًا مالية مثل فتح حسابات فى البنوك وتبادل العملات.
فى سياق متصل، صوتت أغلبية البرلمان الإسبانى على مقترح قانون يدعو إلى فرض حظر شامل على توريد الأسلحة إلى إسرائيل. كما دعا رئيس الوزراء الإسبانى بيدرو سانشيز إلى استبعاد إسرائيل من الفعاليات الثقافية الدولية مثل مسابقة الأغنية الأوروبية «يوروفيجن»، على غرار استبعاد روسيا بعد العملية العسكرية فى أوكرانيا.
وعلى الصعيد الفرنسى، أعربت باريس عن عزمها الاعتراف بدولة فلسطين، وكشفت أنها تعمل مع المملكة العربية السعودية لعقد مؤتمر دولى فى يونيو المقبل بمدينة نيويورك الأمريكية لتسوية القضية الفلسطينية، والدفع نحو «حل الدولتين». تعليقًا على ذلك، أوضح خالد شقير، الصحفى المختص بالشأن الفرنسى، لـ«المصور» أن تغير الموقف الفرنسى ظهر جليًا بعد زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون لمصر، وفرنسا تثق فى القيادة المصرية وتخشى على نفسها من تداعيات الأزمة فى غزة. واعترف ماكرون بأنه شاهد ما وصفه من اعتداءات وحشية على أهالى غزة، وتعليق المساعدات على الحدود مع مصر، ومنع دخولها، وتحدث عن سيدة غزاوية مصابة. كما اعترف أن اصطحاب الرئيس السيسى له فى هذه الرحلة كان له أكبر الأثر عليه. ووصف الاعتداءات والصمت بالعار فى لقاء على القناة الفرنسية الأولى TF18.
«غليان داخل الاحتلال»
ورد نتنياهو بتصريحات اتهم فيها السير كير، والرئيس ماكرون، ورئيس الوزراء كارني، بأنهم تلقوا «شكرًا من حماس» بسبب مطالبتهم إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية فى غزة على الفور، مدعيًا أن مواقفهم تعكس «رغبة فعلية فى بقاء حماس فى السلطة». ولم يقتصر التراشق بالاتهامات من قبل نتنياهو على زعماء العالم فقط، ففى الآونة الأخيرة تعالت أصوات مسؤولين إسرائيليين بارزين ضد الحرب فى غزة، وحكومة نتنياهو، الذى اتهمته «هاآرتس»، بتنفيذ عملية “عربات جدعون” من أجل الحفاظ على ائتلافه “المتطرف” من خلال تأجيل نهاية الحرب. وفى هذا السيناريو، سيبقى الائتلاف قائما على الأقل حتى بداية الدورة الشتوية فى نهاية أكتوبر، مما يعنى أن الانتخابات المقبلة لن تعقد قبل ربيع 2026، وهذه هى الأولوية القصوى لنتنياهو فى الوقت الراهن.
وفى الوقت نفسه، اتهم وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق موشيه يعالون، رئيس الوزراء نتنياهو بالمماطلة فى تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق مع حركة حماس، بهدف إرضاء وزير المالية اليمينى بتسلئيل سموتريتش والحفاظ على تماسك الائتلاف الحكومي. وفى تعليقه لـ«المصور»، صرح الدكتور أشرف الشرقاوي، أستاذ اللغة العبرية والدراسات الإسرائيلية، بأنه لا يعتقد أن قرار بريطانيا تعليق محادثات التجارة مع إسرائيل هو قرار جدي، بل يبدو أقرب إلى قرار شكلى يُوجه لإرضاء قطاع معين من المجتمع البريطانى ينظم احتجاجات ضد إسرائيل دعمًا للفلسطينيين. فمقابل هذا القرار الشكلي، لا تزال الحكومة البريطانية تشارك إسرائيل فى الإبادة الجماعية للفلسطينيين فى غزة، وذلك من خلال توريدها الأسلحة وقطع الغيار والذخيرة لإسرائيل، ومشاركتها فى عمليات استطلاع فوق غزة لصالح الجيش الإسرائيلي، وعدم محاسبتها للمواطنين البريطانيين ذوى الخلفية العسكرية الذين يخدمون كمرتزقة فى الجيش الإسرائيلي. وأضاف: “لا أعتقد أن هذا القرار تحديدًا سيكون له تأثير فعلى على الاقتصاد الإسرائيلي، ولا أظنه سيمثل رادعًا سياسيًا لإسرائيل..والواقع أن الحكومة البريطانية متواطئة تمامًا فى الإبادة الجماعية التى تنفذها إسرائيل ضد الفلسطينيين”.
