رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الملك رمسيس الثانى يعود إلى «منف» بعد 3000 عام


24-5-2025 | 18:08

تمثال الملك رمسيس الثانى

طباعة
تقرير تكتبه: أمانى عبدالحميد

وسط بهو المتحف المصرى الكبير يقف تمثال الملك رمسيس الثانى شامخًا مرحبًا بزائريه بوجه مَهيب وتاريخ ممتد لآلاف السنين.. لم يصل التمثال الملكى إلى موقعه صدفةً، بل خاض رحلةً طويلةً شاقةً ومعقدةً عبر أكثر من 190 عامًا من التنقل والترحال، بدأت منذ اكتشافه مدفونًا تحت رمال «ميت رهينة»، ثم توالت محطاته عبر شوارع القاهرة التاريخية، عاش خلالها سنوات وسط ضجيج المدينة ورياح التلوث والازدحام، كان شاهدًا صامتًا فى قلب ميدانها الكبير الذى حمل اسمه، ليرحل بعدها إلى مستقره الأخير، ليكون حيث ينبغى له أن يكون، عند بوابة أكبر صرح أثرى فى العالم، كرمز وطنى يعيد لمصر ذاكرتها الخالدة.

القطعة رقم «1» لها قصة طويلة من الترحال، فرحلة تمثال رمسيس الثانى ليست مجرد قصة نقل قطعة أثرية من مكان اكتشافها إلى مكان عرضها المتحفى، بل هى قصة استعادة هوية وطن، من طين ميت رهينة، إلى زحام القاهرة، ثم يعود إلى «منف» مرة أخرى ويستقر بقلب ساحة الخلود داخل المتحف المصرى الكبير.. تلك رحلة تلخص مسار مصر نفسها بين التاريخ والنهضة، إنه الملك الذى لم يمت، عاشت ذكراه مدفونةً تحت الرمال تنتظر أكثر من ثلاثة قرون لتعود من جديد بكل فخر، شامخًا كما كان، معلنًا للعالم أن الحضارة المصرية لا تُنسى، بل تُستدعى من جديد بكل فخر.

الرحلة بدأت فى أوائل القرن التاسع عشر، وتحديدًا عام 1820، حين اكتشف الرحالة والمستكشف الإيطالى جيوفانى باتيستا كافيجليا تمثالًا ضخمًا للملك رمسيس الثانى وسط منطقة «ميت رهينة»، العاصمة القديمة «منف» الواقعة جنوب الجيزة، لكنه عثر عليه مكسورًا ومقسمًا إلى ستة أجزاء ومفقود منه عدة مواضع منها منطقة أعلى الرأس وأسفل التاج والقدمين، علاوة على كسر فى الساق اليمنى.. التمثال مدفون تحت الرمال والطين منذ ما يزيد على ثلاثة آلاف عام، مصنوع من الجرانيت الوردى، يبلغ طوله أكثر من 11 مترًا، ويزن نحو 83 طنًا، وبالرغم من الأضرار البادية عليه إلا أن جمال نحته ودقته أدهشت كل من رآه، وتجلى عليه الوجه الأبدى للملك الذى حكم مصر لأكثر من 60 عامًا خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد.

ظلت أجزاء التمثال مدفونةً وسط الرمال فى موضعها لأكثر من 135عامًا، حتى قررت الحكومة المصرية عام 1955 نقل التمثال إلى قلب القاهرة، فى إطار مساعيها لتجميل العاصمة، ووضع رموز حضارتها فى مقدمة المشهد العام، وبالفعل نقلت التمثال ليقف فى قلب ميدان باب الحديد، ليتغير اسمه ويصبح «ميدان رمسيس» أمام محطة قطارات مصر، وقتها بات التمثال والمياه التى تتدفق من أسفل قدميه معلمًا حضريًا للقاهرة ورمزًا للفخر القومى.

وبمرور الوقت أصبحت البيئة المحيطة غير مناسبة لتمثال أثرى، ضوضاء وازدحام ، عوادم سيارات وتلوث الهواء، واهتزازات عنيفة ناتجة عن حركة القطارات، حتى ظهرت تشققات فى قاعدته بسبب تلك الظروف القاسية، وبدلًا من أن يكون التمثال واجهةً للفخر، أصبح تدريجيًا مهددًا بالتحلل والانهيار.. وبدأت أصوات الأثريين تتعالى وازدادت مطالبات بضرورة نقل التمثال الملكى من ميدان رمسيس إلى بيئة أكثر ملاءمة، لكنها تزايدت فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى، وكان الاقتراح الأول هو عودته مرة أخرى إلى موقع اكتشافه «ميت رهينة»، ثم توقفت تلك المطالبة فترة ثم عادت مرة أخرى بعد أن ظهرت فكرة بناء أكبر متحف للآثار المصرية فى العالم.

ومع بداية الألفية الثانية، كانت فكرة بناء المتحف المصرى الكبير قد بدأت تأخذ طريقها نحو التنفيذ على مهل، وبات تصميم المتحف قيد الدراسة بشكل مكثف، وبعد الاستقرار على التصميم النهائى له، بدا واضحًا أهمية نقل التمثال الملكى ليكون أول قطعة أثرية تنضم لمقتنيات المتحف الكبير.. وبالطبع لم يكن هناك أفضل من تمثال الملك المعظم كى يقف فى صدارة مدخل المتحف الرئيسى، رمزًا للدولة المصرية القديمة، وبات من الضرورى حضور الملك كى تبدأ مرحلة البناء، حيث إن بناء البهو العظيم استدعى تواجد التمثال الضخم ليتم بناؤه وفق معايير وحجم التمثال.

لذا اتخذت الحكومة المصرية فى عام 2006 متمثلة فى وزارة الثقافة، التى كان يتولاها – فى هذا التوقيت، الفنان فاروق حسنى والمجلس الأعلى للآثار - وكان الدكتور زاهى حواس أمينًا عامًا له، القرار بنقل التمثال الملكى من قلب العاصمة إلى منطقة مجاورة لموقع بناء المتحف المصرى الكبير، إلا أن تنفيذ قرار النقل الجريء استغرق حوالى أربع سنوات، وقتها وقع الاختيار على شركة المقاولون العرب لتتولى المهمة بتكلفة بلغت حوالى ستة ملايين جنيه، وتم الاتفاق على نقله كاملًا، والتمثال واقفًا كما هو كتلة واحدة داخل قفص حديدى مع تركيبه فوق جسر معلق ليكون كالبندول، من أجل السماح بحرية الحركة أثناء عملية السير والصعود والهبوط أعلى كوبرى المنيب.

(مع السلامة يا رمسيس)

وعبر ليلة صيفية ساخنة، وبالتحديد يوم 25 أغسطس 2006، عاشت القاهرة ليلة فريدة لا تُنسى، خرج أهلها مصطفين فى الشوارع، باتوا ليلتهم ينتظرون سير الموكب الذى يتصدره التمثال الملكي، كى يلقوا عليه نظرة الوداع، الموكب بدأ فى التحرك فى تمام العاشرة مساءً، وقتها ازدحم ميدان رمسيس وكل الشوارع المحيطة على طول طريق الموكب الملكى، وكانت الهتافات – بلغة المصريين، تتردد فى الميدان عالية: «مع السلامة يا رمسيس.. مع السلامة يا رمسيس».. كانوا ينادون بعلو صوتهم: «خلوا بالكم منه دا ملك الملوك»..

ورغم أن المسافة لم تتعد الـ30 كيلو مترًا، لكنها كانت شاقة ومقلقة للغاية، ومن أجلها خضع التمثال لأعمال ترميم دقيقة وفحص علمى لسنوات قبل البدء فى النقل، كما ارتدى قميصًا حديديًا ليحميه من الاهتزازات التى سيتعرض لها، وبالرغم من ذلك، لم تكن عملية النقل مأمونة الجانب، تلك كانت المرة الأولى التى يتم نقل تمثال ضخم بهذه الطريقة، لأن المرة الأولى التى تم نقل التمثال بها، كان عبارة عن ثلاث قطع حجرية، كل قطعة محملة على عربات ضخمة بمفردها، لكن فى تلك المرة قررت اللجنة المسئولة عن نقله، أن يظل التمثال على حاله، وكان لا بد من اختراع وسيلة لحمايته من اهتزازات النقل والحركة، حتى لا يتعرض للتهشم أو للتشقق أو لأى نوع من المخاطر خلال عملية النقل، بعد أن ظل ساكنًا راكدًا لمدة تزيد على 50 عامًا.

خرج الموكب من ميدان رمسيس ليلًا عبر ميدان التحرير مرورًا بشارع قصر العينى حتى وصل إلى مطلع كوبرى المنيب مع بزوغ شمس اليوم التالي، سار الهوينة بسرعة لا تزيد على 5 كيلومترات فى الساعة، وهناك وقف الموكب قليلًا ليرتاح بعد ما يزيد على تسع ساعات من الحركة، وسط جموع المصريين الذين باتوا ليلتهم على الرصيف فى انتظاره، وكان سكان الشوارع التى عبرها هم الأكثر حظًا، انتظروه داخل شرفات منازلهم وشبابيكها، يهللون لدى رؤيته قادمًا، وعندما وصل إلى منطقة كورنيش النيل بمصر القديمة، كانت جموع سكانها فى انتظاره كتشريفة شعبية للملك، وقف معهم قليلاً ثم انتقل بسرعة أكبر ليصعد كوبرى المنيب يلاحقه قرص الشمس المشرقة فى منظر مهيب وجميل لن يتكرر مرة أخرى.. بعدها هبط التمثال الملكى وموكبه من أعلى كوبرى المنيب كى يصل إلى موقعه الجديد بالقرب من عتبات المتحف المصرى الكبير، وكان ذلك فى تمام العاشرة صباحًا، استقر هناك داخل القفص الحديدى لمدة 11 عامًا حتى اكتمل البناء المتحفى بالقرب منه.

الرحلة الأخيرة

وبحلول عام 2018 بدأ تمثال الملك رحلته الثالثة والأخيرة إلى مستقره الذى يليق بمكانته الملكية، وبالرغم من أن رحلته الأخيرة قصيرة لا تتعدى مسافتها 400 متر فقط، إلا أن الاستعدادات لها استغرقت القيام بتفاصيل كثيرة وتمهيد طريق مخصوص لها، بل بلغت ميزانيتها 14 مليون جنيه، بدأت بتخلى التمثال الملكى عن قميصه الحديدى وعن الهواء الطلق وأشعة الشمس والرياح الدافئة التى كانت تلفح وجهه لمدة 11 عامًا كاملة.

وفى يوم الخميس 25 يناير 2018 تحرك تمثال أقوى فرعون حكم مصر القديمة، الملك رمسيس الثانى، مع أول ضوء للنهار وسط أجواء احتفالية مشوبة بالقلق أيضًا، ليحتل مكانه الجديد، ويكون أول قطعة أثرية تصل قاعة العرض المتحفى وتحمل رقم «1» حتى تنتهى عزلة الملك الشامخ ووحدته ليستقر وسط أقرانه ملوك مصر القديمة.. تلك الرحلة لم تكن شعبية كحال رحلته الثانية، بل كانت احتفالية رسمية حضرها مئات من الشخصيات العامة والمسئولين الحكوميين والدبلوماسيين، الذين جاءوا ليشاهدوا «عودة الملك» إلى مكانه الذى طال انتظاره.

عملية النقل القصيرة شارك فيها خبراء من وزارة السياحة والآثار والهيئة الهندسية للقوات المسلحة، ومهندسون متخصصون فى نقل الأوزان الثقيلة، باستخدام نفس العربات الهيدروليكية التى قامت بنقله من ميدان رمسيس إلى ميدان الرماية، وتسير ببطء شديد، بمساعدة فريق مصرى يابانى متخصص فى تقنيات التثبيت والقياس.

كما تطلبت رحلة النقل الأخير استعدادات خاصة، منها إعداد طريق بمواصفات تتحمل وزن التمثال خلال رحلة انتقاله القصيرة، وقام فريق العمل الأثرى بالمتحف المصرى الكبير بإعداد التمثال والتأكد من سلامته وقدرته على التحرك بأمان، مع القيام بتحريره من القاعدة الخرسانية التى ظل واقفًا فوقها طوال سنوات الانتظار، وتم إزالة كل طبقة القماش التى كانت تغطيه لحمايته من الأتربة وعوامل المناخ والرياح، وقام الفريق المخصص بعمليات ترميم أولية وصيانة له بالكامل، ثم إعادة تغطيته لضمان توفير مزيد من الحماية للوجه والذراعين كعامل أمان أثناء الحركة، حتى يصل إلى داخل مبنى المتحف، ثم نقله فوق القاعدة المصنوعة بمواصفات مناسبة له قبل تثبيت جسم التمثال فوقها بشكل سهل داخل مستقره الأخير.

ترقب لمتحف عالمى يربط الماضى بالحاضر

واليوم ونحن فى انتظار الافتتاح الرسمى للمتحف المصرى الكبير، حيث تتدفق أشعة الشمس كل صباح على وجه تمثال الملك «رمسيس الثانى» فى قلب البهو العظيم كرمز ثقافى للحضارة المصرية، ليكون أول ما يراه الزائرون عند دخولهم، وكأنه يستقبلهم لا بوصفه قطعة حجرية بل شاهد حى على تاريخ دولة عريقة، يربط بين الماضى بالحاضر، ويُجسّد شعار المتحف الكبير «الماضى يُخاطب المستقبل»، وكأننا أمام مسرح رمزى للحضارة، يقف فوقه تمثال الملك بطلًا يستقبل الجمهور.

تحيط به أعمدة ومسلات وقطع أثرية ملكية، قام ببنائها أو نحتها ملوك مصر القديمة، وذلك لاستعراض الفكر المصرى القديم ولإعادة خلق هيبة الدولة التى جعلت للملكية دورًا كبيرًا فى بناء المعتقدات الدنيوية والأخروية، علاوةً على أنها توضيح للدور المحورى للملك، الذى أدى الى تطور الدولة وتفوقها فى العمارة والإدارة والعلوم والفنون العسكرية.

من المعلوم أن الملك «رمسيس الثانى» أحد أعظم ملوك الدولة الحديثة والأسرة التاسعة عشرة، امتد حكمه لأكثر من ستة وستين عامًا وهى من أطول الفترات فى التاريخ المصرى القديم، خلف وراءه آثارًا عظيمةً، حتى أطلق عليه علماء المصريات لقب «عظيم البنائين» لما يملكه من تماثيل عملاقة ومعابد ضخمة من أهمها معابد «أبوسمبل» بالنوبة و«الرامسيوم» بالأقصر.. قاد معركة «قادش» ضد الحيثيين. وفى عهده بلغ النفوذ المصرى الشرق الأدنى، كما أبرم أول معاهدة سلام مكتوبة فى التاريخ، وهو الذى نجح فى ترسيخ صورة «الملك الإله» الذى يجمع بين السلطة السياسية والقداسة الدينية.

 
 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة