ولد أبى فى قرية (شبرا باص) بالمنوفية فى 17 ديسمبر سنة 1926م، لأب فلاح يزرع الأرض، وكانت تسبقه أخت كبرى تسمى (رتيبة)، ودعت له أمه عند ضريح (أحمد البدوى) فى طنطا، وتمنت أن يصبح خادمًا فى مسجده، لذلك ألحقه أبوه بالكتاب، فحفظ القرآن وعمره 11 سنة، ولقب بين أهل قريته بالعالم والشيخ، وتباهى به أبوه، رغم أنه رزق بعده بـ(محمد ونبوية)، وألحقه والده بمعهد المنشاوى الأزهرى بطنطا، وهناك اكتشفه الشيخ حسين معوض، فرفض تجديد قيده بالمعهد، ودفعه دفعًا لتعلم القراءات على يد الشيخ إبراهيم سلام بالمعهد الأحمدى، ونصحه بالتردد على بيت الشيخ شفيق أبو شهبة، حيث كان ملتقى كبار القوم والقراء، من أمثال: (أحمد ندا، وعلى محمود، ومحمد رفعت)، فزاره الشيخ البنا، وتعلم منه، ونصحه بالسفر للقاهرة، وعرف فضله، لذلك أطلق الشيخ اسمه على اسم ابنه الأكبر اللواء شفيق البنا. وحضر أبى للقاهرة، وتعلم المقامات الموسيقية على يد الشيخ درويش الحريري، ثم تعرف من خلال واحد من قريته على صالح باشا حرب رئيس جمعية (الشبان المسلمين)، فصار قارئًا لكل مناسباتها، وكان الشيخ محبًا لممارسة الرياضة، فكان يستبدل ملابسه ويرتدى الملابس الرياضية ويلعب الملاكمة، وفى حفل الجمعية السنوى فى دار الأوبرا الملكية، قرأ الشيخ أمام كل رموز مصر، وبعد أن كان يستمع لأساطين التلاوة أمثال (محمد سلامة، ومحمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، وعلى محمود)، صار قريبًا منهم، وبنص كلماته هو: (شعرت بأنى تلميذ تخرج فى الابتدائية، وعليه أن يلتحق بالجامعة دفعة واحدة دون تمهيد)!
وفى هذه الأثناء تزوج الشيخ من شقيقة صديقه محمود على راشد، وكان عمره 21 سنة، وعمر زوجته 16 سنة، وكان ذلك سنة 1948 قبل التحاقه بالإذاعة بشهور، وأنجب على الترتيب: (شفيق، وآمال، وعلي، وأحمد، ومحمد، وناهد، وشريف)، وسكن أولًا فى شقة صغيرة بشبرا، ثم انتقل لحدائق القبة، وأخيرًا بنى بيتًا فى حى مصر الجديدة.
قبل أن نستكمل رحلة صعوده.. حدثينا عن الشيخ البنا خلال تعامله مع أسرته؟
كان أبى حازما، وكنا لا نستطيع أن نهمس وهو نائم، وكان حريصا على تعليمنا القرآن، فأتى لنا بشيخ يحفظنا إياه فى البيت طوال أيام الإجازة الصيفية، وكان يراجع لنا ما حفظناه بنفسه، ولا يسمح لنا بالخطأ أبدا، وكانت مهمته شاقة، حيث كنا سبعة أولاد، وكان مسؤولا عن شقيقتيه وأولادهما، أى (عماتي)، وكانتا تقيمان معنا فى البيت، وكان بارا بأبيه وأمه، وبنى لهما بيتا، ثم بنى مسجدا فى قريته، وهو الذى دفن فيه لاحقا، حيث صلى عليه ودفنه بيديه صديقه الشيخ الشعراوي.
كيف جاء التحاقه بالإذاعة؟
كان كبار القراء قد أضربوا عن القراءة فى الإذاعة، بعد أن تعاقدت مع الشيخ مصطفى إسماعيل بمبلغ أكبر من الذى تعاقدت معهم عليه، وكان أبى مقيمًا فى القاهرة، فاضطرت الإذاعة للاستعانة به بالتناوب مع الشيخين محمود خليل الحصرى ويوسف كامل البهتيمي، كان ذلك بداية سنة 1949م، لدرجة أن الناس ظنت أن الشيخ البنا مسنود من القصر الملكي، أو من رجل مهم فى الدولة، أو فى الإذاعة!.. وفى هذه الأثناء كان الشيخ قد عُيّن قارئا بمسجد الأميرة (عين الحياة) بحدائق القبة، وكان اسمه مسجد الملك، ثم عرف بمسجد الشيخ كشك لاحقا، وانتقل لسكن مقابل له، ثم انتقل قارئا بمسجد الرفاعى بالقلعة لعامين، وكان يتبع الخاصة الملكية، وعاد بعدها قارئا بمسجد البدوى فى طنطا، ليحل محل الشيخ الحصري، والذى انتقل قارئا لمسجد الإمام الحسين، وكان عمر البنا آنذاك 31 سنة، وظل فيه من سنة 1958 حتى 1981، أى 22 سنة كاملة.
وفى يوم جمعة تخفت أمه مع شقيقه عبد الهادي، واندست وسط الناس لترى ولدها الشيخ، الذى صار نجما مشهورا، دون أن يراها، وذلك تجسيدا لحنان قلب الأم!.. وعند ظهور التليفزيون فى مصر فى 21 يوليو سنة 1960م، ظهر الشيخ البنا فيه، وبعدها طار ذكره فى كل مكان، وسافر لبلاد كثيرة عربية وأجنبية.
وكيف كانت علاقة الشيخ البنا بالرؤساء؟
شارك كبار القراء فى عزاء والد الرئيس جمال عبد الناصر فى الإسكندرية سنة 1965، وكان منهم البنا، واستقبله الرئيس، وسأله لماذا لم يسجل المصحف المرتل للآن، ثم أمر الإذاعة بأن تقوم بتسجيل المصحف المرتل له، ليصبح صاحب خامس مصحف مسجل بالإذاعة، بعد (الحصري، ومصطفى إسماعيل، والمنشاوي، وعبد الباسط)، وظل البنا وفيًا لذكرى عبد الناصر، ويقرأ فى ذكراه سنويا بدون أجر، حتى رحيله فى 1985، وكان قد تبرع للمجهود الحربى بعد هزيمة 5 يونيو سنة 1967.
أما الرئيس محمد أنور السادات، فقد التقاه أبى فى طنطا بمسجد أحمد البدوي، وكان يعرفه من قبل أن يصبح رئيسا، وذهب إليه فى استراحة القناطر الخيرية سنة 1980 مع الشيوخ عبد الباسط، وأبو العينين شعيشع، وأحمد الرزيقي، لأخذ موافقته على تأسيس نقابة لقراء القرآن الكريم، واستجاب لهم السادات، وأمر د. صوفى أبو طالب رئيس مجلس الشعب آنذاك بإعداد قانون لتأسيس نقابة القراء، وبالفعل ظهر القانون 92 لسنة 1983، وانتخب الشيخ عبد الباسط أول نقيب لها، ثم خلفه الشيخ البنا حتى رحيله فى 20 يوليو 1985، وبنص وصيته للشيخ الشعراوى صديقه، صلى عليه ودفنه فى مسجده الذى بناه فى قريته، ولم يرحل إلا بعد أن استمع لصوت ابنه (أحمد) وهو يقرأ القرآن المجود، وأيده وأثنى عليه وقال له: (هذا هو الطريق يا بني).
ما أغرب موقف واجه الشيخ البنا فى حياته مع القرآن؟
حكى الشيخ أنه بكى لأول مرة فى حياته بكاء حارا يوم زار السعودية لأول مرة سنة 1969، موفدا من وزارة الأوقاف لإحياء ليالى رمضان هناك، وجلس فى الروضة الشريفة ليقرأ القرآن أمام رسول الله، فأخذته الرهبة الشديدة، وبكى، وعجز عن القراءة، وقالت له نفسه: (كيف أقرأ القرآن أمام من أنزل عليه القرآن؟!)، ولم يستطع أن ينطق بحرف واحد، وانهمرت دموعه، ثم فتح الله عليه فى الأيام التالية، وقرأ كما لم يقرأ فى حياته.
كيف كان حال الشيخ الأب فى رمضان؟
قبل أن ترسله وزارة الأوقاف موفدا للقراءة فى البلاد العربية والأوروبية، كان يقضى معنا رمضان، ويعلمنا القرآن نهارا، ويجلس معنا على سفرة الطعام، ويأكل معنا، وكانت المائدة كبيرة، تضم أبى وأمي، وأولاده السبعة، وشقيقتيه، وأولادهن، وكان أبى يسألنا ونحن نأكل من باب تنشيط الذاكرة، فيسألنا عن كفارة الإفطار ليوم فى رمضان مثلا، وغير ذلك، وكنا لابد أن نبدأ بسم الله الرحمن الرحيم، وكان على وعى كبير، وقبل أن نتعلم اللغات الأجنبية فى مدارسنا الحكومية فى المرحلة الإعدادية، أتى لنا والدنا فى الإجازة الصيفية بمدرسين لغة إنجليزية وفرنسية، كما أتى لنا بمحفظ يحفظنا القرآن الكريم، وأى فضل نحن فيه أو نعمة، هو من نتاج غرسه فينا.
وبعد ذلك أصبح يتركنا خلال شهر رمضان، عندما بدأ يسافر للخارج مبعوثا من الأوقاف، وذلك منذ ستينيات القرن العشرين، وكانت البعثة تضم قارئا للقرآن وواعظا، وهنا أصبحنا نقضى رمضان وحدنا، وأصبح عيدنا عيدين، عيد الفطر، وعيد فرحتنا برجوعه بالسلامة، ومعه الهدايا لكل منا، ويحكى لنا كل شيء عن عجائب السفر.
كما حكى لنا عن سفره للهند، واهتمامهم بالقراء العرب، حيث يعتبرونهم أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يستقبلون مشايخ الأزهر والأوقاف استقبالا حافلا، ويرمون على موكبهم العطور، ويطوقونهم بأطواق من الزهور. وفى ماليزيا شرح لنا كيف يحتفلون بليلة القدر احتفالا عظيما فى استاد كرة القدم، ويوزعون جوائز على حفظة القرآن، وكان أبى رئيس لجنة التحكيم، وبحضور كبار المسؤولين، وتأثر وبكى لما شاهد أهل ماليزيا يغنون (أهلا أهلا رمضان) باللغة العربية.
ومن سفرياته المهمة، سفره للكويت وقت حرب العاشر من رمضان، ولما نزل من الفندق قبل المغرب، وجد كل الشعب يهنئونه بالنصر، واتصل بنا يطمئن، وقلنا له إن كل الشعب يحتفل بالنصر، ففرح جدا، وشارك فى رفع العلم المصرى على سيناء، فى طابا، مع الرئيس حسنى مبارك، وأوصى أخى عندما كانت زوجته على وشك الولادة أن تسمى المولودة فيروز على اسم سيناء، وكان قد تبرع بذهب أمى للمجهود الحربى بعد 67، وكل واحدة فى الأسرة خلعت ذهبها وتبرعت به من أجل مصر، وقدمناه طواعية لبلدنا، فقد أسسنا على مبادئ الوطنية، كما أسس أول نقابة للقراء فى مصر.
أخيرا كيف كانت علاقته بزملائه من القراء؟
كانت جيدة جدا، وكانوا يتواجدون مع بعضهم فى كل المناسبات الأسرية، وعلى سبيل المثال، كان شاهدا على عقد زواجى كل من الشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، كان أبى اجتماعيا وودودا، وفى ذكرى القراء المتوفين، كان أبى أول من يحضر، وآخر من يمشي، لدرجة أن (إنجي) ابنة الشيخ مصطفى إسماعيل قالت لى إن القراء كلهم رحلوا بعد أن قرأوا، إلا أبى ظل يقرأ طوال الليلة، حتى أنهم اضطروا لتشغيل المسجل، كى يحصل على قسط من الراحة.
وحين كنا نسكن فى (حدائق القبة)، كنا جيران الشيخ يوسف البهتيمي، وكان أبى يزوره دوما، وحين انتقلنا للعيش فى (مصر الجديدة)، كان أبى يزور الشيخ أبى العينين شعيشع جارنا، كما كان يزور الشيخ طه الفشني، وكانا أكبر منه سنا، وكان يودهما باستمرار، وبعد رحيل زملائه من القراء كان يحن إليهم، ويستوحشهم.
