إيمان رسلان
الطب هو زوجتى والأدب معشوقتى.. هكذا
كتب ونطق تشيكوف الأديب الروسى إله القصة القصيرة، وكانت كلماته حول الطب والأدب
التى قرأتها قبل زمن تحوم حولى كالفراشة وتسكن عقلى كالنداهة وأنا أقرأ كل مرة
لأديب وأديبة كان تخصصهم هو الطب.
وأخيرا وأنا أنتهى من قراءة رواية
المنسى قنديل طبيب أرياف جلست والفكرة تقفز وتتلاعب أمامى تماماعن العلاقة الشرعية
بين الطب والأدب، فتربعت تنفس دخان تفسيراتها فى فضاء الكون العلمى والأدبى.
كانت نوال السعداوى هى أول ما وقعت
عينى عليها فى عالم الأدب فهى طبيبة وأديبة ومفكرة عظيمة حركت المياه الراكدة فى
فضاء خامل تقليدى يتداوى بالأفكار والبخور القديمة حول العقل والأنثى، قرأت لها
روايات عن الحب والطب والسياسة وسقوط الإله!..شدتنى روايتها وصدقها أكثر من روايات
زوجها الطبيب أيضا شريف حتاتة؟ ولكن تشيكوف العرب يوسف إدريس عبر بى إلى عالم آخر
من التمرد والتناقض فى الشخصيات والتشخيص أيضا إلى آفاق أخرى من إبداع لا مثيل له
من»أرخص ليالى» و»حادثة شرف» إلى الحرام»..ثم كانت القفزة الثالثة مع محمد
المخزنجى وقصصه وما بها من شفافية بل وزهد عميق فلسفى فكرى وإنسانى شفاف تتنفسه
ببساطة،وهو يتحدث عن وحدة الكون وتماثل الكائنات، وقبلهم جميعا كان إبراهيم ناجى
وكان مدخلى له أم كلثوم فهو يكتب القصة شعرا ورائعة الأطلال هى قصة قصيرة
بالفعل،ولكن هؤلاء كانوا أبناء زمن آخر، فتوارت الفكرة فى عقلى الباطن سنوات إلى
أن قرأت لأسماء أخرى ومن أجيال أحدث روايات مبدعة وتشخيصا بمشرط الجراحين، كما فى
روايات ضحى عاصى وإيمان يحيى ومحمد إبراهيم طه وشريف عابدين...وبالتأكيد د. أحمد
خالد توفيق الذى لم أقرأ له إلا بعد وفاته! لأنه كما قيل الأعلى قراءة بين الشباب،
فبحثت فى يوتوبيا فكره حتى إنه الآن تحولت روايته لمسلسل يعرض على نت فيليكس أى
أصبح الأكثر شهرة عالميا الآن أيضا وبدون جوائز كبرى؟.
وكانت رواية المنسى قنديل الأخيرة
طبيب أرياف إيذانا بأن أشخص حالة الطب والأدب، خاصة أن روايته الأخيرة رواية
واقعية وليست رواية من خلال التاريخ أو عبر تحقيق التراث كما عودنا سابقا،
والرواية الجديدة تتميز بتوصيف وتشريح دقيق للغاية حول المجتمع المصرى الآخر
القابع فى الريف بل والريف الجوانى والمنسى (كما اسمه) من الخدمات بكل أشكالها عبر
القرون الطويلة؛ حتى إننا نستطيع أن نعيش معه أجواء المصريين منذ عصر الفراعنة
والكهنة، نفس السمات نفسها وأن التطور حدث فى الشكل أو الوسيلة فقط، وللأسف كانت
بدائية أيضا أو من بقايا كراكيب المدينة، وتستعرض الرواية أمراض المصريين المزمنة
عبر التاريخ سواء طبيا أو اجتماعيا وسياسيا من خلال الوحدة الصحية ملاذهم الوحيد،
والتى نشأت بقرار جمهورى شخصى من الرئيس عبد الناصر تكريما لزميله فى الفالوجا
...وتستعرض الرواية علاقة المسلمين والمسيحيين ولكن من زاوية علاقات الحب بين
الرجل والمرأة، وهى التى تذكرنا بالشعار الشهير (نريد أختنا كاميليا)والمعارك
الضارية والقتل والفتن التى تدور بسبب علاقات الحب وهى من أمتع أجزاء الرواية رغم
أنها جميعا تنتهى نهايات غير سعيدة !سواء لاختلاف الدين أو غيره حتى لو تم حل
الموضوع يظل فى الريف والصعيد الجوانى من الكبائر التى لا تغتفر!فالتقاليد أهم
وتعليمهم بسيط أولى بلا مدرسة ثانوية وبالتأكيد بلا جامعات، فيستمر الموروث موروثا
ومستمرا حتى تصل إلى حرب طائفية يحكم بها الأعلى صوتا وليس القانون ..تذكرنى
الرواية حتى من اسمها برائعة توفيق الحكيم يوميات نائب فى الأرياف بهما تشابه
ملحوظ للغاية وكذلك البوسطجى ليحيى حقى ..... والرواية سهلة البناء والحكى وواضحة
الهدف جدا مباشرة فى رسائلها وإن تداخلت كل الرسائل فى دفقة واحدةكأنها تنفيس
مباغت من الكاتب..
كل هذه الأسماء السابقة لأطباء أو
خريجى الطب تعنى أن دراسة الطب التشريحية والممارسة والتعرف على مختلف الشخصيات
تشبه الأدب أو أن بهما من عناصر التشابه، فالأدب عموما يشرح الواقع ويجسده بمشرط
الجراح،لذلك ليس غريبا أن يشتهر الأدباء من أصل طبى ويزيد الإقبال على
رواياتهم؛لأن العلاج يعتمد على مهارة الطبيب الفرد والأجهزة المعاونة له، كذلك
الأدب يعتمد على مهارة الأديب فى الملاحظة والدقة وأدواته من اللغة والتشبيهات.
ومنذ زمن يعقد مؤتمر كل عامين في أوربا يحضره الأدباء ودارسوا وممارسوا الطب.