رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

فيروز تغني للشتاء والمطر

20-12-2025 | 13:01

حسام حافظ

طباعة
حسام حافظ

تشغل فيروز مكانة فريدة في تاريخ الغناء العربي، وهي الأيقونة التي كان من المفترض أن نحتفل بعيد ميلادها التسعين في 21 نوفمبر، ولكن أحزانها على رحيل ابنها زياد الرحباني جعلت من غير المناسب الاحتفال بعيد ميلاد أسطورة الغناء.

والحديث عن إبداع فيروز والأخوين رحباني لا يتوقف، لأنهم خلال سنوات طويلة من العطاء قاموا بالغناء لكل ما هو جميل في هذه الحياة.. غنّوا للحب والوطن والقمر والمطر والفرحة والشجن. فيروز كما كتب عنها د. محمد الشيخ في خاتمة دراسته الموسوعية القيمة: "هي عصفورة الشمس وزهرة الحرية، هي العابرة فوق جسر التنهدات، هي زهرة المدائن وصوت الوحدة والانتظار، هي كرمة العشاق وحرقة الأشواق، هي نسمة الصيف وبرد الشتاء، هي التراتيل والآذان، هي المواسم والحصاد، هي صوت الناي طول العام، هي جارة القمر، يغسلك صوتها بعطر ويجففك بنور، هي زينة الشوارع والبيوت والشبابيك، تدلّت كعناقيد كثريات الذهب، إنها تمنيك وتشجيك فتشعر أنك مهووس بها".

ومن الصعب أن نستقبل فصل الشتاء دون أن نتذكر أغاني فيروز التي كانت تُشعّ الدفء في ليالي الشتاء الباردة ونحن صغارًا... إن مناخ لبنان بشكل عام، وبالتحديد في المناطق التي نشأ فيها "الأخوين رحباني" وفيروز، نجد مناخًا قرويًا بمياه جارية رقراقة خلال الصيف، وفي الشتاء حيث الأمطار والرعود، ممّا أضاف إليهم بالغريزة أحاسيس مختلفة بين رحلة الشتاء والصيف. وقد أصبح الصيف عندهم يبعث بالحلم والإبداع والاستمتاع بالطبيعة، أما الشتاء فهو يأتي بعواصفه وثلوجه التي تثير في النفس الشجن والتأمّل وتكرار الذكريات. وكانت فيروز تذهب إلى جدتها لقضاء إجازة عيد الميلاد المجيد في ديسمبر، حيث الصحبة والجيران والسهر في ليالي القمر والتحلّي بالغناء والحكي. ويقول د. محمد الشيخ في دراسته عن فيروز: "لقد احتل موسم الشتاء النصيب الأكبر في معالجات النصوص الغنائية والمسرحية في رصيد الرحبانية، وجاءت هذه الصياغات على أشكال متباينة. فذُكر الشتاء ضمن أغاني الحب والذكريات والسهر والحصاد والنماء وريّ الأرض وغسيل الشجر وغيرها من الموضوعات المتفائلة، كما ذُكر الشتاء أيضًا ضمن أغاني فيها صور الغيوم الزرقاء والأمطار والبرد والتلج والأوراق الصفراء وغيرها من المعاني".

ومع قدوم الشتاء كل عام تأتي أغنية "رجعت الشتوية" في صدارة ألبوم الذكريات، وقدّمتها فيروز لأول مرة ضمن أحداث مسرحية "المحطة" عام 1973، وتقول كلماتها: "رجعت الشتوية / ضل افتكر فيا / يا حبيبي الهوى مشاوير / وقصص الهوى مثل العصافير / لا تحزن يا حبيبي إذا طارت العصافير / يا حبيبي الهوى غلّاب / عجّل وتعالى السنة ورا الباب / شتوية وضجر وليل / وأنا عم بنطر على الباب".

والأخوان رحباني في هذه الأغنية يستخدمان قدوم الشتاء علامة على مرور الزمن، وفيروز تذكر حبيبها بأن الشتاء عاد مرة ثانية، وهو الموسم الذي تقابلا فيه، وهي تحفظ الذكرى الجميلة عندما التقيا لأول مرة، وما زالت تنتظر عودته مع كل شتاء يمر عليها وهي تنظر إلى الباب المغلق. كما تشير إلى أن الحب نما وكبر، ومن الممكن أن يطير مثل العصافير ولا يعود مرة أخرى. ويعكس الجو العام للأغنية حالة الحزن على فراق الأحبة المصاحبة لتكرار ذكريات الشتاء البارد.

وعلى عكس تلك الأحاسيس تأتي أغنية "شتي يا دنيا تا يزيد موسمنا ويحلى" ذات الإيقاع السريع المتدفق، وهنا يأتي الشتاء كموسم للخصوبة، والمطر يروي الأرض وتأتي الأعياد مع الزرع الجديد. وتقول كلمات الرحبانية: "شتي يا دنيا تا يزيد موسمنا ويحلى / وتدفق ميّه وزرع جديد بحلّتنا يعلى / خيّلي عينك عالدار ع سياج اللي كلّه زرار / بكرا الشتوية بتروح ومنتلاقى بنوّار / يحلى عيد ويضوي عيد ونزرع ونلمّ عناقيد / قول وزيد وغنّي وعيد ونزرع هالأرض مواعيد".
وفي أغنية "حبّوا بعضن" تعود أجواء الفراق إلى موسم الشتاء، حيث تقول كلمات الرحبانية: "بديت القصة تحت الشتا / بأول شتا حبّوا بعضن / وخلصت القصة بتاني شتا / تركوا بعضن". وهنا يصبح الشتاء هو وقت تنفيذ أحكام القدر في اللقاء والفراق.

ونأتي إلى أشهر أغنية لفيروز ترتبط بفصول السنة، وهي "حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتا"، وقدّمتها لأول مرة ضمن أحداث مسرحية "يعيش يعيش" عام 1970. وكانت أوروبا في تلك السنة تستمع لأغنية فرنسية شهيرة للمغني "جان فرانسوا ميشيل"، اقتبس منها "الأخوين رحباني" اللحن، ممّا يؤكد انفتاح الرحباني على الموسيقى الغربية ورغبتهما العميقة في تقديم أنواع جديدة من الغناء لم تعتدها الأذن العربية، خاصة أن صوت فيروز المبدع قادر على أداء كافة أنواع الغناء، سواء القديم أو الحديث، التقليدي الكلاسيكي أو السريع المتطور. ولصوت فيروز عشاق يستمعون إليها مهما ذهبت بهم إلى آفاق بعيدة. وتقول كلمات الأغنية:

"بأيام البرد وأيام الشتا / والرصيف بحيرة والشارع غريق / تيجي هاك البنت من بيتها العتيق / ويقلها انطريني وتنطر عالطريق / ويروح وينساها وتتبلّل بالشتا / حبيتك بالصيف حبيتك بالشتا / نطرتك بالصيف نطرتك بالشتا / وعيونك بالصيف وعيوني الشتا / وملقانا يا حبيبي خلف الصيف وخلف الشتا / مرقت الغريبة عطيتني رسالة / كتبها حبيبي بالدمع الحزين / فتحت الرسالة حروفها ضايعين / ومرقت أيام وغربتنا سنين / وحروف الرسالة محيها الشتا".

هذه الأغنية تقدم تصويرًا لموقف درامي عاطفي حزين لفتاة تنتظر حبيبها تحت المطر ولا يأتي، ولكنه يرسل امرأة غريبة برسالة، وعندما تفتح الفتاة الرسالة لا تستطيع قراءتها بسبب هطول الأمطار عليها حتى ذابت الحروف واختفت، وبالتالي هي لم تعرف فحوى الرسالة وكأنها لم تصل إليها أساسًا.

نعود إلى أجواء التفاؤل بعيدًا عن الفراق والأحزان وذلك في أغنية "أنا لحبيبي" التي تشبه قطعة الشوكولاتة، وتقول كلماتها: "أنا لحبيبي وحبيبي إلي / يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي / لا يعتِب حدا ولا يزعل حدا / أنا لحبيبي وحبيبي إلي / حبيبي ندهلي قالي الشتا راح / رجعت اليمامة زهر التفاح / وأنا على بابي الندى والصباح / وبعيونك ربيعي نور وحلي / وندهلي حبيبي جيت بلا سؤال / من نومي سرقني من راحة البال / أنا على دربه ودربه عالجمال / يا شمس المحبة حكايتنا أغزلي".

والأغنية تعكس علاقة حب رقيقة وتسرد بالتفصيل لحظات الوصال البريئة والجميلة بين العاشقين وامتزاج ذلك بالطقس وتعاقب فصول السنة. ونجد الشتاء يبدأ في الرحيل، وتعود الطيور المهاجرة إلى أوكارها مرة أخرى، وتستجيب الحبيبة لنداء الحبيب وتسير معه على دربه، وتخاطب شمس المحبة التي جاءت بعد رحيل الشتاء وتقول لها: احكي حكايتنا الجميلة للعشاق.

ولا تنسى فيروز والأخوين رحباني الاحتفال بميلاد السيد المسيح في الشتاء، وهم يقدمون مجموعة من الأغاني، لعل أشهرها "تلج تلج عم بتشتي الدنيا تلج" التي تبدأ بأجراس الميلاد، وتقول كلماتها:

"تلج تلج عم بتشتي الدنيا تلج / والنجمات حيّرانين وزهور الطرقات بردانين / والغيمات تعبانين وعالتلة خيمات مضويين / ومغارة سهرانة فيها طفل صغير / بعيونه الحلياني حب كتير كبير / وكل قلب وكل مرج زهر فيه الحب متل التلج / وجاي رعيّان من بعيد وين الطفل الموعود / هون يا رعيّان العيد هون الليل المنشود / تلج تلج شتي خير وحب وتلج / على كل قلب وعلى كل مرج / ألْفة وخير وحب متل التلج".

وتغني فيروز من كلمات جوزيف حرب وألحان فيلمون وهبة واحدة من أغاني الطرب الشرقي الأصيل بعنوان "بليل وشتي"، تقول كلماتها: "بليل وشتي صوته مسموع / يا هوي اغمريني يا هوي دموع / اتنين عاشقين قاعدين دايبين / عم يحكوا سوا على ضوّ شموع / عينيهن ببعضن إيديهن بردانين / وشفافن عشاق مع بعض سهرانين / خلّي أبواب الليل علينا مسكّرين / ولا يعطش حدا منا ولا يجوع".

وتقدم هذه الأغنية صورة مثالية لعلاقة حب بين اثنين لا يطلبان من الحياة أكثر من استمرار الحب بينهما إلى الأبد، ورغم الليل وبرد الشتاء لا يحتاجان لا الماء ولا الطعام.

وفي أغنية "بعدك على بالي" يصبح الشتاء هو الغائب الحاضر، حيث تقول كلماتها: "بعدك على بالي / يا قمر الحلوين / يا سهر التشرين / يا دهب الغالي". وفي المقطع الأخير تقول: "مرق الصيف بمواعيده / والهوا لملّم عناقيده / ولا عرفنا خبر عنك يا قمر / ولا حدا لوّح لنا بإيده / بتطل الليالي وبتروح الليالي / وبعدك على بالي".

وهي هنا تعترف بأنه بنهاية الصيف تأتي عواصف الخريف والشتاء، وينقطع كل الأمل في احتمال عودة الحبيب مرة أخرى هذا العام، طالما جاء الشتاء فقد ذهبت فرص اللقاء، ولكن ما زلت يا حبيبي دائمًا على بالي وأتذكرك كل لحظة، ولكن فرص اللقاء ضاعت مع قدوم الشتاء.

أما أغنية "فايق عليّ" فهي تقدم صورة جميلة لسنوات الطفولة والصبا، ويقول الرحبانية: "فايق عليّ فايق عليّ / نحنا اللي كنا بهاك العليّة / نبقى نقعد بالقناطر وقت الشتوية / من زمان وزمان نحنا كنا جيران / تبقوا تيجوا لعنا نقعد سوا ونتمنى / ونصوّر عالحِيْطان ونقول لك يا شيطان وقعت المزهرية / بعدتنا الطريق عن الطريق العتيق / ما دري كيف التقينا صدفة وضحكوا عيونا / ضحكت عالحِيطان صورنا من زمان / صبيّ ناطر صبيّة".

كما نلاحظ الولد والبنت يجلسان بالقناطر وقت سقوط الأمطار، وهي ذكريات بعيدة لكنها ما زالت ماثلة في الأذهان عصيّة على النسيان.

انفرد زياد الرحباني بالتلحين لأمه طوال سنوات، وهو يكتب كلمات لها طابع الوصف الذاتي في المدينة وفي البيت بين الأحباب والأصدقاء. وعلاقته بفصول السنة-حيث تعاقب الصيف والشتاء-  ليست مثل والده وعمه "الأخوين رحباني" لاختلاف النشأة والبيئة التي عاش فيها "الأخوين" وسط الطبيعة. لكن توجد أغنية بعنوان "بتذكرك بالخريف" من ألبوم "ولا كيف"، كتب كلماتها زياد واقتبس اللحن من مقطوعة بديعة لموسيقى الجاز أداء جاك بريفير وجوزيف كوزما، يقول فيها:

"بتذكرك كل ما تيجي لتغيم / وجهك بيذكّر بالخريف / بترجعلي كل ما الدنيا بدها تعتم / متل الهوا اللي مبلّش ع الخفيف / القصة مش طقس يا حبيبي / هاي قصة ماضي كان عنيف / بعده أليف / بعدك ظريف / بعده بيعنيلك متل الخريف / خبرني إن/ بعدك بتحن / ما بعرف ليش عم تحكي ولا كيف".

والشاعر هنا يخاطب صديقته التي يتذكرها كلما جاء الخريف.

أخبار الساعة