يا صديقى القارئ، اسمح لى أن أبوح لك منذ اللحظة الأولى بأن الحديث عن نجيب محفوظ ليس حديثًا عن كاتب عابر، ولا عن روائى شهير نال جائزة نوبل فحسب، بل هو حديث عن رجل اختار أن يكون عقلاً يمشى فى الشارع، وأن يجعل من الأدب مساحة نادرة يلتقى فيها السؤال الدينى بالسؤال الفلسفى دون خوف، وكلما ذُكر اسمه أمامى، شعرت أننى لا أتذكر روائيًا قدر ما أتذكر مشعلًا أضاء للعقل المصرى طريقًا كان مظلمًا طويلًا. لقد كتب محفوظ ليحرك الماء الراكد، لا ليهدم اليقين، وليفتح باب الفهم، لا باب الشك.
حين أدخل عالمه يا عزيزى، أشعر دائمًا أننى أمام كاتب احترم المقدّس بما يكفى ليتأمله، لا ليبتعد عنه. فالأديب الذى يقترب من تلك المنطقة الحسّاسة لا يقترب ليجرح، بل ليكشف عمق الأسئلة التى يخفيها البشر وراء طبقات العادة. ولذلك، حين انقسم الناس حول محفوظ، لم يكن انقسامًا حول النوايا، بل حول جرأة عقل يقترح قراءة جديدة لعلاقة الإنسان بالسماء، قراءة لا تختزل الإيمان، لكنها تمنحه حياة جديدة داخل وعى الإنسان.
وخذ مثلًا «أولاد حارتنا»، الرواية التى حملت على كتفيها أكثر مما حملت أى رواية مصرية أخرى. يا صديقى، من الظلم أن تُقرأ هذه الرواية على أنها تفكيك للمقدّس؛ إنها فى حقيقتها محاولة لفهم مسار الإنسان فى تاريخ طويل من البحث عن العدل، عن الحماية، وعن معنى الوجود. الأنبياء هنا لا يظهرون بصورة تُنقص مقامهم، بل بصور تجعل حضورهم أقرب وأكثر إنسانية، وكأن محفوظ يقول لك: لولا أن الإنسان يعرف الألم والضعف والصراع، لما استطاع أن يفهم قيمة النور.
أما «الجبلاوى» الذى غاب عن الحارة، فقد رآه كثيرون انسحابًا إلهيًا من النص، بينما يراه آخرون – وأنا منهم – تشكيلًا فنيًا ذكيًا يجعل حضور المطلق أعمق، لا أبعد. لأن الغياب نفسه يصبح طريقة لإعادة طرح السؤال: ماذا يفعل الإنسان حين يُترك لاختباره؟ هل يختار الخير؟ هل يستطيع أن يدير حياته بضمير؟ محفوظ لم يسخر من المقدس، بل جعله خلفية كبيرة يختبر من خلالها قدرة الإنسان على تحمّل مسئوليته فى الأرض.
ولعل أعظم ما فعله محفوظ يا صديقى أنه لم يجعل الشك نقيض الإيمان، بل جعله طريقًا إلى الإيمان الواعى، هو لم يزرع الشك فى الروح، بل زرع حركة فى العقل لأن الإيمان الذى لا يُمتحَن يتحول إلى عادة، والعادة تنطفئ. أما الإيمان الذى يمرّ عبر السؤال فيولد من جديد. وهكذا تبدو روايات محفوظ: ليست محوًا لليقين، بل تطهير له من الركود، ومحاولة لصنع يقين أقوى وأعمق.
تأمل معى الطريقة التى يصنع بها محفوظ مصائر أبطاله. الكاتب ليس «قدرًا» ينافس القدر الإلهى، بل هو صانع رموز يقودنا من خلال قصص البشر إلى إدراك أن الإنسان صانع اختياره، وأن الحرية ليست خروجًا على المقدّس، بل وسيلة لفهمه، الشخصيات التى تتمرد وتبحث وتخطئ وتعود، لا تُقدم نموذجًا لإلغاء القدر، بل نموذج لفهمه بطريقة أدق. إنها تقول لك: القدر ليس إلغاءً لحرية الإنسان، بل إطارٌ يتحرك داخله وعيه ومسئوليته.
ويا عزيزى، لئن وجد البعض فى أدب محفوظ ما يخيف، فإن ذلك الخوف لا يأتى من عداء للنص الدينى، بل من قوة الأسئلة التى يطرحها النص الأدبى. والأسئلة القوية ليست خطرًا على الإيمان، بل خطر على الجمود. محفوظ أراد أن يعيد إحياء العقل المسلم، لا أن ينتقص من إيمانه. أراد أن يعلّم القارئ أن الإيمان الجميل هو الذى يحمل قدرة على الفهم، لا الهروب. وهكذا تتحول رواياته إلى مرآة روحية لا ترى فيها ضعف الإنسان فحسب، بل ترى أيضًا حاجته إلى الرحمة، وإلى ما هو أعلى من ذاته.
وحتى حين يُظهر محفوظ الإنسان فى صراع مع القدر، فهو لا يفعل ذلك لينكر السماء، بل ليبيّن أن الإنسان لا يفهم معنى الهداية إلا حين يختبر الضلال. ولا يعرف قيمة الرحمة إلا حين يرى قسوة الحياة. وهكذا يصنع محفوظ حالة روحية بطريقته: ليس بالدعوة المباشرة، بل بالكشف التدريجى لمعنى الإنسان، وهو يواجه نفسه فى عالم مليء بالغموض.
يا صديقي، إن سرّ نجيب محفوظ ليس فى أنه كتب رواية نجحت، بل فى أنه كتب روايات أيقظت الوعى. هذا الكاتب لم يهدم المقدّس، بل أعاد اكتشافه. لم يطفئ نور الإيمان، بل أعاد إليه أسئلته الأولى التى تجعله حيًّا. ولذلك، لا يزال محفوظ إلى اليوم ظاهرة لا تهدأ، لأنه كلما قرأته وجدت نفسك تفكر أكثر، وتتأمل أكثر، وتشعر أن الإيمان لا يُختصر فى كلمات، بل فى رحلة طويلة من الفهم.
ولهذا سيبقى محفوظ كاتبًا نادرًا: اقترب من النار، لكنه لم يحترق. فتح باب السؤال، لكنه لم يغلق باب الإيمان. أخذ بيد القارئ إلى منطقة حساسة، لكنه لم يتركه فيها ضائعًا. بل جعله يرى أن العقل ليس ضد الروح، وأن السؤال ليس ضد القداسة، وأن الأدب العظيم هو الذى يوقظ، لا الذى يهدم. وهكذا يبقى محفوظ، فى نظرى يا عزيزى القارئ، الكاتب الذى أعطى للمقدّس قيمة جديدة حين جعله جزءًا من رحلة الإنسان.. لا ظلًا بعيدًا فوق رأسه.