النوايا الطيبة لا تصنع بالضرورة أفلامًا جيدة، ولو كانت الأفلام بالنيات لاستحقت كل أفلام العالم جائزة الأوسكار، ليس لدىّ أدنى شك فى أن كل عناصر فيلم «الست» كانوا يمنون أنفسهم بتقديم فيلم يليق بقيمة كوكب الشرق، ويمثل إضافة محسوسة لأسمائهم الفنية البراقة، لكن جبل الأمنيات الطيبة تمخض فولد فيلمًا أقل ما يمكن وصفه بأنه لم يلبِّ طموحات المشاهدين الذين انتظروه على مدى سنتين أو أكثر، أما طموحات مَن صنعوه فهم أكثر قدرة على التعبير عنها.
مع هذا، فالفيلم ليس بهذا السوء الذى تصورته قبل مشاهدته، أو ليس بذلك الانطباع السلبى الذى تسرب إلىّ بعد مشاهدة «التريلر» الخاص به، وأعلم تماما تلك الصعوبات التى يمكن أن تواجه التصدى لعمل كهذا، وكمّ التحديات التى واجهت صُناعه حتى يقدموا فيلما جديرا بالمشاهدة تطارده نظرات الترقب حسنة النية، وتلاحقه فى الوقت ذاته لعنات المتربصين حتى من قبل ظهوره.
أول هذه التحديات أنه فيلم عن امرأة خارقة للعادة، فأم كلثوم ليست فقط مجرد مطربة تربعت على عرش الغناء، وإنما هى أيضا عنوان عصر بأكمله كانت فيه لاعبا أساسيا على مسرح الحيوات السياسية والاجتماعية والفنية فى مصر والوطن العربى، وثانيها كيف يتم تقديم سيرة حياة فيها من الثراء والتأثير ما أخذ من عمر الزمن أكثر من خمسة وسبعين عاما فى فيلم لا تزيد مدته على ساعتين ونصف الساعة أو حتى ثلاث ساعات؟ ثم ما هو الجديد الذى يمكن تقديمه فى سيرة حياة كوكب الشرق بعد مسلسل تليفزيونى ضخم وفيلم سينمائى وعشرات الأفلام والبرامج الوثائقية والكتب والمقالات والدراسات؟ كذلك ماذا عمن يمكن أن تؤدى دور «الست» بكل ألقها ونجوميتها وتلك الكاريزما التى صنعتها على مدى عشرات السنين؟ ناهيك عن المقارنات بين الحقيقة والفيلم، وبين الجديد وما سبقه من تجارب تناولت السيرة الكلثومية، وتلك الحساسية التى تغلف نظرة المتلقى لأى عمل يتناول هذا الكيان الزجاجى المكتوب عليه ممنوع الخدش أو الاقتراب مع أن أم كلثوم هى فى النهاية إنسانة وليست قديسة أو ملاكا، وكان الرأى -فى يقينى أمام كل هذه التحديات- هو عدم تقديم عمل جديد عن كوكب الشرق اكتفاء بما تقدم من قبل، أو إذا كان من الضرورى فالأصوب اختيار فترة زمنية محددة أو حالة بعينها يتم التركيز عليها فى فيلم على غرار تجربة «ناصر 56»، حتى يكون التناول أكثر عمقا وقدرة على التركيز والإمتاع.
أما وقد اختار صُناع الفيلم تقديم تجربتهم الخاصة، فهم بالنهاية مسئولون عن اختيارهم بعد أن قبلوا كل تلك التحديات، سيقولون لك إنهم يدركون من البداية أنهم لن يستطيعوا فى مائة وستين دقيقة تقديم حياة أم كلثوم بكل تفاصيلها، ومن ثم فقد اختاروا مواقف شخصية وفنية معينة تم التركيز عليها، قل لهم إن فيلما عن أم كلثوم من الطفولة إلى الممات لا يأتى على ذكر مكتشفها الشيخ أبو العلا محمد، أو أى من زكريا أحمد ورياض السنباطى ومحمد عبدالوهاب وبليغ حمدى حتى ولو مجرد ذكر عابر لهو خلل واضح فى تلك السردية الكلثومية، وإن ما اختاروه من مواقف قد أصاب الفيلم بالتفكك والعشوائية وحالة من اللهاث خلف هذا التقطيع المونتاجى المبالغ فيه لا سيما فى نصفه الأول، سيقولون لك إن ذلك راجع لرغبتهم فى أن يستوعب زمن الفيلم مهما طال أكبر كم من المواقف الكلثومية، قل لهم إن هذا تسبب فى إرباك إيقاع الفيلم بين مشاهد غير مشبعة فى معظم أجزائه، وأخرى بطيئة كان من الممكن اختزالها، سيقولون لك إن هذا الإيقاع الذى يفضلون تسميته بالمتنوع أو المتباين كان لضرورة درامية للتفرقة بين حياة صاخبة مليئة بالأحداث المتصاعدة، وبين لحظات إنسانية خالصة عانت فيها أم كلثوم وحدها بعيدا عن الناس وتلك الهالة القوية التى أحاطت بها نفسها، قل لهم إن هذا مفهوم ولكن كان بالإمكان إحداث التوازن الإيقاعى بين هذه وتلك تفادية للخلل البنائى، سيقولون لك إنهم أرادوا تقديم الجديد من خلال تجاربها العاطفية المبتورة مع كل من رامى والقصبجى وشريف باشا صبرى ومحمود الشريف، قل لهم إن فيلم كوكب الشرق للمؤلف إبراهيم الموجى والمخرج محمد فاضل قد فعل الشيء نفسه قبل نحو ربع قرن.
ثم إنهم سيقولون لك إنهم أرادوا من خلال استخدامهم مشاهد الأبيض والأسود تقديم ثراء بصرى متنوع ومعبر، قل لهم إنه فقد مدلوله ورمزيته، والغرض منه باستخدامه غير المنضبط بين الرجوع إلى الماضى على طريقة «الفلاش باك» أحيانا وبين التعبير عن معاناة أم كلثوم الصامتة بعيدا عن الأعين فى أحيان أخرى، سيقولون لك إن موسيقى هشام نزيه كانت رائعة، قل لهم ربما كانت كذلك فى ذاتها، لكنها لم تكن موائمة لأجواء الفيلم والمزج والتداخل بينها وبين أغنيات أم كلثوم الحقيقية سواء بصوت نسمة محجوب أو بصوت كوكب الشرق نفسها ما أفقد المشاهد انسجامه وكسر إيهامه بصورة سيئة، سيقولون لك إن منى زكى فى دور كوكب الشرق كان اختيار الضرورة حتى لو كانت بعيدة الشبه عن أم كلثوم، إذ ليس هناك من بين ممثلات جيلها مَن هى أفضل منها من حيث الاسم التجارى والقدرة الفنية، وإنهم أرادوا لها تقديم روح «الست» وليس تقليدها، قل لهم إن أحدا لا يستطيع أن ينكر الجهد الخارق الذى بذلته منى زكى فى تجسيد الشخصية، ويكفيها أنها تحملت وحدها تقريبا عبء انطباعات الجمهور، لكن الفارق كبير بين الجهد المبذول والقدرة على الوصول إلى الهدف، وفى كرة القدم هناك لاعبون يبذلون طوال المباراة جهدا خارقا لكنهم لا يصلون إلى المرمى ولا يستطيعون التهديف لأنهم يلعبون فى غير أماكنهم بالملعب، ثم إن طبيعة تكوين منى زكى الشكلى والجسمانى والصوتى لم تمكنها من التعبير عن حدة وصلابة وعصبية شخصية أم كلثوم، ولذلك كان أداؤها أفضل بكثير فى المواقف الإنسانية التى استدعت فيها الهدوء والدعة، وفى كلتا الحالتين، فقد أفسد المونتاج على منى زكى أى جهد مبذول فى الوصول لا إلى الشكل العام ولا إلى روح الشخصية، وأسهم كثيرا هو أيضا فى كسر الإيهام لدى المتلقى.
و... سيقولون لك إننا نقدم فيلما مستوحى من سيرة حياة أم كلثوم وليس توثيقا لها، قل لهم إن هذا لا يبرر على الإطلاق الوقوع فى الأخطاء التاريخية والمعلوماتية التى أفقدت الفيلم قدرا لا يستهان به من مصداقيته لأنه افتقد للضبط التاريخى من أول مزامنة أغنيات أم كلثوم مع الوقائع المختارة وحتى تفاصيل بعض هذه الوقائع وتواريخها، يكفيهم فقط ما يتعلق بذكر مجلتى «الكواكب» و«آخر ساعة»، أو رصاص القصبجى الذى طاش تعبيرا عن غضبه بعد زواج أم كلثوم من محمود الشريف، أو أغنية «مصر التى فى خاطرى وفى فمى» التى زعموا أن تأليفها وتلحينها وبروفاتها تم كله فى ليلة واحدة، والفارق كبير يا عزيزى أحمد مراد بين أن تكون مؤلفا روائيا عظيما أو حتى كاتب سيناريو متميزا وبين أن تكون محققا سينمائيا لسيرة أحد من المشاهير يحفظ الكثيرون تفاصيلها عن ظهر قلب، ولا أدرى طبيعة الدور الذى لعبه مراجعو المادة العلمية والتاريخية إن كان لهم دور حقيقى بالفعل.
لكن.. إذا قالوا لك إنهم أنفقوا على الفيلم بسخاء ولم يبخلوا عليه إنتاجيا، وليس ذنبهم ما بدا عليه من سلبيات، قل لهم أنتم على حق، وإذا قالوا لك إن المخرج مروان حامد ومدير التصوير عبدالسلام موسى قدما رؤية بصرية باهرة، قل لهم أنتم على صواب أيضا، وإذا قالوا لك إنهم أرادوا فى فيلمهم تقديم أم كلثوم الست وليس فقط الست أم كلثوم قل لهم لقد نجحتم بامتياز، وإذا قالوا لك إنهم تمردوا على قدسية أبطال دراما السير الذاتية وأظهروا سيدة الغناء العربى فى طبيعتها الإنسية غير الملائكية، قل لهم نعم فعلتموها أخيرا، و... إذا قالوا لك إنهم لم يقدموا بالنهاية فيلما مملا رغم تجاوزه حاجز الساعتين ونصف الساعة، قل لهم هذا صحيح بالطبع، ولكن هل كان هذا كافيا لتقديم فيلم استثنائى عن سيدة استثنائية فى تاريخ مصر والعرب؟