الدكتورة نهاد جاد، مدرس واستشارى الطب الشرعى والسموم الإكلينيكية، كلية الطب بجامعة الإسكندرية، كانت حديث السوشيال ميديا خلال الأيام القليلة الماضية، بعدما كشفت لغز وفاة الأشقاء الستة ووالدهم بالمنيا، وللوقوف على تفاصيل مشاركتها بالقضية كان حديثها لمجلة «المصور».
«د. نهاد»، تحدثت عن توقعها بتسمم ناتج عن مبيد حشرى شديد السمية «كلورفينابير» خاصة باطلاعها على حالتى تسمم بنفس المادة خلال العامين الماضيين، وناشدت وزارة الزراعة حظر تداولها أو على الأقل تقنين صرفها، وتحدثت أيضا عن مختلف أنواع السموم وانتشارها واختلاف طبيعتها ما بين المدن الكبرى والقرى والمراكز، وكذلك طبيعة التعامل مع الأنواع المختلفة.
«سبب الوفاة هو تسمم المجنى عليهم بمبيد حشرى شديد السُميّة يُسمى “الكلورفينابير”، حيث أسفرت المعاينة وفحص العينات المأخوذة من أوانى تقديم الطعام وبقايا الخبز عن احتوائها على المبيد السام المشار إليه، كما تبين وجود آثاره بمعدات الطهى وإعداد الخبز فى منزل الزوجة الثانية».. هذه كانت النتيجة التى جاءت فى بيان النيابة العامة بشأن واقعة وفاة ستة أطفال ووالدهم بمركز ديرمواس بمحافظة المنيا.
النتيجة التى أثلجت صدور كثير من المتابعين لقضية أطفال المنيا رغم مرارة وقسوة الحادثة إلا أن معرفة سبب الوفاة كان أمرا مهما، خاصة مع تردد أقاويل ومخاوف فى البداية من وجود مرض معدٍ أو إصابتهم بالتهاب سحائى وهو ما نفته وزارة الصحة فى بيان لها، ليظل لغز الوفاة محيرا حتى إن البعض اتجه للحديث عن سحر وأمور أخرى.
استشارة طلبتها الطبيبة المعالجة للحالات كانت أول الخيط لحل اللغز، بتواصلها عبر مواقع التواصل الاجتماعى «ماسنجر» و«تليجرام» بالدكتورة نهاد جاد، لتضع توقعها بأن الوفاة بسبب تسمم بمبيد حشرى شديد السُميّة يُسمى «كلورفينابير».
«د. نهاد»، تحدثت عن بداية مشاركتها بقضية أطفال المنيا قائلة: تخصصى طب شرعى وسموم وبالأخص السموم الإكلينيكية التى تتعامل مع حالات التسمم الحاد سواء تسمما غذائيا أو كيميائيا أو غيره، حالات الجرعات الزائدة والحادة من الإدمان، حالات اللدغات بأنواعها من عقارب وثعابين وعناكب، كل ذلك يصب فى مركز سموم الإسكندرية، وهو من المراكز الكبرى ويخدم كافة المحافظات المجاورة، وبدأت تباعًا وزارة الصحة تفتتح وحدات سموم ببعض المستشفيات، وهذا قلل الضغط على المركز، منها وحدة سموم مركز حوش عيسى التى أتولى إدارتها، فى واقعة حادثة المنيا بدأت مشاركتى كطبيب سموم من خلال الدكتورة مروة رمضان المسئولة عن علاج الحالات بعد أسبوع من دخول الحالات المستشفى، تواصلت معى عن طريق الماسنجر وقناة التليجرام، ولأن تخصص السموم الإكلينكية نادر أتواصل مع مختلف الأطباء من مصر ومن مختلف الدول العربية عبر «تليجرام».
وتابعت: فى أول تواصل شرحت لى طبيعة الإصابة والأعراض من ترجيع وارتفاع فى درجة الحرارة واضطراب فى درجة الوعى ووفاة 4 حالات وحضرت طفلة أخرى وتوفيت، وقالت إن نتائج التحاليل سلبية للميكروبات وكذلك أنواع التسمم التى أجريت تحاليل لها جاءت سلبية، وهنا المشكلة أنه لا يوجد تحليل معين يظهر مختلف أنواع التسمم، فلا بد من افتراض نوع المادة السامة ثم إجراء التحليل الخاص بها، وكان سؤالها لى هل هذه حالات تسمم؟، وكانت إجابتى إنها بالتأكيد حالات تسمم، وبمراجعة الأعراض بجانب أنها ظهرت بعد يومين من تناولها، وكان تفكيرى كله فى مادة معينة، وهى ليست منتشرة ولم أرَ سوى حالتين فقط منذ عامين تسمم بهذه المادة، وقبل ذكر اسم المادة طلبت منها للتأكد إجراء رنين مغناطيسى على المخ للطفلة الموجودة بالمستشفى ووالدها، وبعد إجراء الرنين تبين وجود تآكل للمادة البيضاء للمخ والنخاع الشوكى، وبهذا تأكدت من أن التسمم ناتج عن وجودة مادة «كلورفينابير»، وهى أكياس مبيد ترش على المحاصيل الموالح وتستخدم كمبيد حشرى، وهى مادة خطيرة تعمل على المخ خلال أيام تدمره ولا يوجد مضاد للتسمم بها ولا بد من التدخل فى أول يوم، وأخبرتنى أن الدكتور المشرف على الحالات د. محمد إسماعيل عبد الحافظ أستاذ السموم بالمنيا والمشرف على علاجها، سيتواصل معى، وتم التواصل وشرحت له تفاصيل المادة.
«د. نهاد»، أضافت: من بعدها تواصل معى د. راضى حماد رئيس قطاع الطب الوقائى بالوزارة، ودعانى لاجتماع عاجل مع نائب وزير الصحة الدكتور عمرو قنديل، بحضور اللجنة المشكلة لعلاج الحالات، وطلبوا دليلا علميا على أن هذه المادة المسببة، وشرحت أن هذه المادة بخلاف مواد التسمم الأخرى تسبب حرارة واضطرابا فى الوعى، ولا تظهر الأعراض مباشرة، فمن خواص المادة أن الأعراض تظهر من بعد يومين إلى أسبوع من تناولها وتستغرق نحو 21 يوما لحدوث الوفاة بحسب الكمية التى تناولها الشخص وسنه ووزنه، أيضا هذه المادة تزيد سميتها بالحرارة، وبالتالى كان التوجه للبحث فى طعام تم طهيه أو خبز، خاصة أن هذه المادة بعد رشها على المحاصيل لو تعرضت لأشعة الشمس لفترة طويلة تتحول لسمية أشد، وكان الرد أنه جاء بالمحضر أن الخبر كان مرا جدا، وكان القرار بالبحث فى الخبز، وكذلك البحث فى أجسام الحالات عن هذه المادة مع العلم أنها تختفى فى الجسم بعد 4 أو 6 ساعات، وبالتالى البحث عن المادة التى تتحول لها داخل الجسم نتيجة الهضم والتكسير سواء فى الدم أو بول بالمثانة أو عينات حشوية من المخ وبالفعل وجدوه وتم حل اللغز.
من بين قرارات الاجتماع العاجل كان توجيه الدكتور عمرو قنديل، لـ«د. نهاد» بالإشراف على وضع بروتوكول توعية والإسعافات الأولية وكيفية التعامل مع حالات التسمم من مبيد «كلورفينابير»، وقالت «د. نهاد» : تلقيت مقترحات من أعضاء اللجنة، وأضفت عليها وانتهى الأمر بوضع بروتوكول باللغتين العربية والإنجليزية، وهو حاليا فى مرحلة النشر بالمستشفيات ومراكز السموم والوحدات، البروتوكول يتضمن كيفية التعامل مع مثل هذه الحالات، البروتوكول توعية للفريق الطبى بهذه المادة وكيفية التعامل مع الحالة، خاصة أن هذه المادة ممكن علاجها فى أول يوم، من خلال إجراء غسيل معدة وغسيل كلوى دائم لمدة يوم أو يومين للتخلص من المادة فى الجسم قبل وصولها للمخ، ويتضمن أيضا التعريف بالمادة وخواصها والأعراض والفحوص المطلوبة والعلاج، مع توعية للمواطنين أن أى تعامل مع المبيدات يتطلب ارتداء جوانتى وغسيل الأيدى جيدا، وحتى الفريق الطبى فى تعامله مع الحالات يرتدى الملابس الواقية.
ظهرت نتيجة التحاليل وتم الإعلان عن أن الوفاة نتيجة تسمم بالمبيد الحشرى «كلورفينابير»، كما توقعت «د. نهاد» وهنا قالت: كنت سعيدة جدا بظهور النتيجة وبصحة توقعاتى بشأن المادة، خاصة أنه كانت هناك آراء تنصحنى بعدم المشاركة خوفا من الخطأ أو الإحراج، لأنها قضية رأى عام، وتحملت أسرتى؛ زوجى وطفلى أحدهما ثلاث سنوات وآخر لم يتم عامه الثانى بعد مشقة السفر لأكثر من 10 ساعات، من الإسكندرية للعاصمة الإدارية، اليوم كان صعبا ضمن موجة الحر، ورغم توفر إمكانية المشاركة عبر تقنية «زووم»، فضلت الحضور لإثبات هذه المادة وخواصها وتقديم مفاتيح لكشف اللغز، فبفضل ربنا كنت متأكدة من هذه المادة، وكانت نتيجة المشقة مُرضية جدا لإثبات حق الأطفال.
انتقلت «د. نهاد»، بعد ذلك للحديث عن حالات التسمم، وقالت: فى الصيف تقابلنا حالات كثيرة تسمم ناتجة عن المبيدات، ولدغات كثيرة، وبالنسبة لحالات المبيدات لو تبين أنه استنشاق يتم وضعه على أوكسجين وعمل جلسات استنشاق ومتابعة الأعراض، التخلص من الملابس وغسيل الجسم جيدا، لو لدغات يتم التعامل معها بالأمصال سواء العقرب أو الثعبان، ومؤخرا ظهر فى البحيرة حالة تسمم من لدغ كوبرا نتج عنها شلل لكل أعضاء الجسم وفقدان للوعى، لذا استوجبت جرعات كبيرة من المصل، والحالة تلقت 70 أمبول مصل، وتعافى الشخص بفضل الله، أيضا التسمم نتيجة أقراص الغلة، وللأسف انتشر استخدامها فى الانتحار، ومن أهم خطوات التعامل معها ممنوع عمل غسيل معدة بالمياه، ويتم إعطاء الحالة زيت برافين، وفى فترة كان من الممكن تردد خمس حالات فى اليوم تناولت قرص غلة، وميزته أنه يكشف عن نفسه خلال نصف ساعة تظهر أعراض حموضة شديدة فى الدم، ضغط غير مسموع، ورائحته ظاهرة، أما «كلورفينابير» خدّاع، وفترة حضانته من يومين لأسبوع.
«د. نهاد» تعمل بمركز السموم بمدينة كبرى وهى الإسكندرية وهو من أكبر المراكز، وفى نفس الوقت مديرة لوحدة سموم بمركز حوش عيسى، وعن الاختلاف بين طبيعة حالات التسمم قالت: فى حوش عيسى بالبحيرة دائما حالات التسمم ناتجة عن استنشاق المبيدات الحشرية وكذلك لدغات العقرب والثعبان، أو حالات تسمم قرص الغلة، أما فى الإسكندرية فتتردد حالات تسمم أو الانتحار بأقراص الأدوية النفسية أو الجرعات الزائدة من الإدمان.
صعوبة التعامل مع حالات التسمم تحدثت عنها قائلة: توجد مواد تُحدث اضطرابا شديدا بالوعي، وتكون الصعوبة فى الحالة الحفاظ على المخ وتركيب أنبوبة حنجرية قبل أن تسوء الحالة، فإذا حصل للمخ نقص أوكسجين خلال 10 أو 15 دقيقة تموت الخلايا العصبية، وبالتالى التخوف من أنواع السموم المغيِّبة للوعى مثل بعض الأدوية والمبيدات، لكن لو الحالة حضرت بدرجة وعى جيدة يتم إعطاؤها المضاد للسم والتعامل معها، فيكون الوضع أفضل.
تخصص السموم الإكلينيكية من التخصصات النادرة، وهو ما أوضحته «د. نهاد» بقولها: علم السموم الإكلينيكية، يتضمن التعامل مع حالات التسمم الحاد، ودائما المتخصص به هم أساتذة السموم الإكلينيكية بالجامعات، وهو ضمن تخصص الطب الشرعى والسموم الإكلينيكية، يتم التعامل مع الحالات كطوارئ سموم، حالات خطيرة، والندرة بسبب كون الماجستير والدراسات العليا لمن هم بالجامعة، والمفترض التوسع فى هذا التخصص، لأنه لا يخلو مكان للطوارئ من سموم، خاصة مع زيادة حالات الانتحار والإدمان، وأنشأت «جروب» على تطبيق «تليجرام» لأطباء الطوارئ فى مصر والوطن العربى، وأتلقى الأسئلة الخاصة بالسموم ويتم الرد عليها، لأنه تخصص نادر، ولإسعاف الحالات ابتغاء ثواب نشر العلم، فاختيار التخصص لم يكن مصادفة ولكنه كان هدفا لى من البداية، تخرجت فى كلية طب الإسكندرية، ثم عينت معيدة بالكلية عام 2017، ثم مدرسا مساعدا 2019، ثم مدرسا 2023، ثم استشاريا بطب إسكندرية ومدير وحدة السموم بمركز حوش عيسى بالبحيرة».
شاركت «د. نهاد»، فى قضايا سابقة من قبيل الاطلاع على تقارير أو مراجعتها، لكن قضية المنيا تعد الأولى كقضية رأى عام التى تشارك فيها كطبيب سموم وليس كطب شرعي، وقالت: لا أنسى واقعة حضور أربع فتيات من العامرية فى المرحلة الإعدادية، توفيت واحدة، وأخرى تم وضعها بالرعاية المركزة، وحالتين متوسطة، القصة بدأت بتناول «جاتوه» بعد انتهاء الامتحان من محل بجوار المدرسة، ظهرت أعراض قيء وألم بالبطن وفشل فى التنفس، وهذه أعراض تسمم بمبيد حشرى أو سم فئران، توقعت أن صاحب المحل قام برش المكان مثلا، لكن التحريات وقتها أثبتت أن واحدة من الفتيات وضعت حبيبات سم الفئران بين طبقات الجاتوه انتقاما منهن لأن مستواهن الدراسى أفضل منها، وكانت الغرابة بالنسبة لى أن أطفالا فى هذا العمر تفكر بهذه الطريقة، وهذه من الحالات التى لا تُنسى.
وتابعت: فى البحيرة حضرت فتاة تناولت شريطى دواء للقلب، وكاد قلبها يتوقف، ووضع لها بروتوكولا علاجيا لمدة 3 أو 4 أيام واستقرت حالتها، وفى السنوات الأخيرة بدأنا نرى حالات تسمم من أنواع مختلفة، منها الواقعة الأخيرة بالمنيا كانت ناتجة عن مادة غير منتشر استخدامها، وغير متكررة، وكل فترة يظهر نوع ينتشر، ومضادات السموم والأمصال توفرها وزارة الصحة، لمختلف الحالات، لكن منذ عام ونصف العام تقريبا بدأت تظهر العناكب السامة، ولم تكن لدينا من قبل وحاليا ليس لها أمصال.
كما قدمت «د. نهاد»، مجموعة من النصائح، حيث قالت: بالنسبة للمزارعين لا بد من استخدام ملابس واقية ووضع وسيلة حماية على الوجه، وجوانتى وتغيير الملابس فور الانتهاء والاستحمام وغسيل الأيدى جيدا، لأن تسمم المبيدات الحشرية ممكن يحدث عن طريق الاستنشاق أو عن طريق الجلد وغيرها، أيضا لا بد من منع تداول مادة «كلورفينابير» لخطورتها التى تصل لتآكل للمادة البيضاء بالمخ، وهنا نناشد وزارة الزراعة منع تداول هذه المادة لأنها لو انتشرت ستكون كارثة، خاصة أن التسمم بهذه المادة سواء بالاستنشاق أو بالأكل لا تظهر أعراضهإلا بعد يومين أو ثلاثة ووقتها تكون وصلت للمخ، فالحالتان اللتان رأيتهما من قبل حضرتا بعد خمسة أيام، منهما حالة لفتاة عمرها نحو 15 سنة تناولت «كلورفينابير» بغرض الانتحار، لذا أناشد وزارة الزراعة بمنع تداولها أو على الأقل، تقنين الصرف ومتابعة استخدامها، ودليل خطورتها أنه لو تبين وجودها على المحاصيل يرفض المستوردون المحصول.

