على إيقاع حرب غزة وما خلفته من زلازل سياسية وأخلاقية داخل القارة الأوروبية، بات هناك تحول استراتيجى فى مواقف عواصم بارزة على رأسها باريس ولندن ولشبونة، حيث بات الاعتراف بالدولة الفلسطينية أقرب من أى وقت مضى، تزامنًا مع أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، على الرغم من الاعتراض الأمريكى الفج.
فى هذا الحوار، يقرأ خالد مصطفى، الخبير فى الشئون الأوروبية، خريطة المواقف داخل الاتحاد الأوروبي، ويحلل كيف دفعت التحركات المصرية هذه العواصم إلى إعادة صياغة رؤيتها تجاه الصراع، كما يوضح إلى أى مدى يمكن أن تشكل خطوات الاعتراف ركيزة استراتيجية تمنع تصفية القضية الفلسطينية أو تجاوزها.
«مصطفى» أكد أن القاهرة تحركت بخطة دبلوماسية متدرجة وضعت أوروبا أمام مسئوليتها التاريخية، ليبدأ ميزان الشرعية الدولية فى التغيير، بعدما أصبح الرأى العام الأوروبى نفسه أكثر انحيازاً لحقوق الشعب الفلسطينى بعد سنوات من هيمنة الرواية الإسرائيلية.. وإلى نص الحوار.
بداية.. ما تأثير خطوات بعض الدول الأوروبية (مثل فرنسا والمملكة المتحدة) فى الاعتراف بدولة فلسطين؟
الاعتراف بالدولة الفلسطينية داخل أوروبا أصبح تعبيراً عن تحول سياسى عميق فى القارة العجوز، فبالفعل تخطى موضوع الاعتراف بالدولة الفلسطينية داخل أوروبا حالة الجدل، وأصبح حقيقة خاصة مع اقتراب فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
فرنسا على سبيل المثال، ونظراً لثقلها السياسى والعسكرى وكونها عضواً دائماً فى مجلس الأمن، أعلنت أنها ستعترف بالدولة الفلسطينية، وبالتالى ترسل إشارة واضحة للعالم بأن ميزان الشرعية الدولية بدأ يتغير، وأن أوروبا لم تعد أسيرة للرؤية الأمريكية – الإسرائيلية، وأن هذه الخطوة ليست رمزية فقط، بل تعيد تعريف موقع فرنسا فى الشرق الأوسط وتجعلها لاعباً رئيسياً فى صياغة مستقبل القضية الفلسطينية.
ماذا عن الموقف البريطاني؟
بالنسبة لبريطانيا، فهى مترددة كعادتها وتقوم بعملية توازن ما بين ضغط الرأى العام البريطانى الذى يتعاطف بشكل غير مسبوق مع الفلسطينيين، وبين حسابات واشنطن وتل أبيب، لكن مجرد إعلانها أنها مستعدة للاعتراف، سيكون لذلك أثر فعلى يعكس إدراكاً بأن حتمية الاعتراف قادمة عاجلاً أم آجلاً، وأن منْ يتأخر قد يفقد القدرة على التأثير فى مسار الأحداث.
أما داخل الاتحاد الأوروبي، فيمكن القول إننا أمام زخم متزايد يشبه كرة الثلج، فدول مثل إسبانيا وإيرلندا وسلوفينيا ومالطا انضمت بالفعل للاعتراف بالدولة الفلسطينية، أما الاعتراف الفرنسى فسيفتح الباب أمام دول أوروبية كبرى أخرى. وعلى الرغم من تحفظ ألمانيا وإيطاليا، إلا أن الضغط الشعبى والسياسى هناك يتصاعد بقوة.
كيف لعبت مصر دور «المحفّز» لهذه الدول.. وما طبيعة الجهود التى تبذلها القاهرة مع العواصم الأوروبية لدفعها للاعتراف بالدولة الفلسطينية؟
الحراك المصرى داخل أوروبا نحو الاعتراف بدولة فلسطين لم يكن وليد لحظة انفعال سياسى أو ضغط إنسانى عابر، بل نتيجة جهود دبلوماسية ممتدة لعبت فيها مصر دور المحفّز والضامن فى آنٍ واحد.. فالقاهرة، بحكم موقعها الجغرافى وثقلها التاريخى والسياسي، كانت وما زالت حجر الزاوية فى أى مقاربة دولية تخص القضية الفلسطينية.
بالتأكيد مصر هى الصوت المحفّز والمرجعية السياسية منذ عقود، حيث أكدت القيادة المصرية أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس ترفاً سياسياً أو مجرد شعار، بل هو مفتاح الاستقرار الإقليمى وبوابة الحل العادل والدائم للصراع العربى – الإسرائيلي.
وفى الآونة الأخيرة، ومع تصاعد الكارثة الإنسانية فى غزة، تحركت القاهرة بخطاب عقلانى يربط بين ضرورة الاعتراف بالدولة الفلسطينية وبين مصلحة أوروبا المباشرة فى تجفيف منابع التطرف وتقليص موجات عدم الاستقرار.
وأثبتت مصر خلال هذه التحركات أنها تمتلك أدوات مهمة قد تساعد فى تحريك الموقف الأوروبي، منها التحرك الدبلوماسى المباشر للرئيس عبد الفتاح السيسى ووزارة الخارجية، حيث كثّفا اتصالاتهما مع قادة أوروبا مؤكدَين أن حل الدولتين لم يعد خياراً تفاوضياً مؤجلاً، بل أصبح ضرورة استراتيجية.
كما أن مصر قادت عمليات التنسيق «العربى – الأوروبي»، حيث كوّنت مع الأردن والسعودية جبهة عربية موحدة فى المحافل الدولية، ووضعت أوروبا أمام مسئوليتها التاريخية، وأهم الخطوات التى اتخذتها مصر هى إقناع قادة العالم بأن الأمن الإقليمى والمصالح العالمية تقتضى الاعتراف بفلسطين، حيث قدّمت القاهرة للأوروبيين حججاً واقعية بأن استمرار الاحتلال وغياب الحل يشكلان تهديداً مباشراً لأمن أوروبا، كما قد شرحت مصر دورها الإنسانى الخاص بفتح معبر رفح وإدخال المساعدات ونقل الجرحى، مما عزّز صورتها كفاعل مسئول يسعى للحلول لا لتأجيج الصراع.
إلى أى مدى يشكل هذا التوجه استراتيجية لمنع تصفية القضية أو تجاوزها فى ظل المتغيرات الإقليمية؟
يمكن القول إن هذا التوجه يشكل فى حد ذاته استراتيجية متعددة الأبعاد لمنع تصفية القضية أو تجاوزها، خصوصاً إذا وُضع فى سياق المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة، فالأمر لا يتعلق بمجرد مواقف سياسية أو بيانات دبلوماسية، بل هو محاولة لإعادة تثبيت القضية على أجندة الفاعلين الدوليين والإقليميين ومنع تحويلها إلى ملف ثانوى أو قابل للتجاوز.
كما يُعد هذا التوجه ركيزة استراتيجية فى منع تصفية القضية الفلسطينية أو تجاوزها، إذ ينهض بدور مزدوج: فمن جهة يعمل على إعادة تثبيت حضور القضية فى المشهدين الإقليمى والدولي، ومن جهة أخرى يعطل المساعى الرامية إلى تفريغها من مضمونها أو اختزالها فى حلول مؤقتة ومنقوصة.
وينبغى تعزيز أوراق التفاوض الفلسطيني، لأن أى تقدم على صعيد الاعتراف الدولى أو بناء موقف إقليمى موحد يمنح الفلسطينيين أدوات جديدة لمقاومة سيناريوهات الحل الاقتصادى أو الإدارة الأمنية التى طُرحت كبدائل سياسية، كما يجب منع أى فرض للأمر الواقع الإسرائيلي، ووقف الاستيطان وعمليات التهويد، وتثبيت الموقف الدولى والإقليمى الرافض لسياسة فرض الأمر الواقع.
برأيك.. ما الذى يعوق إجماعًا أوروبيًا على الاعتراف بالدولة الفلسطينية حتى الآن؟
هذا السؤال مهم جداً لأننا نلاحظ أن هناك تأخيراً فى عملية الإجماع الأوروبى على الاعتراف بدولة فلسطين، على الرغم من تصاعد الأصوات المؤيدة داخل أوروبا للاعتراف بالدولة الفلسطينية، ورغم أن بعض الدول الكبرى مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج قد خطت بالفعل هذه الخطوة.
ورغم ذلك يبقى الاتحاد الأوروبى عاجزاً عن اتخاذ موقف جماعى موحد، والحقيقة أن العوائق ليست مرتبطة بعدم اقتناع الأوروبيين بحق الشعب الفلسطينى فى دولته، فهذا الحق تعترف به الشرعية الدولية منذ عقود، وإنما تكمن المعضلة فى تشابك المصالح السياسية والاستراتيجية داخل القارة العجوز وتعاملاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، فدول كألمانيا والمجر والتشيك تخشى أن يُنظر إلى الاعتراف الأحادى كخطوة من شأنها نسف عملية السلام وتقويض مبدأ التفاوض المباشر، بالإضافة إلى حرص هذه الدول على علاقاتها الاستراتيجية العميقة مع إسرائيل كما ذُكر، سواء فى مجالات الأمن أو التكنولوجيا أو التاريخ السياسى المرتبط بالمحرقة، ومن زاوية أخرى، ما زالت الهيمنة الأمريكية تلقى بظلالها الثقيلة على القرار الأوروبي، إذ تتردد كثير من العواصم الأوروبية فى تبنى موقف مستقل يخالف واشنطن، خوفاً من أن يؤدى ذلك إلى إضعاف التنسيق الغربى فى ملفات أوسع كأوكرانيا أو الصين.
كيف تتحرك مصر لتفادى فرض حلول منقوصة أو القفز على حقوق الشعب الفلسطيني؟
مصر تدرك أن أى مسار للتسوية لا بد أن يحفظ الحقوق الوطنية الفلسطينية كاملة، ولذلك تتحرك على أكثر من مستوى لتفادى فرض حلول منقوصة أو القفز على حقوق الشعب الفلسطيني، وأثبتت القاهرة أنها تتحرك بوعى استراتيجى عميق لإفشال أية محاولة لفرض حلول منقوصة أو تسويات مشوهة تتجاوز الحقوق الأصيلة للشعب الفلسطيني، فهى تدرك أن جوهر الصراع لا يمكن اختزاله فى معالجات إنسانية أو اقتصادية، ولا يمكن القفز على قضايا السيادة والقدس واللاجئين.
ومن هنا ترتكز التحركات المصرية على عدة مسارات متوازية، منها التحرك الدبلوماسي، حيث تضع فى كل اتصالاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا والأطراف الإقليمية معادلة واضحة: لا دولة فلسطينية منزوعة السيادة، ولا حلول انتقالية أو مؤقتة، كما تؤكد القاهرة باستمرار أن أى مبادرة دولية يجب أن تلتزم بقرارات الشرعية الدولية، بجانب ذلك تلعب مصر أيضاً دور الوساطة بين الفصائل الفلسطينية، وتبذل جهداً كبيراً لتوحيد الصف الفلسطينى بحيث يذهب ممثلوه إلى أى مفاوضات بصوت واحد، بما يمنع الالتفاف على القضية، وفى الوقت نفسه، تبذل مصر جهوداً كبيرة لتهدئة الأوضاع فى غزة والضفة، لكنها ترفض أن تتحول التهدئة الأمنية إلى بديل عن الحل السياسى الشامل.
ما الذى تسعى القاهرة لتحقيقه عبر تدويل الملف فى المحافل الدولية؟
القاهرة تحاول من خلال تدويل الملف الفلسطينى فى المحافل الدولية الوصول إلى ما هو أبعد من مجرد تحريك دبلوماسي، فهى تدرك أن القضية دخلت مرحلة دقيقة، وأن أى تسويات منقوصة قد تعنى عملياً تصفية القضية، ومن ثم فإن هدفها الأساسى يتمثل فى إعادة تثبيت الحقوق الفلسطينية كقضية قانونية دولية، وليست مجرد نزاع سياسى إقليمي.
كذلك، تدرك القاهرة أن التدويل يمنحها غطاءً شرعياً ودعماً قانونياً لأى جهد عربى أو إقليمى لاحق، بحيث لا تبقى القضية رهينة المبادرات السياسية فقط، بل تصبح التزامات دولية على المجتمع الدولى يصعب تجاوزها أو تجاهلها.
إلى جانب ذلك، فإن القاهرة عبر هذا التوجه تعمل على إبقاء إسرائيل تحت ضغط سياسى وأخلاقى دائم، فلا يُسمح لها بتسويق ممارساتها كأمر طبيعي، بل تُواجَه بقرارات دولية ومسارات قضائية تفضح انتهاكاتها وتضعها فى خانة الدولة المارقة أمام الرأى العام العالمي.
كيف تقيّم تعامل الاتحاد الأوروبى مع القضية الفلسطينية مقارنة بالموقف الأمريكي؟
تقييم تعامل الاتحاد الأوروبى مع القضية الفلسطينية يختلف فى جوهره عن الموقف الأمريكي، سواء من حيث المرجعيات أو مستوى الانحياز، فمقارنة تعامل الاتحاد الأوروبى مع القضية الفلسطينية بالموقف الأمريكى تكشف عن فارق جوهرى بين منطلقات سياسية متناقضة.
فالاتحاد الأوروبى يتمسك نظرياً بمرجعية القانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة وحل الدولتين على حدود 1967 مع القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وغالبية دول الاتحاد ترى أن الصراع لا يمكن حله إلا عبر تسوية سياسية عادلة تضمن الحقوق الفلسطينية، أما الولايات المتحدة، فهى تحافظ دوماً على أمن إسرائيل أولاً، وتتعامل مع المسار السياسى كأداة لخدمة هذه النظرية، حتى مع إعلانها الصريح دعم حل الدولتين.
هل ترى أن هناك تغيرًا فى المزاج الأوروبى تجاه إسرائيل بعد الحرب الأخيرة على غزة؟
بالطبع، هناك تغير ملموس فى المزاج الأوروبى تجاه إسرائيل بعد الحرب الأخيرة على غزة، وهذا التحول ليس مجرد انطباع عابر، بل حقيقة أكدتها استطلاعات الرأي، فالحراك الشعبى والنقاشات الرسمية داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبى كانت تميل فى السابق إلى الحياد أو التعاطف مع الرواية الإسرائيلية، لكنها أصبحت اليوم أكثر انتقادًا لإسرائيل وأكثر انحيازًا لحقوق الشعب الفلسطيني.
إلى أى مدى يمكن أن تُترجم هذه التحركات إلى مكاسب سياسية على الأرض؟
من الممكن أن تترجم التحركات الدبلوماسية والسياسية، سواء على المستوى الإقليمى أو الدولي، إلى مكاسب سياسية ملموسة على الأرض بدرجات متفاوتة وفقاً لعدة اعتبارات، منها الضغط الدولى على إسرائيل، فكل خطوة اعتراف أو قرار برلمانى أو تحرك قانونى يضيف عبئاً سياسياً ومعنوياً على إسرائيل ويُقيّد هامش مناورتها فى المحافل الدولية، حتى وإن لم يؤدِ ذلك إلى حل فورى، لكنه قد يفتح المجال لمحاولات التغيير.
وقد تتسبب هذه التحركات فى رفع حالة الوعى العالمى بعدالة القضية الفلسطينية، مما يُضعف محاولات إسرائيل لتسويق روايتها ويعزز التضامن الشعبى والحقوقى الدولي، فعندما تتحرك دول أوروبية مؤثرة نحو الاعتراف بفلسطين، فهى تُحدث توازناً مع الانحياز الأمريكى التقليدى لإسرائيل، وهو ما يقلّص من قدرة واشنطن على فرض تسويات منقوصة.
كما أن الدعم السياسى الدولى يعزز ثقة الشارع الفلسطينى بأن قضيته ما زالت حية على الساحة العالمية، وهو ما يمنح القيادة الفلسطينية مساحة أكبر للمناورة داخلياً وخارجياً.
ومع ذلك، تبقى هذه المكاسب سياسية ومعنوية فقط، تحتاج إلى تفعيل عملى وقرارات ملزمة حتى تتحول إلى تغييرات واقعية على الأرض الفلسطينية.
هل من الممكن أن يفرض الاتحاد الأوروبى عقوبات على إسرائيل؟
تظل كلمة «عقوبات»، رغم صعوبتها، ورقة ضغط سياسية تزداد وجاهتها مع استمرار الحرب فى غزة وتصاعد الانتهاكات التى ترصدها المنظمات الدولية، غير أن مسار اتخاذ القرار داخل الاتحاد يكشف أن الوصول إلى عقوبات شاملة على إسرائيل ليس بالأمر السهل، وإنما يحتاج إلى تغيّرات جوهرية فى التوازنات السياسية والضغط الشعبي.
وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبى يمتلك آلية واضحة لفرض العقوبات، وقد استخدمها مراراً ضد روسيا وإيران وبيلاروسيا، أى أن الأداة موجودة وقابلة للتفعيل إذا توافرت الإرادة السياسية، فإن شرط الإجماع بين الدول الأعضاء يجعل القرار مرهوناً بمواقف دول داعمة لإسرائيل مثل ألمانيا والمجر والتشيك، التى تعرقل حتى الآن أى تحرك جماعى أو عقابى.

