في قلب القاهرة القديمة، حيث تختلط رائحة التاريخ بعبق البخور، وحيث الأزقة الضيقة تفضي دومًا إلى سرّ دفين من أسرار المدينة، وجدت نفسى أسير بخطوات متباطئة فى اتجاه واحد: مسجد السيدة فاطمة النبوية. كان اليوم يوافق ذكرى المولد النبوي الشريف، المناسبة التي تتغير معها ملامح الحارات والقلوب معًا.
انطلقت الرحلة من عند باب زويلة، البوابة العتيقة التي شهدت قرونًا من الفرح والحزن، والتي بدت في ذلك الصباح وكأنها تبتسم. الأعلام الملوّنة والزينة الورقية تتدلى من الشرفات، أصوات الباعة ترتفع بنداءات متداخلة، أطفال يركضون بأيدٍ ممدودة إلى الحلوى والعرائس السكرية. ورغم ضجيج الحياة الذي لا يفارق هذه المنطقة، كان داخلي إحساس مغاير: إنني في طريق إلى حضرة مختلفة، إلى مساحة نورانية تحمل اسم «أم اليتامى والمساكين».
ما إن انعطفت إلى حارة النبوية حتى بدا المشهد أكثر وضوحًا. المنازل القديمة تتراص في صمت، كأنها تفسح الطريق لوجهة واحدة، وفي نهاية الحارة ارتفعت أمامي الواجهة البيضاء الرخامية لمسجد السيدة فاطمة النبوية. على جدارها الخارجي، خطّت بآيات من القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾. كانت الآية تلمع تحت ضوء النهار وكأنها تقول: هنا مقام طاهر، هنا بيت من بيوت النبوة.
المسجد بدا كجوهرة خضراء بعد أن اكتسى بحلة جديدة. جدرانه نُقّيت وأرضياته رُخّمت بأحدث الطرز، والإضاءة الحديثة تحافظ على روح التراث مع لمسة عصرية أنيقة. في الساحات المحيطة به انتشرت أحواض الزرع والورود بألوانها البهيجة ورائحتها العطرة، وكأن المكان يتزين بنفسه لاستقبال الزوار.
اقتربت من البوابة، وكان لافتًا للنظر أن الحركة منظمة وهادئة. رجال الأمن على جانبي الباب يرحبون بالزوار، وعمال النظافة يمرّون بين حين وآخر يلتقطون ما يسقط من آثار، فلا فوضى ولا ازدحام. بدا الداخل كأنه يترك صخب القاهرة خلفه عند العتبة.
في الصحن الكبير، ومع ارتفاع صوت المؤذن لصلاة الظهر، ساد صمت مهيب. توقفت أحاديث النساء، وأغلق الباعة أفواههم، وأسرع المصلون إلى أماكن الوضوء ثم عادوا في صفوف منتظمة. حينها فقط شعرت أنني في حضرة جماعية لالتقاط أنفاس الروح.
بعد الصلاة توجهت العيون والقلوب نحو الضريح. كان ضريحًا من الحديد المزخرف بالزجاج الملون الأخضر، يبعث نورًا غريبًا يخترق المكان، فيوزع هالة روحانية تجعل من يقف أمامه يشعر أنه محاط بالسكينة. النساء اقتربن بعيون دامعة وبعضهن رفعن الأدعية بأيد مرتجفة، والرجال وقفوا متأملين يتلون الفاتحة بخشوع. الأطفال راقبوا المشهد بدهشة، كأنهم يتعلمون درسًا أول في المحبة والوراثة الروحية.
جلست بجوار الزائرات، وهناك سمعت حكايات تمس القلب. إيمان، سيدة شابة بعينين دامعتين، همست لي: «لم أكن يومًا من زوار الأضرحة. كنت أرفض حتى الصلاة في مثل هذه المساجد. لكني رأيت المسجد في منامي، رأيته واضحًا كأني أقف فيه. حين سألت عرفت أنه مسجد السيدة فاطمة النبوية. جئت مترددة، لكن بمجرد أن دخلت وجدتني أبكي بلا سبب. شعرت بنور يخترق قلبي. من يومها وأنا أعود كلما ضاقت بي الدنيا».
إلى جوارها كان يجلس الحاج مصطفى، رجل ستيني من شبرا، جاء بصحبة أولاده وأحفاده. قال: «أنا أزور المسجد كل عام في المولد. أوزع الحلوى على الأطفال كما كان يفعل والدي معي. أبي كان يقول: حب آل البيت هو حب للنبي نفسه. لم أفهم وقتها، لكن كلما كبرت أيقنت أن هذا الحب يسكن في دمي».
وفي ركن آخر، جلست أم محمد، سيدة صعيدية جاءت من أسوان، تحمل في صوتها قوة وفي عينيها شوقا. قالت لي: «أمي وجدتي كانوا يحكوا لي عن كرم السيدة فاطمة. قلت لازم أزور مقامها في المولد. لما دخلت حسيت إنها قريبة مني، كأني بحكي لها همومي وهي بتسمعني. خرجت وأنا مطمئنة كأني اتخلصت من جبل كان على صدري».
وبينما أنا أتأمل هذه الوجوه المضيئة، استوقفني مشهد مختلف. سيارة مرسيدس سوداء توقفت أمام المسجد، نزلت منها سيدة أنيقة بصحبة أبنائها الثلاثة، وسائقها يفتح صندوق السيارة. لم يأتوا خاليي الوفاض، بل حملوا صناديق ممتلئة بالحقائب. وزعوها على الداخلين والخارجين: كل حقيبة تحوي ملابس وظرفًا ماليًا، ومعها علبة من الأرز باللبن من محل شهير. ترددت همهمات الزوار: «دي نفحة من نفحات السيدة فاطمة.. أم المساكين».
لكن الموقف الأبسط هو الذي ترك في قلبي الأثر الأعمق. بعد الصلاة جلست أسبح، فتقدمت نحوي سيدة فقيرة المظهر تحمل بيديها علبة عصير وبسكويتة بالتمر. مدت إليّ ما تحمله بابتسامة هادئة. حاولت أن أرفض، لكنها قالت: «عيب تردي ضيافة أم الغلابة وإنت في مكانها». كلماتها اخترقتني، قبلت منها ما قدمت وجلست صامتة. أدركت أن العطاء ليس في قيمته المادية بل في صفاء القلب. شعرت أن السيدة فاطمة ترسل رسائلها عبر أبسط أبنائها.
في ثنايا هذه المشاهد تذكرت من هي صاحبة المقام. فاطمة النبوية ابنة الإمام الحسين وحفيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. تابعية جليلة ومحدثة ورعة، تلقت العلم من والدها وعمتها السيدة زينب وغيرها من الصحابة. وصفها المؤرخون بأنها كثيرة العبادة، متواضعة وكريمة، حتى لقبت بـ«أم اليتامى والمساكين»، إذ كانت أول من نظم رعايتهم في مصر. عاشت رحلة طويلة من الألم بعد كربلاء، ثم استقر بها المقام في مصر حيث نشرت العلم والكرم، حتى توفيت ودفنت في هذا المكان الذي صار شاهدًا على حب المصريين لآل البيت.
ومع الاحتفال بالمولد النبوي، بدا المسجد وكأنه يحتفل بنفسه. المدائح النبوية تتعالى في الساحة، الأطفال يمرحون بالحلوى، الرجال والنساء يرفعون الأدعية، والهواء مشبع بذكر النبي وحب آل بيته. كان حبًا لا يعرف التكلّف، بل حبًا متوارثًا يجري في الدماء.
مع غروب الشمس، جلست في ركن هادئ من المسجد. لم أطلب معجزة بعينها ولم أمد يدي إلى الضريح. كل ما شعرت به كان سكينة غامرة ومحبة تسري في عروقي. إحساس عميق بالتصالح مع نفسي، كأن شيئًا ثقيلاً انزاح. وجدتني أقرر أن أقف في محراب المسجد وأصلي ركعتين شكرًا لله وتقربًا إليه، شكرًا على أن ساقني إلى هذا المكان، وشكرًا على أنني خرجت منه بروح جديدة أكثر صفاءً وأقرب إلى المحبة.
كانت زيارتي لمسجد السيدة فاطمة النبوية رحلةً بين التاريخ والروح، بين الحديد والزجاج الأخضر الذي يعكس النور، وبين الورود التي تحيط بالمكان، وبين وجوه الناس الذين جاؤوا بدافع الحب. لم تكن مجرد زيارة، بل معايشة كاملة جعلتني أفهم بحق لماذا يسمونها «أم اليتامى والمساكين».
