يرتبط المصريون منذ قرون طويلة برابطة وجدانية، خاصةً مع مساجد وأضرحة آل بيت رسول الله (صل الله عليه وسلم)، تلك المقامات التى تنتشر فى ربوع البلاد، وتشكّل جزءًا أصيلًا من نسيجها الروحى والتاريخي. غير أن ما يميز القاهرة التاريخية على وجه الخصوص، هو احتضانها لعدد من أقدس هذه المقامات وأكثرها حضورًا فى وجدان الناس؛ من بينها مسجد السيدة زينب، ومسجد السيدة نفيسة، ومسجد الإمام الحسين، وغيرها من الأضرحة التى تحولت إلى محطات للسكينة والطمأنينة، وإلى بيوت روحية تلجأ إليها القلوب قبل الأقدام.
لم يكن ارتباط المصريين بهذه المقامات مجرد عادة، بل هو فعل حب ووفاء ممتد عبر الأجيال. فهم يتقاطرون على زيارتها فى مواسم وأيام مباركة؛ فى ليالى رمضان المضيئة، وفى ليلة الإسراء والمعراج، وفى المولد النبوى الشريف، يرفعون الأكف بالدعاء، ويتوسلون بكرامات آل البيت الأطهار، طلبًا للرحمة والفرج والبركة.
ومن بين المعالم الروحية التى يحتفظ بها وجدان المصريين، يبرز مسجد السيدة عائشة فى قلب منطقة مصر القديمة. ما إن يُذكر اسم «عائشة»، حتى يتبادر إلى أذهان الكثيرين أنها أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، غير أن الحقيقة مختلفة؛ فالضريح يعود إلى السيدة عائشة بنت الإمام جعفر الصادق بن محمدالباقر بن زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب، عليهم جميعًا رضوان الله. وقد لقبت بـ»أم فروة» تيمنًا باسم والدتها، وهو الرأى الأشهر بين المؤرخين. لكن توجد رواية أخرى تشير إلى أن الإمام جعفر الصادق لم يكن له ابنة تُدعى عائشة، وإنما ربما يكون الضريح لحفيدته.
وعن نشأة مسجد السيدة عائشة، فإن أقدم نص مكتوب يشير إلى أن جذوره تعود إلى العصر الفاطمي. فقد ورد أن فى هذا المشهد الفاطمى دُفنت السيدة عائشة، من ذرية الإمام جعفر الصادق، وذلك فى أيام الخليفة الآمر بأحكام الله ووزيره المأمون البطائحى عام 519هـ/1125م.
ومع مرور الزمن، جاء العصر المملوكى ليضيف صفحة جديدة فى تاريخ المكان، حيث قام الأمير حسام الدين لاجين، الذى شغل منصب «أمير آخور» أى المسؤول عن الإسطبلات السلطانية فى عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، بإنشاء مسجد ملاصق للمشهد الفاطمى عام 734هـ/1334م.
ثم انتقلت الراية فى العصر العثمانى إلى الأمير عبدالرحمن كتخدا، الذى قام عام 1176هـ/1762م ببناء مسجد جديد فى الموضع ذاته، ليحل محل مسجد لاجين. وقد سُجل هذا المسجد كأثر فى خرائط لجنة حفظ الآثار العربية قبل عام 1951م، وكان يحمل الرقم (378).
ومع تعاقب القرون وتبدل العصور، ظل المكان يحتفظ بقدسيته ورمزيته، إلى أن حلّ محله المسجد القائم اليوم المعروف بمسجد السيدة عائشة، الذى يقف شامخًا فى قلب القاهرة القديمة، شاهدًا على تطور العمارة الإسلامية فى مصر.
ولم تتوقف قصة مسجد السيدة عائشة عند حدود نشأته الأولى، بل ظل يحمل فى جدرانه حكايات ممتدة عبر الزمن، جعلته يتفرد بمكانة خاصة فى الذاكرة المصرية. فقد جرى اختياره ليكون على العملة المعدنية فئة 25 قرشًا، ليصبح المسجد الوحيد المطبوع على عملة مصرية رغم أنه غير مسجل كأثر رسمي.
وما إن تمر بجواره حتى تأخذك الدهشة من تفاصيله المعمارية الإسلامية البديعة، من زخارفه المملوكية الدقيقة إلى مئذنته الشامخة التى تميز ملامحه. غير أن الدهشة تزداد حين تعرف أن المسجد شُيّد من حجارة مسجد أثرى آخر، هو مسجد أولاد عنان الذى كان قائمًا فى موقع مسجد الفتح بميدان رمسيس.
ذلك المسجد القديم – مسجد أولاد عنان – كان قد بُنى فى عهد الخديوى عباس حلمى الثانى على يد لجنة حفظ الآثار العربية، وافتُتح للصلاة عام 1897م. لكن مع بزوغ فكرة إنشاء مسجد الفتح الكبير، تقرر تفكيكه عام 1969، وتم ترقيم أحجاره بعناية لتُعاد الاستفادة منها فى بناء مسجد جديد. واستغرق بناء مسجد الفتح عشرين عامًا، ليفتتح أخيرًا فى احتفال رسمى بليلة الإسراء والمعراج عام 1990.
أما أحجار مسجد أولاد عنان، فقد عادت للحياة من جديد حين استُخدمت فى تشييد مسجد السيدة عائشة، الذى احتفظ بروح الطراز المملوكى الإسلامي، مع فارق وحيد؛ إذ صار للمسجد مدخلان بدلًا من المدخل الواحد الذى كان يميز مسجد أولاد عنان.
من داخل رحاب مسجد السيدة عائشة، كان خالد إسماعيل، البالغ من العمر 57 عامًا، حريصًا على أداء فريضة الجمعة كل أسبوع. يقول بابتسامة يغلبها الحنين:
«أنا من صغرى باجى مسجد السيدة عائشة مع والدى الله يرحمه.. كنا نصلى ونقعد بعد الصلاة فى حلقة ذكر، نذكر فيها الله ونقرأ سورة يس».. يروى خالد تجربته وكأنه يحكى عن إرث عائلى انتقل إليه بالحب والقدوة، مؤكدًا أن المصريين اعتادوا أن يورّثوا أبناءهم عاداتهم الدينية، لتظل المساجد وأضرحة آل البيت جزءًا من حياتهم اليومية. ويشير بإعجاب إلى الطفرة الكبيرة التى تشهدها مساجد آل البيت فى السنوات الأخيرة، وخاصة مسجد السيدة نفيسة.
وعلى مقربة من الباب الخارجي، كان على حسين، 39 عامًا، يمر بجوار المسجد وقت صلاة الجمعة، فتوقف ودخل ليؤدى الفرض. يقول بدهشة ممزوجة بالفرح: «دى أول مرة أصلى فيها فى المسجد.. عارف مكانه من زمان، هو علامة من معالم القاهرة، لكن ما صادفش قبل كده أدخل أصلى فيه. لما صليت الجمعة حسيت براحة نفسية كبيرة، كأن المكان مليان روحانيات لا مثيل لها.»
وكانت عبير على 49 عامًا تتضرع بالدعاء أمام ضريح السيدة عائشة بأن يمن الله على زوجها بالشفاء، فقد سمعت من جيرانها أن الضريح معروف بلجوء راغبى الشفاء للدعاء بالضريح.
فيما عبرت منى عبدالخالق 35 عامًا عن سعادتها فى كل مرة تزور فيها مسجد من مساجد آل البيت، فهى من محافظة الفيوم وتنتهز كل زيارة إلى أقاربها فى القاهرة لزيارة مساجد آل البيت، فتقول: «بحس بروحانيات ملهاش مثيل فى مساجد الحسين والسيدة زينب والسيدة عائشة والسيدة نفيسة، وحسيت نفس الإحساس ده وأنا بعمل عمرة رمضان الماضى».
يقوم رضا محمد 50 عامًا بتوزيع المياه على المصلين والزائرين فى يوم الجمعة، ويقول إنه من سكان المنطقة ودائمًا ما يخدم المصلين فى يوم الجمعة بمسجد السيدة عائشة تقربًا لله عز وجل، ويأمل أن تنتهى اعمال التطوير التى يشهدها ميدان السيدة عائشة سريعًا حتى ينكشف الستار عن التجديد والتطوير فى المنطقة ويستطيع الجميع زيارة المسجد بسهولة بعدما أزالت الدولة العشوائيات التى كانت محيطة بالمسجد.
بينما كان الحج محمد فهمى 61 عامًا يجلس على كرسى فى إحدى الزوايا داخل صحن المسجد يتلو بعض آيات القرآن الكريم بصوت عذب لم يقطعه سوى أداء سجدة تلاوة، فقال: «قضيت نصف عمرى فى مسجد السيدة عائشة ما بين صلاة ودروس دين وحلقات قراءة قرآن وحلقات ذكر، لم أمل منه يومًا وأحرص على زيارة المسجد رفقة أحفادى كلما سنحت الفرصة وأروى لهم قصص الصحابة والتابعين ومن تبعهم حتى يدركوا حجم ومكانة مصر فى الإسلام».