مع استمرار حملات وزارة الداخلية لمواجهة المحتوى الهابط على منصة الفيديوهات «تيك توك» تكشفت العديد من القضايا، بعد أن أصبحت المنصة ملاذا لمقدمى المحتوى الهابط السيئ لتحقيق الربح السريع، وهم بدورهم أداة فى أيدى منظمى جرائم غسيل الأموال لتتحول المنصة الاجتماعية لمنصة للجرائم المنظمة.
يوم بعد الآخر يسقط مشاهير المنصة الهابطة فى حملات «الداخلية»، ليتم الكشف عن العديد من الجرائم ليتم محاكمتهم بآلية سريعة وتُعلن فيها منظومة الأمن والقضاء عن التصدى بقوة لكافة أشكال المحتوى الهابط والجرائم الإلكترونية عبر منصات التواصل الاجتماعى فى الفضاء الإلكترونى.
«المصور»، التقت المهندس الدكتور عمرو صبحى، خبير أمن المعلومات والتحول الرقمى، ليشرح لنا تفاصيل الربح السريع وجرائم غسيل الأموال على منصة «تيك توك»، ويقدم الحلول الممكنة لمواجهة جرائم المنصة الأشهر فى العالم، وكيفية التحكم فى محتواها، وكان الحوار التالى:
بداية.. كيف تحول تطبيق «تيك توك» من منصة للتواصل الاجتماعى إلى مصدر للربح والشهرة السريعة؟
الحديث عن منصة «تيك توك _ Tik Tok» لم يعد مجرد نقاش حول تطبيق ترفيهى فقط، بل أصبح قضية تمس الأمن القومى والمجتمعى معًا، فالمنصة تحولت فى فترة وجيزة إلى ساحة للربح والشهرة السريعة من خلال طرق مشروعة وغير مشروعة، وذلك بسبب خوارزمياتها التى تعزز الانتشار اللحظى للمحتوى القصير، وهو ما جعلها بيئة خصبة للباحثين عن المشاهدات حتى ولو عبر محتوى هابط و متدن أو غير أخلاقى.
وأريد أن أشير هنا إلى أن منصة «تيك توك» أتاحت عبر آلياتها عددا من آليات للربح مثل «تيك توك كوينز» والهدايا الافتراضية، وهى ما يتم إرسالها للتيك توكر فى البث المباشر و الفيديوهات، على أن يتم تحويلها عبر الحسابات البنكية إلى أموال حقيقية أو خدمات الدفع الرقمية، ومن هنا نجح هؤلاء المشاهير عبر محتواهم الهابط فى تحقيق الشهرة وفى الوقت ذاته الربح السريع.
ما الفارق بين الـ«تيكر توكرز»، والبلوجرز واليوتيوبرز والمؤثرين؟
الـ«تيك توكرر» يعتمد على مقاطع قصيرة جدًا مرتبطة بالتريند اللحظى أتاحه تطبيق «تيك توك» حتى وإن تضمن محتوى هابطا أو خادشا للحياء أو حتى لايليق مع قيم المجتمع، وبالتالى نجح هؤلاء فى تحقيق شهرة وربح سريع وتجاوز متابعوهم وأرباحهم الملايين حتى دون جهد أو تسويق لهذا المحتوى، والأمر يختلف تماماً عن البلوجرز واليوتيوبر، فبينما البلوجرز يقدمون محتوى أكثر عمقًا، واليوتيوبرز يعملون على فيديوهات طويلة تحتاج وقتًا فى الإنتاج، وتقدم محتوى متفردا ولا تسمح المنصة بمحتوى هابط، صحيح أنه يمكنك تحقيق ربح عبر المنصات الأخرى لكن يلزم تقديم محتوى ذى مواصفات وهناك التزامات يتم فرضها بالمنصة، وبالتالى لم يظهر هذا القبح فى المحتوى من قبل على هذه المنصات، لأن إدارة هذه المنصات لها سياسات فى المحتوى يتم التعامل معها بحيادية، ولهذا يصعب وجود محتوى هابط، على عكس إدارة منصة «تيك توك» فكثيرًا من الـ «تيك توكرز» انجرفوا نحو إنتاج محتوى صادم وسلبى لأن المنصة تكافئ هذا النمط بالانتشار والأرباح.
إذن.. كيف يحقق المحتوى الهابط والسيئ هذا الكم الهائل من العائدات؟
أرباح المحتوى تأتى من عدد من المصادر الرئيسية والمشروعة كالإعلانات المباشرة، والهدايا الافتراضية التى يرسلها المتابعون فى البث المباشر والفيديوهات، هذا إلى جانب العقود التجارية مع بعض العلامات، وكلما ارتفعت المشاهدات ارتفعت معها العائدات، مما شجع على إعادة إنتاج المحتوى الهابط بكثرة، وهى أشكال للربح بشكل رسمى ومشروع ويمكننا أن نتتبعه، وفى المقابل هناك أرباح غير مشروعة من خلال شراء عملات «تيك توك» ثم إرسالها كهدايا لمجموعة من الحسابات وطبعا بعد الاتفاق مع هذه الحسابات وأغلبها حسابات وهمية، ورغم أنها أموال غير مشروعة لكن عندما يسحبها مستخدم «تيك توك» تتحول لربح مشروع ناتج عن نشاط رقمى متمثل فى صناعة محتوى على منصة إلكترونية.
حملات وزارة الداخلية كشفت عن الأنشطة غير المشروعة عبر المنصة.. لماذا سهلت منصة التيك توك هذه النوعية من الأعمال؟
الحملات الأمنية الأخيرة فى مصر أثبتت أن منصة «تيك توك» أصبحت بما لايدع مجالًا للشك أداة لجرائم غير مشروعة فى صدارتها جرائم غسيل الأموال، فقد وفرت المنصة أنظمة دفع وهدايا افتراضية سهلة عملية غسيل الأموال، فسمحت بتمرير الأموال المشبوهة وتحويلها إلى أموال «نظيفة» عبر المنصة، وهو ما استغله البعض فى أنشطة غير قانونية، فالمنصة لديها إمكانية لتحويل الأموال الحقيقية إلى رصيد رقمى يتم إرساله فى شكل نقاط أو هدايا رقمية والتى تبدأ من «الوردة والباندا» وصولاً لـ«الأسد والسيارة الذهبية»، ولتحويل هذه الهدايا إلى أرباح يتم تحويلها إلى ماسات لتتحول بعدها إلى أموال حقيقية، فـ«الأسد والسيارة الذهبية» يصل سعرهما إلى 99 دولارا، والباندا بـ 0.041 دولار، والتايجر 66 دولارا.
كما أن استغلال المنصة فى جرائم إلكترونية ظاهرة عالمية ففى الولايات المتحدة وأوروبا شهدنا جرائم استدراج وابتزاز إلكترونى، بينما الهند ذهبت إلى الحجب الكامل للمنصة بسبب انتشار محتويات غير أخلاقية وأنشطة تجسس، أما فى جرائم غسيل الأموال، فقد استخدمت الهدايا الافتراضية كأداة مثالية لغسل مبالغ ضخمة بآليات يصعب تتبعها.
لماذا تنشط الجرائم على منصة «تيك توك» تحديداً؟
نشاط هذه الجرائم على «تيك توك» تحديدًا يعود إلى أن جمهورها الأكبر من المراهقين وصغار السن، مع ضعف الرقابة والوعى، وهذا جعلها بيئة مثالية للمجرمين الرقميين، وهو ما أثار المخاوف العالمية من المنصة، تتوزع بين مخاوف أمنية تتعلق بالبيانات والسيادة الرقمية، ومخاوف أخلاقية مرتبطة بالمحتوى، وأخرى نفسية نتيجة إدمان المراهقين والشعور بالدونية بسبب المقارنات المستمرة، فخطورة هذه المنصات لا تتعلق فقط بالجانب الأمنى أو الاقتصادى، بل تمتد كذلك إلى البُعد الثقافى والأخلاقى، فالمواطن المصرى نشأ على منظومة من العادات والتقاليد الراسخة التى تقوم على الاحترام الأسرى والقيم الدينية والاجتماعية، بينما المحتوى المستورد من دول أخرى يعكس أنماطًا مختلفة تمامًا، نابعة من مجتمعات لديها انفتاح أخلاقى واسع لا يشبه طبيعة المجتمع المصرى، وهذا التباين يمثل تهديدًا مباشرًا للتربية الأخلاقية للأبناء، فيترسخ فى عقول المراهقين سلوكيات دخيلة لا تتماشى مع هويتنا الثقافية، وحماية الهوية المصرية والقيم الأسرية أمر أساسى لا يقل أهمية عن حماية الأمن القومى.
كيف كان الوضع العالمى فى التعامل مع منصة «تيك توك» بعد ما أثرته من مخاوف؟
العالم تعامل مع المنصة بطرق مختلفة فالولايات المتحدة دخلت فى صراع منذ اليوم الأول بسبب قضية البيانات، أما القارة الأوروبية فشددت القيود، والهند اختارت قرار الحجب الكامل للمنصة، أما فى مصر فجاءت المواجهة عبر حملات وزارة الداخلية التى كشفت الوجه القبيح للمنصة.
كما أن المنصة أثارت مخاوف العالم أجمع وتحديداً فيما يتعلق بالخصوصية والأمن الرقمى، فالمنصة قادرة على جمع كم هائل من البيانات، بجانب سجل التصفح وأنماط التفاعل مما يجعلها أداة قوية لبناء ملفات شخصية دقيقة عن المستخدمين، كما أنها أثارت مخاوف انتهاك الملكية الفكرية باستخدام مقاطع الموسيقى والفيديوهات دون ترخيص كامل، وإدمان الاستخدام كأحد أهم المخاوف، فالخوارزميات التوصية الشديدة القوة تجعل المستخدمين يقضون ساعات طويلة بما يمثل تأثيرا سلبيا على الصحة العقلية.
المواجهة لهذا المحتوى الهابط كيف تكون.. حجب أم منع أم ماذا؟
المواجهة لا يجب أن تقتصر على الحجب، فالمشكلة أعمق من ذلك، الحجب قد يدفع الجمهور إلى بدائل أخطر، بينما الحل الحقيقى هو التشريعات القوية، والتعاون الدولى مع المنصات، بجانب رفع الوعى المجتمعى، فالحرية مسئولية، وضبط المحتوى لا يعنى تقييد الرأى، بل حماية المجتمع من تهديدات خطيرة.
ماذا يلزمنا من التشريعات لضبط استخدام المنصات الرقمية؟
المواجهة تحتاج إلى شقين الأول أمنى وتشريعى لضبط المنصات والأنشطة غير المشروعة، والثانى ثقافى وتربوى لبناء جيل واعٍ رقميًا، فالتربية الرقمية يجب أن تبدأ من البيت والمدرسة، مع دعم المؤسسات الإعلامية والتعليمية لنشر ثقافة «المسئولية الرقمية»، على أن يتم دعم صناع المحتوى الهادف وتمكينهم من المنافسة على نفس المنصات، حتى يجد الشباب بديلًا جادًا عن التفاهة والسطحية.
كما نحتاج تشريعات خاصة بتنظيم الربح والضرائب من الأرباح المتحققة من المنصات الرقمية، فعديد من صناع المحتوى يحققون أرباحاً بالعملة الأجنبية من هذه المنصات، وفى الوقت ذاته لايوجد آلية واضحة للتعامل الضريبى مع هذه الدخول الدولارية، فلابد من وجود تشريع واضح يحدد نسب الضرائب وشروط إخضاع أموال صناع المحتوى على المنصات الرقمية للتعامل الضريبى بما يحفظ حق الدولة ماليا دون التأثير على دخولهم، ورغم أن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات 2018 نجح فى تغطية بعض الجرائم لكنه لم يتطرق إلى جرائم غسيل الأموال عبر الهدايا الرقمية وعمليات تحويل الأموال من أموال حقيقية إلى رقمية ثم أموال حقيقية على منصة «تيك توك».

